“مُحاكمة ملاديتش”.. العدالة لضحايا جزّار البوسنة ولو بعد حين

قيس قاسم

 

مُحاكَمة الجنرال الصربي راتكو ملاديتش الملقب بـ”جزّار البوسنة” والمسؤول عن المجازر الرهيبة المرتكبة ضد مسلمي البوسنة إبّان ما صار يُعرف بـ”حرب البلقان”؛ طالت سنوات، لكنها في النهاية حققت العدالة وأعادت الاعتبار إلى الضحايا وأحلّت السكينة في قلوب أحبتهم، فالمحكمة وبكل رمزيتها ودلالاتها القيمية شكلت علامة بارزة في تاريخ المحاكم الدولية.

ولتوثيق مجريات هذه المحاكمة تطلّب من صُنّاع الوثائقي البريطاني النرويجي المشترك المعنون “مُحاكَمة راتكو ملاديتش” ملاحقة مراحلها والقيام بفحص أبرز نقاط الاختلاف الجوهرية بين فريقي “الادّعاء” و”الدفاع”. وهي مهمة تطلبت من المخرجيْن هنري سينجر وروب ميلر المشاركة كمراقبين في مهام تقصّي حقيقة ما جرى في البوسنة من فظاعات وانتهاكات لحقوق الإنسان وكرامته، كما اشترطت المشاركة أيضا مرافقة تحركات المسؤولين المكلفين فتح ملفات التحقيق الجنائي من جديد.

جهد سينمائي كبير أعاد دون قصد فتح جروح الناجين من المجازر، والعودة بذاكرتهم وذاكرة أهالي الضحايا إلى الوراء؛ إلى ماض كان لا بدّ من تقليب صفحاته تجاوبا مع مسار مُحاكمة أُريد لها أن تُنهي فصلا من المظالم.

 

صور المذابح.. ودلالات الأرقام

يعرض الوثائقي في مُفتتحه مَشاهد مصورة من حرب البلقان ليقرب فظاعتها إلى المتفرج، ويُشعره بأهوال ما تعرّض له الناس الأبرياء خلالها، ومعها يُثبّت بعض الأرقام الدالة على أهمية المحكمة وخطورة التهم الموجهة إلى الجنرال الصربي ومن معه.

يُعيد التذكير بأن عشرين عاما قد فصلت بين عقد أولى جلسات مُحاكمة الجنرال ملاديتش في لاهاي وبين اندلاع حرب البلقان التي راح ضحيتها أكثر من 130 ألف إنسان، وهُجّر خلالها قرابة 4 ملايين مواطن من ديارهم.

استمرت أعمال المحكمة الدولية مدة 530 يوما استُدعي إليها قرابة 600 شاهد، وخلالها جمع الادعاء العام عشرات الآلاف من أدلة الإثبات، ووجهت إلى المتهم الرئيسي فيها 11 تهمة من بينها ارتكاب جرائم إبادة بشرية، ومجازر جماعية وتصفيات عرقية، وكانت مجزرة سربرينيتسا التي قتل فيها أكثر من 7000 مسلم بوسني من بين أكثر الدعاوى المعروضة أمامها.

أهالي الضحايا الذين لم يتسنّ لهم وقتها معرفة ما جرى لأحبتهم يرافقون فريق الادعاء العام لجمع الأدلة

 

سجالات الادعاء العام والدفاع

ستظل كاميرات الوثائقي وطيلة زمنه (99 دقيقة) تتنقل بين الأماكن والدول وفق تصاعد سجالات الادعاء العام وفريق الدفاع عن المتهم، كل طرف يقدم ما عنده، ولمعاينة ما يجمعه الفريقان من أدلة يضطر الوثائقي إلى المشاركة المباشرة في تفاصيلها.

مرافقة مؤلمة كونها تُعيد صور ما جرى بوضوح أكبر، وهذه المرة بوجود أهالي الضحايا الذين لم يتسنّ لهم وقتها معرفة ما جرى لأحبتهم. وبالنسبة للطرف الثاني/الدفاع، فالتقرب الحاصل يعني لهم فضح ما حاولوا نكرانه طيلة أكثر من عقدين من الزمن.

في تسجيلات نادرة يظهر الجنرال متباهيا بصربيته وقناعته الكلية بأن صرب البوسنة هم السكان الأصليون للبوسنة

 

تاريخ “الجزّار البشري”

يلجأ الوثائقي إلى وسيلة ديناميكية يحافظ بها على موضوعيته وعلى حرصه ليكون شاهدا على مُجريات محكمة أريد لها أن تكون علامة بارزة في تاريخ العدالة، ولمعرفة شخصية المتهم الرئيسي وتقديم تفاصيل أكثر عن تكوينه المهني والنفسي؛ يجمع صُناع الوثائقي مادة أرشيفية فيلمية مذهلة في دلالاتها وشدة ارتباطها بالتهم الموجهة إلى المتهمين الأساسيين فيها.

لم يُسَلم راتكو ملاديتش نفسه إلى المحكمة مباشرة بعد انتهاء حرب البلقان ولا أثناءها، بل ظل مختفيا لمدة 11 عاما، وبعد إلقاء القبض عليه نُقل إلى محكمة لاهاي، ليواجه هناك تهما طالما حاول نكرانها، ويحاول في المحكمة الفريق المكلف الدفاع عنه تبرئته من مسؤولية الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات حرب البلقان.

وفي تسجيلات نادرة يظهر الجنرال فيها متباهيا بصربيته وقناعته الكلية بأن صرب البوسنة هم السكان الأصليون للبوسنة، أما البقية فهم هجين “عثماني”، فبعد تقسيم يوغسلافيا رفض استقلال مسلمي البوسنة وأصرّ على إبقائهم ضمن الجمهورية السابقة، وأسس لهذه المهمة جيشا صربيا أطلق عليه اسم “الجيش الجمهوري الصربي”، فهذا الكيان العسكري والميليشياوي هو من سيقوم بإشعال الحرب ومحاولة إبادة بقية الأعراق والأجناس.

صورة مُعلقة تجمع كافة صور من قُتل على يد جزّار البوسنة من البوسنيين

 

حين يحاكم الناجون جزّارهم

في العام 1992 قرر راتكو ملاديتش طرد الكروات والبوسنيين من أراضيهم عبر عملية عسكرية مدروسة بدأت بتهجير العوائل من بيوتها وقراها، فإستراتيجيته تبدأ بالتهجير وتنتهي بتصفية الرجال والصبيان عن بكرة أبيهم.

لم يتخيّل “جزّار البوسنة” أن الناجين من مجازره سيأتون إلى المحكمة ويدلون بشهادات تدينه وتكشف دوره، فالحرص على جمع وثائق مصورة عن كل شاهد رئيسي هي من بين أهم ما يميز اشتغال الوثائقي المبهر، فقد حرص على توثيق الشهادات وإرفاقها بملفات تتضمن مواد فيلمية عن كل شاهد مهم فيها، وبذلك الجمع حافظ الوثائقي على مصداقيته وقوة حضوره كشاهد محايد.

ومن بين الشهود شاب بوسني يتذكر ويسرد أمام المحكمة تفاصيل اللحظات الأولى لهجوم الجيش الصربي على مسجد كان والده حينها يصلي فيه، فتفاصيل ما يذكره الشاب تُدمي القلب وتعزز حقيقة الدور الذي قامت به قوات الجنرال.

وفي المقابل اتخذ الدفاع إستراتيجية اعتمدت على إخلاء مسؤولية الجنرال الشخصية عمّا حصل بالفعل، وهي نقطة دفاع محورية لو تمكنوا من إقناع القضاة بها لانتقل مسار القضية برمتها إلى مستوى آخر يكون فيه المتهم طرفا غير مشارك مباشرة بالجريمة، وإحالة الذنب على بعض من قادة قواته وجنودهم.

المقابر الجماعية تشكل واحدة من الأدلة الداعمة للادعاء العام في وقوع المجازر

 

مقابر جماعية.. تنقيب على المجازر

تشكل المقابر الجماعية واحدة من الأدلة الداعمة للادعاء العام. ولإثبات وقوع المجازر ودفن ضحاياها في حُفَر طمسا للحقيقة يُصرّ فريق الادعاء على الحفر ثانية والبحث عن الجثث في المناطق القريبة من سربرينيتسا، في عمليات تفتيش وتنقيب مضنية لكنها موفقة، فقد توصل البحث إلى مواقع دُفن تحتها مدنيون أغلبيتهم أُعدموا برصاص أطلقه جنود ملاديتش على رؤوسهم من الخلف.

وحصل الفريق على تسجيل نادر يظهر فيه أسير بوسني يُجبَر على منادة ولده المختبئ في الأحراش، والذي ما أن يظهر بعد اطمئنانه حتى يتقدم من خلف والده جنود صرب يقومون بقتله وقتل ولده معا.

مشهد تقشعر له الأبدان ومع ذلك حاول الدفاع إحالة الأمر وتفسيره كسلوك انتقامي ورد فعل على ما قام به البوسنيون المسلمون من أعمال ضد أجدادهم. التعكز على التاريخ لم ينفع الدفاع كثيرا، بل استغله الادعاء لتأكيد الدوافع المبطنة للقتل والتهجير.

الناجيات المسلمات والأمهات الثكالى كل واحدة منهن تقريبا فقدت زوجا أو ولدا

 

أمهات ثكالى وناجيات مُعذبات

محاولات دعم أدلة الإدانة ونقضها من قبل الدفاع يفتحان طيلة زمن المحاكمة فضاءات جديدة يمكن من خلالها رؤية التناقض الحادّ بين الأطراف المتصارعة، وتثبت حقيقة أن الناجين هم الطرف الدائم التألم الذي تزداد مواجعه على واقع ما تفرزه السجالات من معطيات وبراهين.

يظهر الألم جليا على النساء خاصة، فالناجيات المسلمات لم ينجين من وجع الخسارات الكبيرة، فكل واحدة منهن تقريبا فقدت زوجا أو ولدا.

الأم الثكلى عنوان بارز في مسار الوثائقي، فاستدعاؤهن واستجوابهن يعيد ويسترجع صدى ماضٍ مؤلم، وأحزان لم تنته. جروح تُفتح، لكن الرغبة في تحقيق العدالة يعينهن على تحمل ما يحرق قلوبهن الكسيرة، فكل شهادة مدعومة بالعيّنات المكتشفة تثبت ضلوع ومسؤولية الجنرال، وتعطي أيضا أملا لكثيرين بالعثور على أحبة مفقودين ولو بعد حين.

“محاكمة راتكو ملاديتش” تُوثق لحظة تَعرّف كثير من العوائل المسلمة على أقارب لهم اختفوا خلال الحرب

 

تعاطف مع البطل القومي

يوثق “محاكمة راتكو ملاديتش” لحظة تَعرّف كثير من العوائل المسلمة على أقارب لهم اختفوا خلال الحرب، فالتعرف على مصائر مجهولة يفتح نوافذ على المشهد التراجيدي، ويجلي حقائق مجهولة عمّا جرى للمسلمين في البوسنة بمنظور سينمائي واسع محايد، مثل الاختفاء الطويل لملاديتش.

فعل يفسر جانبا من خفايا الصراع في البلقان، راح الوثائقي لرصده إلى القرية التي ولد فيها، وذلك في يوم احتفالي ظهر أولاده فيه مع والدتهم. كلامهم يفسر الانحياز القومي والإثني للصرب، ويفسر سرّ بقاء رجل مطلوب إلى العالم كله بعيدا عن الأنظار لعدة سنوات، فالجنرال بالنسبة إليهم بطل قومي، والتعاطف معه ليس قليلا، والانحياز إلى أفكاره ما زال قويا.

شهدت “معارك” المحاكمة منعطف استدارة حادة في صالح فريق الادعاء، يتمثل في فشل الدفاع في الحصول على شهود مستعدين للحضور للمحكمة وتقديم شهادة تعزز من فكرة أن الجنرال لم يساهم في القتل مباشرة، فمع كل ما قدمه الوثائقي من مشاهد وحوارات تؤكد شعبيته بين الصرب البوسنيين، فإن قناعة أغلبية منهم بأن ما جرى لا يمكن إنكاره بشهادة شخصية مهزوزة، ومع ذلك أصرّ فريق الادعاء على عدم ترك أي ثغرة يمكن للدفاع النفاذ منها.

مقابر جماعية في قرية سربرينيتسا التي يُضاف اسمها إلى أسماء المناطق المنكوبة

 

الموت في كل مكان

لم يكتفِ المدعي العام بالذي عثر عليه من أدلة ومقابر جماعية، بل راح يُنقّب عن المزيد منها في أماكن أخرى غير معروفة للعالم. مناطق إبادة مكتشفة حديثا تعزز من قناعة القضاة بالدور الذي لعبه الجنرال بنفسه فيها.

وطلب الفريق من المحكمة إذنا بالحفر والبحث تحت حطام منجم حديد قديم في قرية توماسيشتا التي سيُضاف اسمها إلى أسماء المناطق المنكوبة، فالجثث التي تم العثور عليها لم تنحصر بالرجال فحسب، بل تعود لأطفال ونساء تم قتلهم ودفن بعضهم أحياء تحت تلال قريبة من المناجم، كما قاد توسيع البحث إلى اكتشاف مقابر جماعية متناثرة في المكان نفسه.

فريق الادعاء يتقدم إلى المحكمة بمرافعته النهائية مزودا بآلاف الأدلة والشهادات الشخصية التي تُدين ملاديتش

 

المرافعة النهاية

مزودا بآلاف الأدلة وشهادات شخصية لا يطالها الشك، تَقدّم فريق الادعاء إلى المحكمة بمرافعته النهاية، أما الدفاع فتحجج بمرض المتهم كسبا للوقت، لكن ذلك التكتيك لم ينفعهم، فحتى انسحاب موكلهم من الجلسة الأخيرة بحجة تعرضه لنوبات قلبية لم يؤجل سير عملها، ولم يعطل النطق بالحكم النهائي المسنود على مجموعة تهم موجهة ضد ملاديتش، من بينها إعطاؤه الأوامر والمشاركة في أعمال إبادة جماعية وتصفية عرقية وتهجير وتعذيب الملايين، وذلك بعد ثبوت تورطه بها حكمت عليه المحكمة الدولية المُقامة بإشراف الأمم المتحدة بالسجن مدى الحياة.

لم يخفِ الناجون وأهالي الضحايا فرحتهم بالقرار مقابل خيبة أمل الدفاع، ففي النهاية ورغم الأحزان والخسارات المريرة حققت العدالة لهم مطلبهم، وزجت بـ”جزّار البوسنة” في غياهب السجون مدى الحياة.