” متسللون”: فيلم مبتكر عن جدار العزل

لا يكف السينمائيون عن استكشاف زوايا جديدة لرؤية ظاهرة متكررة. هذه الملاحظة نشأت عندي لدى مشاهدتي الفيلم التسجيلي الفلسطيني  المعنون” متسللون” للمخرج خالد جرار الذي عرض في مهرجان دبي السينمائي الأخير وحاز على جائزتين مهمتين إحداهما جائزة اتحاد النقاد الدولي  ثانيهما جائزة أفضل فيلم تسجيلي. الفيلم يحكي عن جدار العزل العنصري في فلسطين، لكن لا من خلال التباكي على تقسيمه البلاد إلى قسمين والفصل بين السكان الفلسطينيين المقيمين في جهتيه، بل من خلال مقاومة المواطنين لهذا الجدار وتحديه عن طريق تسلقه، رغم المخاطرة بالاعتقال أو حتى السقوط من أعلاه، للوصول إلى الجانب الآخر، فالجدار شديد الارتفاع وتسلقه يتم عبر وسائل بدائية مثل سلم خشبي مصنوع من بقايا أخشاب أو مجموعة مواسير مختلفة الأطوال تركن في فجوة على جانب الجدار ويسند فوقها المتسلقون أقدامهم بحذر شديد كي لا يسقطوا، ترافقهم أصوات التشجيع من المنتظرين لدورهم في الأسفل، أو الذين يتسلقون و يصعدون فوق قاعدة سرير حديدي صدئ يوصلهم لنقطة أعلى في الجدار.

من يقومون بالمخاطرة أناس من مختلف الأعمار: كبار و صغار، رجال ونساء، وكل له هدفه الخاص الذي يستحق المخاطرة في سبيله. بعضهم يودون الصلاة في القدس، وآخرون عمال يبحثون عن الرزق في الجانب الآخر من الجدار وثمة من يبتغي لقاء أقرباء.
مغامرة التسلق كما ظهرت في الفيلم ليست نتاج مبادرات شخصية يقوم بها متسللون، بل استثمار مالي أسسه بعض الأشخاص الذين امتهنوا مهنة مساعدة الناس على عبور الجدار بواسطة التسلق لقاء مبلغ مالي. هذا الجانب الذي يتأسس عليه الفيلم هو نوع من التقديم الموضوعي للموضوع بدون أية مزايدات وطنية سياسية أو شعارات صارخة، بل باعتباره مجرد فعل  أو ردة فعل طبيعية اقتضتها الحاجة ومتطلبات العيش اليومي.
تنبني أحداث الفيلم من الرصد الحي المباشر المثابر والمتابع لحالات مختلفة من حالات تسلق الجدار و الهبوط من الناحية الثانية. في واحدة من خالات الرصد تصور الكاميرا من أعلى الجدار هبوط العمال المتسللين إلى الناحية الثانية وركضهم في عتمة الليل إلى الأمام في مختلف الاتجاهات للوصول إلى بر الأمان. في هذه اللحظة ترصد الكاميرا و تصور قدوم سيارة عسكرية إسرائيلية تتمكن من اعتقال أحد المتسللين.

كنت شاهدت الفيلم بالصدفة، حيث ذهبت إلى غرفة مشاهدة الأفلام الخاصة بالإعلاميين واخترت فيلما للمشاهدة بدون أن أعرف شيئا عنه. اخترته هكذا لا على التعيين، لكن الفيلم شدني إليه من لقطاته الأولى وجعلني أتابعه باهتمام وبمتعة شديدين: تشكل اللقطات الأولى من الفيلم مشهدا ليليا معتما يظهر فيه أفراد مختلفون وهم يركضون في مختلف الاتجاهات، ينبطحون على الأرض قصد الاختباء، ينزوون في حفرة، يحذرون بعضهم. المشهد كما يبدو هو أقرب ما يكون إلى الأفلام السينمائية الحربية الروائية التي تصور جنودا يتسللون وهم يخوضون معركة حربية ليلية، لكنه هنا مشهد حقيقي نابض بالحياة.
بعد هذا المشهد يعرفنا الفيلم على المبادرة/ الاستثمار، الذي ابتكره بعض الشبان لكسب العيش المتضمنة بصورة غير مباشرة عكسا لإرادة مقاومة جدار العزل العنصري رغم المخاطر، ومنها كسر قدم أحد المتسللين بعد سقوطه من الأعلى، أو التعرض للاعتقال.

خالد جرار

إضافة إلى الحالة العامة التي تتابعها الكاميرا، يتضمن الفيلم بعض اللقطات والمشاهد التي يصعب أن تمحى من الذاكرة والتي تعكس رؤية شعرية للحدث: رجل يقيم مقابل الجدار يدهن جوانبه بالأبيض لأنه، جماليا، لا يحتمل لونه الداكن، وحين تنبت الأعشاب المتسلقة قرب الجدار يتوقف عن دهن بقية الأنحاء كي يتمتع برؤية الأعشاب المتسلقة. في مشهد آخر نرى أصابع يد امرأة تتسلل من خلال فراغ في موقع ما من أسفل الجدار لتعانق أصابع أمها في الجهة الأخرى. من خلال هذا الأصابع يتم نقل صورة عائلية للجانب الآخر كي يتاح مشاهدتها من قبل الأم. في مشهد ثالث نرى امرأة تهاتف امرأة أخرى في الجانب الآخر من الجدار تنتظرها و تعتذر منها عن عدم قدرتها على العبور بسبب وصول سيارة جيب إسرائيلية للمكان. في مشهد رابع نراقب كيف يجري تمرير الكعك عبر فتحة في الجدار لبيعه في الجانب الآخر، في مشهد خامس نرى كيف يجري عبور أب من تحت عبارة في أسفل الجدار مليئة بماء المجاري القذرة من أجل نقل طفله الرضيع إلى الجانب الآخر.

يصور المخرج مشهدا مقابلا لمحاولات العبور عبر بوابة رسمية، حيث تحتشد عشرات النساء وتقفن ساعات تحت الشمس في انتظار السماح بالعبور، حيث يجري أحيانا تفريقهن بواسطة قنابل الغاز المسيل للدموع.
ينتهي الفيلم مثلما بدأ، ينتهي بمشهد ليلي لكن يتخلله مشهد لوصول سيارة جيب عسكرية واعتقال أحد المتسللين.
أخيرا، ثمة الكثير مما يمكن قوله حول هذا الفيلم الممتلئ بالكثير من الصور المعبرة والقليل من الكلام لكن الكلام المعبر بدون ثرثرة.