“الخروج للنهار” ضمن الدورة الـ54 لمهرجان تسالونيكي

السينما.. بوصفها فناً عابراً للأزمات

تسالونيكي: قيس قاسم

أصر التسالونيكيون على التمسك بمهرجانهم السينمائي طيلة أكثر من نصف قرن، وظهر مقدار اعتزازهم به خلال السنوات الثلاثة الأخيرة حيث مرت بلادهم بأكبر أزمة اقتصادية أفرزت مظاهر لم تعرفها اليونان بهذا القدر من قبل مثل العنف والبطالة وكراهية المهاجرين والفقر ومع كل ذلك بقى المهرجان مستمراً وبذات المستوى الراقي الذي عرف عنه، مصحوباً، ويا للأسف، بكآبة وحزن يظهران بسهولة على وجوه الناس فيها لكن في هذا العام ثمة تغير واضح طرأ على أرواح التسالونيكيون فبدوا أكثر بهجة وترحيباً بدورة مهرجانهم الجديدة، وبضيوفها وبذات المقدار انسحب الأمر على مفردات الدورة نفسها على المستوى السينمائي، تجلى في بوسترها الذي يعد بتحسن في صورة المشهد العام للمدينة المقدونية. فالغيوم الملبدة في طريقها للزوال والشمس تواقة للظهور من خلفها لتنهي فترة من العتمة الثقيلة قد تؤرخ زوالها بعام انعقاد دورتها الحالية: الـ54.

“الخروج للنهار” في المسابقة
الرغبة في التوسع على مساحة الجغرافيا السينمائية ظهر هذا العام من خلال تقريبها الجيك والسلوفاك الى خانة سينما “البلقان” وتوزيع أفلامهما الكثيرة على أكثر أقسامه ومنها المسابقة الدولية حيث يتنافس فيلم يوراي ليهوتسكي “معجزة” فيها، بقوة مع تحفة المصرية هالة لطفي “الخروج للنهار” والذي يمكن وصفه بأنه واحداً من الأفلام العربية القليلة التي تأثرت بسينما “دوغما 95” وربما الوحيد الذي يتوفر على الشروط التي وضعها مؤسسها الدنماركي لارس فون تيريه، والاثنان سيتقاسمان مع بقية أفلام المسابقة ذات الروح الشبابية الطاغية عليها والتي يجسدها بوضوح المخرج الكوري تاي غون كيم وفيلمه “شباب البهجة” والكوبي كارلوس لاكوغا الذي جاء بفيلم غاية في التميز حمل عنوان “ميلازا” وذهب فيه الى قرية بذات الاسم كانت الحياة فيها هنية يوم كان معملها الوحيد لصناعة السكر يعمل ويستوعب قوة عمل شبابها، لكنه وحين توقف نتيجة الحصار المفروض من قبل الأمريكان والغرب على كوبا ومنتجاتها القليلة تحولت المدينة الى حقل أشباح والمعمل نفسه صار ساحة لقضاء الحاجات الجنسية لبعض سكانها الذين لم يعد يتوفر لهم المكان المناسب لممارستها بسوية. ونتيجة لصعوبة الحياة لم يعد أمامهم إلا اللجوء الى ممارسة أفعال تتعارض مع القوانين الإشتراكية التي تصر السلطات على التمسك بها دون مراعاة الى حاجات الناس الأساسية. يرسم صاحب “ميلازا” صورة لكوبا اليوم بروح محبة ونظرة نقدية اجتمعتا في فيلم حلو المزاج لم يستغل الموقف السياسي على حساب جمالياته الغامرة، لهذا بدا قريباً من “الخروج للنهار” الذي أرادت صاحبته استعارة حالة مصر ومقاربتها بالأب المريض وحاجة كل الوسط “العاجز” بسببه الى الخروج الى النهار والتخلص من القيود التي تكبل حيواتهم وتُكبت رغباتهم المشروعة في التمتع بضوء النهار والتخلص من العتمة الساكنة الروح والجسد، مثل مصر نفسها، التي كانت بحاجة الى التغيير والذهاب من الظلمة الى مسقط الضوء. بدرجة متقاربة يعرض “معجزة” حالة سلوفاكيا التي انفصلت بسلاسة عن التشيك في تجربة سياسية وصفت بالنادرة والمثال على رقي التعامل بين الشعبين اللذين عاشا لعقود طويلة في بلد واحد كان اسمه : تشيكوسلوفاكيا، أما اليوم فهما منفصلان لكل واحد منهما مشاكله لكن المؤكد للسلوفاك الحصة الأكبر منها لأسباب تعود الى ضعف مصادره الطبيعية وضعف مستواه الصناعي، والذي يحتاج الى معجزة للخروج من الحالة المضطربة التي يعيشها والانتقال الى مستقبل واعد يزيح عبء مرحلة الانتقال الطويلة التي يعيشها والتي حاول “معجزة” تلمس مفرداتها عبر حياة شابة قادتها تجربتها العاطفية الى الوصول الى السجن والسقوط في هاوية الانحطاط الإجتماعي وكأنها ترمز بكل سلوكها الى حالة سلوفاكيا المعاصرة التي أضحت ممراً خطيراً لتهريب المخدرات وشهدت انفتاحاً اقتصادياً  رأسمالياً لم تتهيأ له بدرجة كافية كي تتمكن من صد موجة قوانين السوق العاتية والمتطلبة تساوقاً شديد التعقيد بين مغرياتها وبين التكيف مع شروطها القاسية والتي تدفع الناس لممارسة سلوكيات جد متناقضة بحاجة الى “معجزة” حقيقية لتجاوزها. وإذا كانت بطلة “معجزة” ايلا تعكس بمقدار كبير الحالة السياسية الاقتصادية لبلدها فأن “سوزان” تبدو أقل ارتباطاً بالهموم ذاتها وأقرب الى الحالات الفردية وأن في محصلتها تصب في الوسط المؤثر فيها وهنا نعني: المجتمع الفرنسي. “سوزان” عمل آسر انجزته المخرجة الفرنسية كاتيل كيفير بإرتكاز على مرجعية سينمائية كلاسيكية، ولهذا حمل  طابعاً درامياً تقليدياً على مستوى الحكاية وعلى قدر كبير من التحلى بالرصانة وتجنب السقوط في مشاعرية مجانية على مستوى المعالجة.

“فرش وغطا” من أبوظبي الى تسالونيكي
مباشرة بعد عرضه في مهرجان أبو ظبي السينمائي طار “فرش وغطا” للمخرج المصري أحمد عبد الله الى تسالونيكي ليقدم ضمن خانة “آفاق مفتوحة” سوية مع فيلم الفلسطينية آن ماري جاسر “لما شفتك”، وبحضورهما تعززت المشاركة العربية في الدورة ال54 التي ضمت عروضاً عربية خاصة ضمن سوق “أغورا” لدعم الأفلام والذي يعد واحداً من تميزات  تسالونيكي لسعته انفتاحه وتقديمه العون لكثير من المخرجين من بينهم عرب وتسهيل مهمة عرض نتاجاتهم على شركات الانتاج بعد انجازهم مراحل متعددة من مراحل انتاج أفلامهم والمساعدة، أيضاً، على توزيعها بشكل أوسع نذكر منهم على سبيل المثال المخرج المغربي الموهوب هشام العسري وفيلمه الجديد “هُم الكلاب” الذي دشن أولى عروضه في الدورة التاسعة عشر لمهرجان الرباط الدولي  لسينما المؤلف وينتظر منه تحقيق نجاحات على مستويات عالمية لما يتمتع به من مستوى معالجة بصرية خاصة تضع صاحبه، على حداثة تجربته، بين أكثر المخرجين العرب تميزاً.