الصومال.. وجهة “محاربون من الشمال”

محمد موسى

صُوِّر الفيلم التسجيلي النرويجي “محاربون من الشمال”، للمخرجين: سورين ستين جيسبيرسن ونسيب فرح، قُبَيْل وأثناء الصعود المُدَوّي لتنظيم “داعش” في العام الماضي. لكن الفيلم، الذي يُقدِّم قصص صوماليين أوروبيين توجهوا إلى بلد الآباء للقتال بجانب حركة “الشباب” المُتطرّفة ودوافعهم ومآلاتهم، يمكن أن يكون صورة لواقع الحال، لما نشهده من انضمام آلاف المسلمين الأوروبيين لـ “داعش” واشتراكهم في حرب عنيفة متواصلة  في الشرق الأوسط، في ظاهرة شكّلت إحدى العناونين المُقلقة لعام 2014، فالفيلم النرويجي عن جيل شاب ضائع مُشتت الهوية من أبناء مهاجرين مسلمين  في أوروبا، يعيش منذ سنوات مُعَلَّقاً، بين شعارات براقة وبحث عن بطولات وأحلام في “الشرق”، وحياة في “غيتو” أوروبي خانق.

يفتتح الفيلم زمنه بمشاهد أرشيفية لحَفِل تخرج طلاب طِبّ في العاصمة الصومالية. لن نعرف بالضبط تاريخ الحفل أو الجهة التي صورته، وكأن لا فروقات بين أزمان البلد السوداوية. تجول الكاميرا، وبحركات احتفالية، على الحاضرين في الحفل، تُركّز على الطلاب ومنجزهم في إنهاء دراستهم الطويلة المُتطلبة. تمرّ العدسة على وجوه الطلاب والطالبات الشباب. وأحيانا تتنقل إلى أهلهم الذين كانوا يجلسون في صف الجمهور، في قاعة حُوِّلت لمسرح الصغير. لكن شيئاً ما في المشهد كان يُنذر بكارثة قادمة، ربما لأن ما يصل من الصومال إعلامياً، يأتي غالباً مُغلفاً بعنف الكبير. فجأة يهدر الصوت. يخيم السواد على المشهد، ليتنقل الفيلم عندها إلى غرفة فندق في النرويج. يعود المخرجان، في مناسبة أخرى من الفيلم، إلى حفل التخرج ذاك، ليستكملا ما قطعا منه في بداية  فيلمها، فتظهر الجثث المقطعة والفوضى والدماء، وقبعات التخرج المرميّة على الأرض.

من المشاهد الافتتاحية الصادمة تلك، ينتقل الفيلم إلى العاصمة النرويجية أوسلو، ليُقدّم قصة شاب صومالي من هناك، كان عضواً في مجموعة من الصومالين الأوروبيين الذين انضموا لحركة “الشباب” (منهم منفذ العملية الانتحارية في حفل تخرج طلاب كلية الطِبّ في مقاديشو). يرفض الشاب أن يظهر بوجهه أو صوته في الفيلم. لكن عوضاً عن الأسلوب التقليدي في تقديم الشخصيات التي لا تريد أن تكشف عن هوياتها (يتم بالعادة استخدام تقنية الوجوه المموهّة وأصوات يتم التلاعب بها إلكترونياً)، قدّم المخرجان مشاهد  فنيّة مبتكرة للشخصية التي شكلت عِماد الفيلم، في حين سيقوم مُمثل محترف بتقديم شهادته والتعليق الصوتي في الفيلم. تصوغ المشاهد العديدة للشخصية الرئيسية، وهي تسير في ليل المدينة الأوروبية أو في غرفة الفندق، بجماليتها اللافتة، تفاصيل الوحدة وأحياناً التيه الذي تعيش فيه الشخصية، دون أن يضرّ بها كثيراً غياب وجه صاحبها. تطبع الوحدة والاستلاب شهادة بطل الفيلم، بخاصة في المنولوج الطويل في الربع الأول من الفيلم، والذي يستعيد طبيعة الحياة التي كان يعيشها  قبل أن يلتقِ بحركة “الشباب”. من فشل دراسي، إلى صراع بين قيم إسلامية  تربى عليها، والحياة في مدينة أوروبية مفتوحة الحريات والخيارات. كما أن اختيار ممثل يتحدث بالإنكليزية بلكنة أفريقية واضحة ليقدم شهادة الشخصية الرئيسية، سيمنح الفيلم روحاً عالمية، ستدعهما أيضاً شهادات صوماليين يعيشون في دول أوروبية مختلفة، تحدثوا للفيلم عن تجاربهم في “الجهاد” في الصومال.

بجانب الشهادة الطويلة لشخصية الفيلم الأساسية، يركز الفيلم على والد أحد الذين توجهوا إلى الصومال، وانقطعت أخباره منذ وصوله هناك. يوفّر الصومالي الخمسيني، خلفية اجتماعية  ما عن حياة مواطنيه  في أوروبا. هو مُسِلم عادي يؤدي الفرائض الدينية بانتظام، يعمل كمنظف في المدينة، التي يسكن على أطرافها. الأب هذا يمثل ضمنياً جزء من “السلطة” التي تمرّد عليها الأبناء. هو، بإسلامه المُعتدل وحياته الفقيرة البسيطة، وعندما يوضع إلى جانب محيط غربي يبدو للبعض مغلقاً وقاسياً، كانا من الأسباب التي جعلت شباب، مثل بطل الفيلم، يبحثون عن حلول أكثر تطرفاً في مكان آخر، بعيداً عن الأب ومجتمع الجالية الصغير والدولة الأوروبية التي يعيشون  فيها. البحث الذي قاد إلى “الجهاد” في واحد من أخطر البلدان في العالم، هو إشارة لعمق الأزمة التي يعيشها كثير من أبناء المهاجرين في الغرب، إلى الحدّ الذي يكون “الصومال”، البلد الذي فقد منذ عقود تعريفات الدولة الطبيعية، المكان الأمثل لتحقيق “الأحلام” لهؤلاء. يحفل الفيلم بمشاهد مُؤثرة للأب الموجوع وهو يحاول الاتصال الهاتفي بابنه. أو عندما يستعين بصومالي شاب، ليبحث عن صفحة الابن على موقع “الفيسبوك”، والتي تضم صوراً للابن الغائب، مُدجج  بالأسلحة في بعضها، مع نصوص دينية  تُقَدَّس “الشهادة.”

يتجنب المخرجان المقاربة التقليدية، فهما يبتعدان عن اللقاءات المباشرة، ويستعيضان عنها بالمراقبة الحساسة المُكثفة. لن يغوص الفيلم مثلاً في أسئلة المهاجرين ووضعهم الراهن المُعقد، أو يتحول إلى دراسة اجتماعية لأسباب فشل اندماج مهاجرين من أصول مُسلمة مع مجتماعتهم الغربية، لكنه يقدم بدل ذلك مشاهد تختزن أسئلة وتستدعي نقاشات، كتلك الذكية لأطفال من أصول مُهاجرة، كانوا يلعبون بالقرب من البنايات الشاهقة العلو في الضواحي الفقيرة حيث يعيشون، والتي ترمز منذ سنوات لفشل حكومي وإنساني مزدوج، وتشكك بإمكانيات التعايش بين الجنسيات المختلفة. يوظّف الفيلم المشاهد الأرشيفية التي صورها هواة في الصومال بذكاء محسوب، هي تستكمل الشهادات الخاصة  له، وتوفّر نافذة مُهمة، وأحياناً وحيدة، لما يجري في الصومال. البلد الذي يظهر مجدداً في هذا الفيلم كمكان ميؤوس منه إلى حد كبير. فكل المحاولات لوضعه على جادة سويّة تبوء بالفشل، والذي يعكسه، ربما، المشهد الطويل لافتتاح محطة  تلفزيونية حديثة للحكومة هناك، وتقديمه  فيلم “محاربون من الشمال”. الافتتاح ينتهي بالدم أيضاً، فقنبلة كانت تنتظر المحتفلين، والكاميرات، التي كانت تريد أن تصور الاحتفال، سجلت لحظة وقوع الفاجعة  وأكثر.