“نحن معا”.. سد التضامن الأخير الذي يحمي البشرية

قيس قاسم

بقدر ما يبعث الوثائقي الفرنسي “نحن معا” الأمل بإحياء روح التضامن والتآزر بين البشر، فإنه يكشف في الوقت نفسه شيوع المظالم وطغيان القسوة في عالمنا والحاجة الملحة لإيجاد مناخ إنساني قادر على التخلص منها، أو التخفيف من آثارها المؤلمة على الأقل، وذلك عبر استعادة قيم إنسانية نبيلة كادت تختفي اليوم.

ومن بين أكثر القيم الإنسانية حاجة لأخذ مساحتها المستحقة في حياة الناس التضامن الإنساني بين البشر، وتعزيز فكرة أن الإنسان هو أخ الإنسان في كل مكان وعليه تقديم يد العون لمن يحتاجها.

من وحي تلك الفكرة وحماسته لها اندفع المخرج “ستيفان دي فريتاس” لتوثيق مشروع فيديو كليب أغنية بعنوان “تضامن”، ويسهم في تقديمها موسيقيون ومغنون مشهورون من كل أنحاء العالم، ولإغناء محتواها أكثر اقترح سينمائيا إشراك نشطاء قاموا بمبادرات تضامنية ملهمة في أنحاء مختلفة من العالم، ليتعرف المُشاهد على مضامينها المنطلقة من الإيمان بقدرة البشر على الاتحاد لمواجهة قسوة الواقع المعاش.

 

“البقاء للأكثر أنانية وسيطرة”.. مآسي اللاجئين في كوكب الجشع

لعرض المشهد البشري العام يذكر المُخرج -الذي يلعب دور الراوي في وثائقيه- أن هناك اليوم حوالي ٧٠ مليون مهاجر في العالم هربوا من الحروب والمجاعات، ويعانون من قسوة عيش لا يمكن السكوت عليها، وأن عدم المساواة على مستويات مختلفة شاعت في عالمنا، كما اتسعت الفوارق بين الأغنياء والفقراء.

وقد رافق كل ذلك سياسيا صعود اليمين المتطرف في أكثر من مكان، وعلى مستوى البيئة فقد تدهورت أحوالها كثيرا، وما زال طمع الإنسان يوغل في تدميرها، ولإضفاء أبعاد فكرية تنويرية على منجزه يستعير المخرج عبارات لعالم الاجتماع “آلان كايلي” يدعو فيها إلى استعادة القيم الإنسانية، فكما يتعلم الإنسان الأخذ والاستحواذ عليه أن يتعلم العطاء أيضا.

يشير الفيلسوف “إدغار موران” إلى واقع بدأت الناس فيه تؤمن أن الحياة هي مجرد سباق، فالأحسن هو من يفوز بها ويستمر، وهذا يعني أن فرصة البقاء هي للأكثر أنانية وسيطرة، وبرأيه هذا فهم خاطئ للحياة، ولا يستقيم إلا باستعادة الثقة بالتضامن البشري.

لاجئ المدينة الشاب “مارا” الذي تضامن معه فقراء باريس رغم الظلم الذي لحق به نتيجة سجنه وتعذيبه على غير وجه حق من قبل رجال الشرطة

 

جمعية “مواجهة التحدي”.. عطف فقراء باريس على لاجئيها

يأخذ فعل التضامن أبعادا مختلفة وأشكالا متنوعة من التعبير يتداخل فيها الخاص والعام، مثل تجربة الشاب “مارا” في منطقة “سارسيل”، وهي من أفقر المناطق الباريسية وأشدها اكتظاظا بالمهاجرين.

علمت التجربة “مارا” أن التضامن والتماسك الاجتماعي بين السكان هو السبيل القوي لمقاومة الضغوطات، ولأنهم يحسون بما يشعر به المعزول والغريب ينشطون في جمعية “مواجهة التحدي” لتأمين بعض ما يحتاجه اللاجئون الجدد الذين ليس لديهم سكن، فيضطرون للمبيت في الشوارع وتحت الجسور، فيقوم أهالي المنطقة بإعداد وجبات طعام يوزعونها عليهم.

يذهب الوثائقي معهم ويصور أحوال اللاجئين الصعبة، ويمنح الإحساس بالتضامن مع المتطوعين شعورا بالزهو والفخر، فهي تجربة ملهمة لفقراء يساعدون محتاجين.

الملفت أن الشاب “مارا” رغم الظلم الذي لحق به نتيجة سجنه وتعذيبه على غير وجه حق من قبل رجال الشرطة، فإنه تعلم درسا مهما، وهو أن لا يتحول إلى مجرم في السجن ولا خارجه، فهذا ما يريده خصوم المهاجرين.

يجمع الشاب في نشاطه وجمعيته بين التضامن وبين توعية شباب المنطقة بالقيم التي من شأنها تجنيبهم الوقوع في الأخطاء، وأن فعل الخير يُحدث فرقا كبيرا.

وجوه نسائية منهكة على حائط حي شعبي في العاصمة “ريو دي جانيرو”  تقوده رسامة الغرافيتي البرازيلية “بانميلا كاسترو”

 

رسومات الجدران.. فن نسوي من رحم العنف الأسري

إنّ تجربة رسامة الغرافيتي البرازيلية “بانميلا كاسترو” هي مدعاة للتأمل لقوة ما فيها من بعد إنساني، مع أن نشاطها التضامني انطلق في الأساس من الحاجة لرفع صوتها والدفاع عن النساء المنتهكة آدميتهن من خلال تعرضهن للضرب أو القتل بسبب نوع جنسهن لا غير.

في حي فقير من أحياء العاصمة “ريو دي جانيرو” يرافق صانع الوثائقي الرسامة وهي تفتتح جدارية رسمتها على حائط حي شعبي تظهر فيها وجوه نسائية منهكة، كما توجز تجربتها الشخصية في حديثها معه، وكيف كانت تتعرض يوميا للضرب من قبل زوجها، مما اضطرها للهرب والاعتماد على نفسها.

تعلمت “بانميلا” الرسم منذ الصغر، واستخدمت فن الغرافيتي للتعبير عما تحس به، وبعد تجربتها المريرة استخدمته وسيلة لتثقيف المرأة البرازيلية بحقوقها وسبل دفاعها عن نفسها من خلال العمل والدراسة والمشاركة في نشاطات وفعاليات تدعو إلى نبذ العنف الأسري.

تقدم إليها إحدى المنضمات إلى الجمعية النسوية التي تنشط فيها معطيات مخيفة عن انتشار العنف الأسري، فالبرازيل من بين أكثر خمس دول في العالم تموت فيها المرأة بسبب نوع جنسها، ولولا نضال النساء وكفاحهن في إصدار قانون “ماريا دو بين” لحماية المرأة في عام 2006 لظلت الأعداد في تزايد.

الشابة المسلمة الأمريكية سودانية الأصل آفاق محمد تشارك في الفعاليات الاحتجاجية ضد الممارسات العنصرية وكراهية المسلمين بشكل خاص

 

آفاق محمد.. أن تكون عربيا مسلما أسود البشرة في أمريكا

آفاق محمد شابة مسلمة أمريكية سودانية الأصل، تمارس مهنة التعليم وتكتب الشعر إلى جانب التصوير الفوتوغرافي، ومن خلال إبداعها تنشط في إقامة المعارض والندوات، وتشارك في الفعاليات الاحتجاجية ضد الممارسات العنصرية وبشكل خاص كراهية المسلمين.

عانت آفاق بسبب دينها ولون بشرتها من التمييز، وفي مقابلة مع صانع الوثائقي تحكي تجربتها مع العنصريين وكيف فضحت من خلال نشاطها الفني حالة الإسلاموفوبيا المنتشرة اليوم بشكل واسع بين أوساط اجتماعية أمريكية.

تظهر آفاق في معرض أقامته للصور التي التقطتها خلال زيارتها لأهلها في السودان، وتجسد الآثار التي تركتها الحرب الأهلية في دارفور عليهم، وتعتبر معرضها نوعا من كشف الحقائق ليطلع العالم عليها، فالسكوت عن الظلم برأيها يُقوي موقف الظالم ويشجعه على المضي في غله وكراهيته.

لهذا تصف في إحدى قصائدها المسلم العربي الموجود في أمريكا اليوم بالأسود الجديد، وعلى حد قولها “أن تكون مسلما عربيا وأسود البشرة فإنك تتعرض للاضطهاد مرتين”، كما أن في نشاطها أيضا دعوة للتضامن مع المضطهدين في أمريكا بغض النظر عن لونهم وديانتهم.

أحد مرضى المهق ومطالبهم البسيطة بعد التعامل معهم ككائنات غريبة لا يحبذ وجودها بين البشر

 

مرضى المهق في مالي.. لون جسدك قد يقتلك

تنشط منظمة اجتماعية في العاصمة المالية باماكو لدعم ومساعدة مرضى المهق، وأكثر ما يواجه المرضى هو خطر القتل ناهيك عن العزل والنبذ الاجتماعي المتأتي من موروثات وخرافات تعاملهم ككائنات غريبة لا يحبذ وجودها بين البشر، إلى جانب خرافات أخرى تؤمن بأن الحصول على جزء من أعضاء أجسادهم تجلب الحظ.

يموت في مالي كل عام الكثير منهم ويعاني أغلبيتهم من أوضاع اقتصادية صعبة بسبب عدم تمكنهم من العمل في الضوء، وتعمل المنظمة الخيرية في باماكو على جمع التبرعات من أجل تأمين مراهم طبية تساعد على حماية أجسادهم من أشعة الشمس، وعلى توفير النظارات الشمسية لهم.

قررت فرقة “لامومالي” -المُكلفة من باريس بإعداد أغنية “تضامن” تحت إشراف الملحن والموسيقي “ماثيو شداد”- التضامن مع مرضى المهق عبر توجيه دعوة للنشطاء منهم للمشاركة في إعداد مقطع من الأغنية يُصور في مالي، وأن يخصص قسم من مبيعات حفلة باريس التي ستقدم الأغنية فيها لتوفير ما يحتاجه المرضى.

تصوير فيديو لمجموعة من النشطاء المتعاطفين مع الآخر وحركاتهم التضامنية

 

أغنية “تضامن”.. بإمكانك أن تحدث فرقا

كانت الاستعدادات تجري في باريس لإتمام أغنية “تضامن” التي تَقرر أن يتضمن الفيديو الخاص بها مقاطع مصورة يشارك فيها النشطاء الذين التقى بهم الوثائقي، وأن يُشركوا هم في بلدانهم أعدادا أخرى من المتعاطفين معهم ومع حركاتهم التضامنية.

وفي الأيام القليلة الباقية قبل تصوير الفيديو انضمت شابة آسيوية إلى المجموعة، وقدمت لصانع الوثائقي موجزا بما تقوم به من عمل تضامني وتآزر مع أبناء جلدتها الذين يتعرضون للتمييز بسبب عرقهم واختلافهم.

اجتماع قادة الدول السبعة.. لقاء رعاة التضامن بصناع القرار

لم يكتفِ الوثائقي بالفيديو الرائع، بل قام بتنظيم لقاء في باريس لكل المشاركين فيه، وهناك رتب لهم مشاركة فعالة في إحدى اجتماعات قادة الدول السبعة، إلى جانب لقاءات مع منظمات إنسانية تحمست للتضامن معهم وتقديم ما يمكن تقديمه لهم.

تعكس اللقاءات الخاصة والحوارات المتبادلة بينهم تصورا إنسانيا رائعا لكلمة “تضامن”، وكيف يمكن لكل عمل تضامني بسيط إحداث تغييرات كبيرة في المجتمعات. يلخص الوثائقي المبهر والمتدفق حيوية وأمل ما تعنيه تضامن؛ تلك الكلمة الرائعة حقا.