“إسعاف”.. عربات النجدة تنطق بأوجاع غزة خلال الحرب

شاءت الصدف أن تندلع حرب غزةّ في صيف عام 2014، في نفس اليوم الذي كان من المفترض أن يبدأ به الشاب الفلسطيني محمد الجبالي تصوير أحد المستشفيات الحكومية في المدينة الفلسطينية، بتكليف من إدارة المستشفى نفسه لأغراض دعائية تخص ما تقدمه من خدمات.

وبدل أن يعود الجبالي إلى بيته مع اشتداد وطأة الحرب الإسرائيلية، فإنه يطلب من إدارة المستشفى بأن تسمح له بمرافقة إحدى عربات الإسعاف التابعة لها ليصورها أثناء عملها اليومي في تلك الأوقات الاستثنائية.

من تلك المادة المصورة جمع المخرج الشاب فيلمه الوثائقي القاسي “إسعاف” الذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان “إدفا” للسينما الوثائقية، وقبلها في مهرجان “شفيلد” المرموق للسينما الوثائقية في بريطانيا.

سيارة الإسعاف.. زاوية جديدة لتصوير الحرب

ينتمي فيلم “إسعاف” إلى السينما التسجيلية التي تولد بلا تخطيط، وتكون استجابة عفوية لأحداث عامة عاصفة، وتكتسب أحيانا –كما هو الحال في هذا الفيلم– أهمية مضاعفة لأسباب تتعلق بالنافذة التي تفتحها على الحياة اليومية في مدينة غزة الفلسطينية التي كانت معزولة عن العالم تقريبا أثناء الحرب.

المخرج محمد الجبالي، إلى اليسار، وطاقم سيارة الإسعاف في غزة

تتميز الصور التي وصلت إلى فيلم الجبالي عن السائد من التغطيات الإعلامية التلفزيونية في حرب غزة، بشاعريتها أحيانا واختلاف زوايا تركيزها، فبينما تجنح الصور التلفزيونية إلى الذهاب مباشرة إلى ما تعتبره الحدث العام الذي يستحق أن يصل إلى تغطياتها، يتميز الجبالي بمقاربته المتأنية بشكل عام للأحداث.

كان سر تميز الفيلم أنه نابع من قلب التجربة لجهة الصور التي صورها تلك الأيام للدمار بأشكاله المتنوعة، وللحظات الهشاشة الفلسطينية الجماعية، وعدم الاكتفاء بمشاهد الدم العنيفة، رغم أهمية هذه أيضا من أجل المشهد العام الذي يحاول الفيلم أن يستذكره.

مقاومة الصورة.. أوجاع تفوق طاقة الكاميرا

ينقضي كثير من وقت الفيلم داخل عربة الإسعاف، وهي تتنقل بين المستشفى ووجهاتها في المدينة المظلمة الموحشة التي تعرضت للتو لضربات سلاح الجو الإسرائيلي، لكن الكاميرا استطاعت أن تجود بمشاهد تتميز بسعة المشهد الذي تعرضه للدمار الذي خلفته الحرب في المدينة، لتشكل توطئة للمخرج لسرد قصة هذا الفيلم.

يصف المخرج علاقته بالكاميرا بالشغف، لكن سيتحول حمله الكاميرا أثناء الحرب إلى الفعل الوحيد المقاوم والأقرب إلى روح الشاب، رغم أن ما سيراه ويشهد عليه قد يكون فوق طاقته أحيانا، فتراه يقرر بعد أيام من الحرب التوقف عن التصوير، وهو الأمر الذي سيكشفه بشفافية لمشاهد فيلمه.

عدسة مفتوحة على الألم الجماعي.. حيوية الفيلم

يدون الفيلم إيقاعه على الحركة السريعة لسيارة الإسعاف، بعد محاولة باءت بالفشل بمحاورة أعضاء فريق عربة الإسعاف، إذ أنهم يرتبكون أمام أسئلة المخرج النمطية عن مشاعرهم وهم يقومون بهذا العمل في ظروف استثنائية.

وبالإضافة إلى ما تكشفه من فظائع حدثت أثناء حرب كان جلُّ ضحاياها من المدنيين ستمنحه سيارة الإسعاف حيوية تعد نادرة في الأفلام التسجيلية العربية، إذ كان على المخرج مجاراة الحركات السريعة لعربة الإسعاف وهي تقطع الشوارع الخالية.

بينما ستشكل أزمان تحميل المصابين وعوائلهم في عربة الإسعاف، ووصولهم بعدها إلى قاعات المستشفى؛ اللحظات التي يترك فيها المخرج عدسته مفتوحة على الألم الجماعي.

عجوز مغطاة بالتراب والدماء.. مشاهد الطوارئ الصعبة

يحفل فيلم “إسعاف” بمشاهد تصعب مشاهدتها، كما هو الحال في جميع الأفلام التي صُورت في قاعات طوارئ المستشفيات في أوقات الحرب، ورافقت شخصيات وهي تواجه الظروف الأكثر في صعوبة في حياتها.

ومن تلك المشاهد الصعبة على وجه الخصوص تلك اللحظات التي يتفجر فيها حزن مدنيين فلسطينيين سمعوا للتو بمقتل أحبائهم، أو تلك التي تظهر جرحى مثل تلك السيدة المتقدمة بالسن التي وصلت مغطاة تماما بالدماء والتراب.

فيلم “إسعاف” لمخرجه “محمد الجبالي” ينتمي إلى السينما التسجيلية التي تولد بلا تخطيط

إلى جانب هذه المشاهد هناك مشاهد أخرى لم نر مثيلاتها في التغطيات التلفزيونية لحرب غزة الأخيرة، كالمشهد الذي يظهر طابورا طويلا من النساء والأطفال يتركون المنطقة التي كانوا فيها بعد أن ضربتها طائرة إسرائيلية، وهذا مشهد لا يختلف كثيرا على الأرجح عن هجرات جماعية حصلت هربا من العنف عبر التاريخ.

جماليات الصورة السينمائية.. مهرب من مزاحمة الصحافة الدولية

وصلت كاميرات التلفزيون والصحافة سريعا إلى المستشفى التي كان يصوره الجبالي، وسيزاحمون المخرج الشاب للحصول على صور لمحطاتهم التلفزيونية وصحفهم، حتى غدا أحيانا من الصعب تصوير أي مشهد داخلي دون أن يظهر في الإطار عشرات الصحفيين.

لا يخفي المخرج تذمره من هجمة الصحافة تلك، ويركز في المقابل على تصوير مشاهد من سيارة الإسعاف التي لم يكن ينافسه عليها أحد.

لقطة من الفيلم لسيارة إسعاف تعاني من صعوبة في الوصول لإنقاذ الجرحى

ينتفع الفيلم كثيرا من تخلصه من ثقل استعادة الحرب بشكل تقريري، واحتفائه بجماليات الصورة السينمائية ذاتها، وهي التي ستمنح هذا الفيلم ديمومة طويلة.

رغم أن المخرج الشاب توقف عن مرافقة عربة الإسعاف قبل أيام من نهاية الحرب الإسرائيلية، فإنه سيستمر في توثيق الحرب وآثارها على المدينة المنكوبة، فيصور في هذا الخصوص تجمعا لمدنيين ينتظرون العودة إلى حيهم المدمر.

سائق الإسعاف والطفلة المتطلعة.. أقوى مشاهد الفيلم

يعقد الجبالي صداقة جديدة مع سائق إسعاف آخر، رجل تعدى الخمسين من عمره، واصل عمله رغم أنه كان يقترب كل ساعة من الموت، وسيخبرنا المخرج في نهاية فيلمه أن ذلك السائق الفلسطيني قتل في أواخر أيام الحرب.

كان الفيلم بالمجمل حافلا بالمشاهد القوية المؤثرة، بيد أن أكثر مشاهد الفيلم قوة وفنيّة لم تكن للضحايا أو أهاليهم، بل لطفلة فلسطينية ذات خمسة أعوام كانت تجلس بجانب سائق عربة الإسعاف الأول، وقد صورها المخرج بمشهد أخاذ طويل وهي تتطلع إلى الخارج عبر زجاج نافذة عربة الإسعاف المتهشم، بينما كان وجه السائق الجدّي للغاية يكشف كثيرا من أسرار الجحيم الذي مر عليه وعلى المدينة.