“شارع حيفا”.. أهوال الحرب الطائفية في بغداد كأنك تراها

د. أمــل الجمل

“شارع حيفا فيلم عراقي نادر ومختلف وشجاع، ومصنوع بطريقة ذكية، شعرتُ وأنا أشاهده أنني كنت داخل شارع حيفا في بغداد عام 2006، شعرتُ بالموت يُحيط بي من كل مكان، إنه أحد الأفلام المهمة التي أنصح بمشاهدتها”..

ما سبق هو رأي للمخرج الإيراني المنفي “محسن مخملباف” عقب مشاهدته الفيلم في مهرجان بوسان بكوريا الجنوبية، وهو المهرجان الذي يحتوي على أحد أكبر أسواق السينما في آسيا، كما يُعدّ من مهرجانات الصفّ الأول في عالم السينما، لذلك فحصول الفيلم على جائزة أفضل فيلم بالمهرجان يُعدّ شهادة كبيرة عن أهمية هذا العمل السينمائي الجريء.

 

رصاصة على طريق الخطبة

تبدأ الأحداث من لحظة توتر درامي عالية، فأحمد رجل أربعيني وسيم شكله مهيب، يحمل حقيبة كاميرا صغيرة في يده، وبعد أن يخرج من بوابة إحدى البنايات تُصيبه طلقات رصاص القناص سلَّام فيسقط أرضاً، إنه ضيف جاء لزيارة إحدى العائلات المعروفة هناك، وهي عائلة سعاد السيدة الخمسينية وابنتها نادية الفتاة الثلاثينية الجميلة.

كل مَنْ يُحاول مساعدة الرجل (أحمد) تطارده رصاصات القناص الشاب، إنه لا يقضي عليه تماماً، ولا يترك للآخرين فرصة لإنقاذه. أثناء ذلك وعلى مدار نحو ساعتين من الزمن الدرامي، وهو الزمن الحقيقي أيضا لأن الزمن الفعلي للأحداث هو ذاته الزمن الدرامي؛ نقترب نفسياً من الشخصيات المُحاصرة، وكذلك الشخصيات التي تتحكم في المكان. ندخل إلى أغوارها لنعايش الأجواء السياسية المحيطة، فتكتمل صورة مُرصعة بكثير من الخبايا الصادمة عن عراق 2006.

نادية أخت سلّام، وهي الفتاة الثلاثينية الجميلة التي يتم المساومة عليها في الفيلم للقادة الأمريكيين

 

فتيات العراق.. بضاعة لمن يدفع من الأمريكيين أكثر

نُدرك كمشاهدين منذ وقت مُبكر من أحداث الفيلم أن سلَّام هو ابن سعاد، وأنه اختفى في السجون العراقية لسبب لا نعلمه، فصوره المعلقة على جدران البيت وأخبار اختفائه هي كل ما نعرفه عن ماضيه، فالأم والأخت لا تنطقان بشيء. ولاحقاً نعرف على لسان زعيم القاعدة أو أميرها أنه تبنى سلَّام بعد خروجه من السجن وزوَّجه من أخته، والتي نراها في عدة مشاهد وهي تُدبر لمواصلة عملها بالدعارة، وبهذه السلطة المتفجرة عن طريق تجارتها الرابحة من الجنس، إضافة إلى سلطة أخيها؛ تُساوم حتى تنال ما تريده.

إنها تُوفر الفتيات والنساء العراقيات الجميلات للقادة الأمريكيين، ولمن يدفع أكثر من رجال الحرب، والآن تُحاول مع نادية أخت سلَّام، لكنها تُقاوم.

سلَّام يُتابع أخبارهما في صمت ظاهري، بينما النيران تنهشه من الداخل، حتى أنه يفشل في إقامة علاقته الزوجية، وهنا تُقرر الزوجة الشابة أن تتركه، إذ لم يعد يُرضيها، وقد صارت ترغب في الزواج من شاب آخر، لكن أخاها يُهددها، فتواجهه بتحدٍّ أن ما حدث لم يكن زواجا حقيقيا، إنه مجرد ورقة زواج عُرفي. إذن فالمواجهة بين الأمير وأخته تفضح تسترهما بالدين.

نادية ترفع لافتة تُعبر فيها عن استسلامها، بينما سلّام يقنّص عليها لكنه يتركها تفلت

 

المساومة على نادية

تتوهم نادية أنها نجحت في الإفلات من القنّاص سلّام، فهي لا تُدرك أنه أخوها الغائب وأنه هو الذي تركها تفلت حتى لا يُصيبها رصاصه. لكنها ترضخ عند صاحبة بيت الدعارة للمساومة على جسدها مقابل إنقاذ أحمد الأربعيني الذي جاء لخطبة والدتها، فقد كانا حبيبين وفرَّقت بينهما الأيام. تُحاول الزوجة الشابة المتعاونة مع الأمريكيين ومع أخيها أمير القاعدة أن يُثنيا سلَّام عن موقفه، حيث يطلبا منه أن يترك الرجل المصاب لكي يتم إنقاذه، لكنه لا يُصغي، فيتخيلون أن سلَّام يفعل ذلك بسبب عشقه وولعه بنادية، فهم لا يُدركون أنهما شقيقين.

بمزيج من الغيرة المكبوتة والتشفي تخبره الزوجة -التي لا تعرف حقيقة سلّام الأخوية بنادية- “أن يمحو نادية من رأسه لأن أخاها أمير القاعدة يرغب فيها، وقد أصبحت له”. هنا يتزايد جنون سلَّام، فلا أحد يعرف حقيقة هويته، لا أحد يعرف أنه سلّام، وأنه يقوم بهذا العمل من أجل حماية أهله، حتى الأم والأخت لا تعرفان حقيقة هوية القنّاص سلّام، وهذا ما يُفسر لماذا يبقى سلَّام متيقظاً كالمجنون يحرس أفراد عائلته ويمنعها من الخروج، ويمنع الآخرين من الدخول إليها محاولاً حمايتها.

لكن سرعان ما تخرج الأمور عن السيطرة، حتى إنه يُطلق الرصاص على الأمير فيحتمي الأمير بنادية، إذ يتخذها ساترا ودرعاً واقياً له من الرصاص. يختلط الحابل بالنابل، فيتحول الضحية إلى قاتل، والقاتل إلى ضحية يتم التمثيل بجسدها، ويُقرر سلَّام أن يتولى قيادة الإمارة.

القناص سلّام يقظا طوال الوقت يحرس أفراد عائلته ويمنعها من الخروج

 

معتقلات الاحتلال.. رُبّ نظرة خير من ألف كلمة

المفاجأة الكبرى التي يخبئها المخرج للجزء الأخير من عمله هي الحكاية المصورة على الكاميرا الصغيرة التي تخص أحمد فهو مصور، وقد سجل بعض يومياته على الكاميرا عن ما بعض ما شاهده في سجن أبو غريب وأفعال الجنود الأمريكيين هناك.

لا يخرج التعذيب عن إطار الصور التي شاهدناها مراراً في وسائل الإعلام، حيث تكميم الرؤوس في أكياس بلاستيكية بينما الأجسام عارية تماماً، لكن الأهم أنه يخبرنا عن تعاونه مع الأمريكيين، ثم يُركز حديثه عن نظرة شاب شاهده أثناء التعذيب، وكيف أن أثر تلك النظرة ظل يُؤرق أحمد، وجعله يفرّ من عمله ويُقلع عن تعاونه مع المحتل.  كانت نظرة أحد العراقيين الشباب الذين تم تعذيبهم هناك.

إنها لقطة مشهدية نراها -سمعياً بتجسيد ماهر خلَّاق- عبر كلمات المُصّور أحمد، فتجعلنا نفهم بعضاً مما قد يكون حدث لسلَّام في السجون الأمريكية بالعراق، إنها ليست حكاية سلَّام وحده، لكنها حكاية آلاف من الشباب العراقيين، وربما من غير العراقيين أيضاً.

آثار الحرب الطائفية تبدو في إحدى بنايات شارع حيفا في بغداد، حيث الدمار يُسيطر على المكان

 

“شارع حيفا”.. قبَس في ليل السينما العراقية

اتخذ المخرج العراقي الموهوب مهند حيال من العام 2006 زمنا دراميا لأحداث فيلمه الروائي الطويل الأول، إذ يُعد عاما 2006 و2007 من أشد أعوام الحرب الطائفية، أيام كان الاقتتال بين المجاميع المسلحة يُمزق مدينة بغداد التاريخية العريقة.

آنذاك تحوّل شارع حيفا إلى مركز للصراع أثناء تلك الحرب الشرسة القذرة، والمفارقة الغريبة أن هذا الشارع الذي صممه أشهر المهندسين العراقيين بمساعدة خبرات أجنبية، واستمد اسمه من المدينة الفلسطينية الشهيرة؛ كان أحد أبرز الشوارع الحيوية والهامة في بغداد، مثلما أصبح أحد أبرز الواجهات المعمارية للمدينة، وذلك منذ إنشائه قبل انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي عام 1981.

لا شك أن السينما في العراق لا تزال تسير على استحياء بسب ظروف الحرب والمعارك والفساد، فقد توقفت تماما عن الإنتاج عام 1991، ثم عادت للحراك عام 2003، وهناك أعوام كانت بها محاولات تُبشّر بالعودة إلى الإنتاج بدءا من 2011، وتحديداً في مجالات الفيلم القصير والوثائقي، وذلك رغم معاناتها من غياب دعم المؤسسات الحكومية، لكن الأمل في تلك السينما يعود مجدداً مع عرض فيلم “شارع حيفا”، خصوصاً أن الفيلم شارك في بطولته أسعد عبد المجيد وعلي ثامر ويمنى مروان وإيمان عبد الحسن، وكان بينهم عدد من الهُواة الذين ليسوا من نجوم التمثيل.

كما أن الفيلم ينتمي لسينما المؤلف، وذلك رغم أن “هلا السمان” شاركت المخرج في كتابة السيناريو، وإن كان “شارع حيفا” هو التجربة الروائية الطويلة للمخرج مهند حيال المولود بالناصرية عام 1985، لكنه قدّم من قبل أفلاما سينمائية منها “سبايكر”، و”ميلاد سعيد”.

مخرج فيلم “شارع حيفا” العراقي الموهوب مهند حيال خلال مشاركته في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

 

عهد الرعب.. براعة تصويرية وسردية صادمة

لا يستمد فيلم “شارع حيفا” قوة تأثيره من ميلودرامية الحكاية فقط، بل من قوة الدلالات السردية الصادمة أيضا، ومن البراعة البصرية في المشاهد واللقطات المسكونة بحقائق لاذعة المرارة، وأسرار فاضحة كانت مخبأة داخل -وربما أيضاً خارج- “شارع حيفا” الذي تحوّل من منارة ثقافية إلى بؤرة سحيقة من الحضيض بفضل الاحتلال الأمريكي.

الأسلوب السردي والتشكيل البصري في فيلم “شارع حيفا” هو أحد أهم عناصر اللغة السينمائية المميزة بالفيلم، سواء في المشاهد الواقعية التي تكشف عن مهارة المخرج مهند حيال في تأطير الكوادر وزوايا التصوير، أو في إدارة أبطاله في ظل ميزانية التصوير الموسوم بالتلقائية.

لكن الأهم هو براعة المخرج وقدرته على معالجة عنصر الزمن الحقيقي والدرامي، فأحد أصعب الأمور الفنية التي قد تواجه المخرج وكاتب السيناريو أن يقوما ببناء وتصوير الزمن الحقيقي بنفس إيقاعه في زمن درامي في مكان جغرافي محدود النطاق، من دون أي قفزات زمنية، ومن دون أي فرصة للتخلص من الأزمنة الضعيفة، لكن مهند نجح في خلق ذلك الزمن بمتوالية بصرية منسوجة بتوتر عال متصاعد بشكل يأخذ الأنفاس، من دون أن يترك فرصة لإفلات المتلقي من قبضة الفيلم، وذلك رغم أن حوادث القتل المُنجزة بالعمل السينمائي هي واحدة فقط، ومع ذلك فإن هناك لحظات أخرى مخيفة ومرعبة أكثر من لحظات الموت نفسها، خصوصاً تلك التي نرى فيها -بقلوبنا قبل عيوننا – بشاعة الأهوال التي مرّ فيها أهل العراق، فالقتل لم يقتصر على الرصاص والموت.

أحد الأشخاص الذين قُتلوا برصاص القنّاص في شارع حيفا، حيث تُرك ينزف أكثر من ساعتين

 

ثلاثة في واحد.. كابوسية المشهد

على صعيد آخر في الفيلم مجموعة من اللقطات المشهدية الكابوسية التي تم تصويرها كأنها حلم يكشف عن الهواجس الدفينة في أعماق سلَّام، بعضها نرى فيها الأم وهي تستعد لإطلاق الرصاص على ابنها بينما هو مستسلم لها، ومنها لقطة أخرى نراه يتأمل فيها ذاته طفلا، ثم نراه مستسلما لهذا الطفل الذي يصطحبه على سلالم البناية المهجورة ليرى نفسه من وراء بعض القضبان الحديدية على السلم، وهو يرقد على خشبة الغُسل استعدادا للدفن، وكل منهما ينظر للآخر، سلَّام الميت وسلَّام الحي وبينهما سلَّام الثالث طفلاً، وذلك في لقطة مزدوجة بالدلالة التعبيرية المؤلمة.

نظرا إلى كل ما سبق، لم يكن غريباً أن يحصد “شارع حيفا” اثنتين من أهم جوائز قسم آفاق السينما العربية بالدورة الـ41 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهما جائزة نالها بطل الفيلم “علي ثامر” لأفضل أداء تمثيلي، وجائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية.