“أكبر منا”.. بصمات الشباب الإنسانية في أرجاء الكوكب

قيس قاسم

منذ إطلاق الناشطة البيئية الشابة “ميلاتي ويسن” (18 سنة) مبادرتها الفردية “باي باي للأكياس البلاستيكية”، والأسئلة عن آخرين يشبهونها في العالم تشغل بالها: هل هناك في أنحاء العالم شباب مثلي يحققون مثلما حققته أنا من نجاح معقول في الحد من تلوث البيئة في إندونيسيا، والتقليل من تسريب النفايات البلاستيكية إلى البحار، وهل للمبادرات الإنسانية الصغيرة على اختلاف تنويعاتها تأثيرات تتجاوز محليتها؟

للتوصل إلى إجابة اقترحت المخرجة الفرنسية “فلور فاسور” على الشابة القيام بجولة عالمية مشتركة معها، تستقصي من خلالها تجارب مماثلة لما تقوم به، برفقة فريق سينمائي تديره المخرجة وتلعب هي فيه دور المحاور.

 

هكذا جاء مشروع الفيلم الوثائقي “أكبر منا” (Bigger Than Us) المعروض في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، حيث ستمضي المخرجة والناشطة البيئية في رحلة طويلة عبر مناطق مختلفة من العالم لمقابلة شباب توّاقين للتغيير، وكلهم إيمان بقدرة الإنسان على تحسين ظروف عيشه، إذا ما توفرت لديه الإرادة الحقيقية والإصرار على مواجهة سلوكيات وممارسات تقلل من قيمة الفرد، وتحد من طموحه في عيش حياة كريمة.

محمد الجندي.. مدرسة للاجئين السوريين بلبنان

كانت أولى المقابلات مع الشاب السوري محمد الجندي (18 سنة) المقيم في لبنان، ويعمل بجدّ لبناء مدرسة صغيرة بإمكانيات في غاية البساطة خصصها للأطفال اللاجئين السوريين.

في الصف يستقبل التلاميذ المخرجة “فاسور” بالتحية والترحيب، وهو ما يعكس امتنانهم للفكرة وحُبهم للتعليم، حيث ينطلق محمد من تجربته كطفل لاجئ جاء مع أسرته إلى لبنان هربا من جحيم الحرب الأهلية، حيث يجد الشاب في التعليم فرصة لتأمين مستقبل أفضل للحاصلين عليه، وبشكل خاص للاجئ الذي تقلّ فرصه، وبالتالي فإنها تشكل أملا وأيضا ساحة للعب، والأهم أنها جزء من تكوين هوية اللاجئ في منفاه.

تطهير البيئة.. حملة ضد قمامة البلاستيك والسياسيين

بعدها تقوم صانعة الفيلم بعرض لقطات سريعة لمبادرات شبابية فعّالة تدعو للحدّ من التلوث البيئي، وتقليل الاحتباس الحراري المُهدد للوجود فوق كوكب الأرض، والعمل على مساعدة الغير.

الناشطة البيئية الشابة “ميلاتي ويسن” رفقة اللاجئ السوري محمد الجندي ومبادرته لبناء مدرسة للاجئين السوريين في لبنان

 

في بعض اللقطات تظهر الناشطة السويدية الصغيرة “غريتا تونبيرغ” وهي تدعو السياسيين للكف عن الأكاذيب والكلام الفارغ، والعمل بدلا منها وبصدق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عالم مُعرّض لمخاطر حقيقية، كما تظهر “ميلاتي” وهي تقود مظاهرات سلمية في إطار حملتها التوعوية للتقليل من استهلاك البلاستيك في حياتنا اليومية.

تزور “ميلاتي” مدارس إندونيسية تشرح لتلاميذها أضرار المواد الكيميائية المُصنعة منها، وأهمية استبدالها بأخرى طبيعية صديقة للبيئة، كما تظهر في لقطات مشابهة شابة بريطانية الأصل اسمها “ماري فين” في اليونان وهي تتحدث عن نشاطها لإنقاذ المهاجرين من الموت غرقا وهم في طريقهم إلى جزيرة ليسبوس اليونانية.

حمل القاصرات من أجل الزواج.. اغتصاب مقنن في ملاوي

ينتقل الوثائقي إلى ملاوي لمتابعة الدور الذي تلعبه الشابة “ميموري باندا” في تعليم الفتيات في بلدها، إلى جانب مبادراتها الشخصية للحد من ظاهرة الزواج المبكر وفق أعراف قديمة لا تتناسب مع احتياجات المجتمع وتطور العصر.

تقدم “ميموري” لصانعة الوثائقي أرقاما ونسبا مئوية عن الظاهرة، ومن خلالها يتضح أن أكثر من 40% من الفتيات يتزوجن قبل بلوغهن سن الرشد، وأنهن يجبرن بسبب ذلك على ترك مقاعد الدراسة، ولهذا فإن حوالي 50% من مجموع السكان عاطل فعليا عن المشاركة في تطوير أوضاعه الاقتصادية.

الشابة “ميموري باندا” لديها مبادرة شخصية للحد من ظاهرة الزواج المبكر في ملاوي

 

من كلامها يتضح أن القبيلة وكبار رجالها يقفون عقبة في وجه ذلك التطور من خلال إصرارهم على اتباع العادات القديمة التي بموجبها تقدم الصبية وهي في عمر الطفولة لرجل يقوم بمجامعتها، ويعد هذا الفعل بمثابة إعلان عن نضج الفتاة واستعدادها للزواج، وفي الغالب تحمل الفتاة منه، وتجبر لهذا بالزواج منه، وتعتبر “ميموري” ذلك الفعل اغتصابا مقننا، وتعمل على تخليص المجتمع منه من خلال إصدار الدولة قوانين رسمية تحد من ممارسته أو منعه تماما.

وقد اتبعت الناشطة المجتمعية أسلوبا ذكيا لتحقيق ذلك، وتمثل أولا في إقناع زعماء قبائل بالفكرة، مما انعكس إيجابا على قطاعات كبيرة من السكان بدأت برفض تزويج بناتها بتلك الطريقة ومنحهن حرية اختيار الرجل المناسب.

هذا الفعل ساعد على دخول الفتيات في مجالات العمل والتعليم، نتائجه الأولية أقنعت سياسيين وأعضاء مجلس الشعب بجدواه، واليوم يشكل هؤلاء مجموعة ضغط تعمل من أجل إصدار قوانين تحد من الظاهرة، وتشجع على تعليم الفتيات والمشاركة في الحياة الاقتصادية.

أحياء البرازيل الفقيرة.. صحيفة محلية تواجه الخطر القادم

في البرازيل تعاني المناطق الفقيرة في المدن الكبرى معاناتين، معاناة نفوذ رجال العصابات وتجار المخدرات من جهة، ومعاناة اقتحامات رجال الشرطة لها بحثا عن المخدرات، وغالبا ما يسقط مدنيون أبرياء جراءها لعدم مراعاة وجودهم والتعامل معهم، وكأنهم جميعا متورطون بأعمال إجرامية.

المناطق الفقيرة في البرازيل تعاني من اقتحامات رجال الشرطة بحثا عن رجال العصابات وتجار المخدرات

 

هذا الوضع غير السوي المبني على حكم مسبق واستخفاف بقيمة الناس الفقراء انتبه إليه الشاب “ريني سيلفا” مبكرا، لهذا فكّر بإصدار مطبوع محلي يفضح ممارسة الجهتين، ويدار المشروع التطوعي من قبله، وقد جاءت الفكرة بسبب التغطيات الرسمية التي تحاول غالبا تبريز دور الشرطة والتستر على جرائمها، ومن الناحية المهنية تميل إلى تضخيم ما يجري في تلك المناطق من أحداث.

بالمقابل هناك محاولات مخلصة من قبل صحفيين يحاولون نقل حقيقة ما يجري في المناطق الفقيرة من العاصمة بروح موضوعية، غير أن نزاهة كثير منهم أدت إلى تصفيتهم من قبل الشرطة ورجال العصابات. وبالأرقام فقد قُتل خلال عام 2020 لوحده قرابة 400 صحفي، 264 من بينهم أصولهم أمريكية لاتينية.

خلال مرور فريق العمل بأحياء شعبية وهم في طريقهم لمقابلة الناشط البرازيلي يشاهدون على جدران المنازل ونوافذها آثار الرصاص الذي تركته المواجهات بين الشرطة والعصابات، يخبرهم الشاب الصحفي بتاريخ صدور صحيفة “فوز دا كومينيداتي” المحلية التي جاءت كنوع من الحماية، لا من الموت القادم من كل الجهات فحسب، بل من التشويه الذي يلحق بالأحياء الفقيرة.

“ريني سيلفا”.. تغيير الصورة النمطية ضد الفقراء والملونين

انطلق “ريني سيلفا” من فكرة أن المقيم بين سكانها لا يشبه في تغطيته الآخر المقيم في بيوت فاخرة ويتمتع بجمال سواحل البحر. ولنقل الحقيقية -حسب رأيه- لا بد من نقل ما يجري فيها بشكل موضوعي من داخلها، فصحيفته الدورية ذاع صيتها، ومع الوقت صارت مصدرا موثوقا لكثير من وسائل الإعلام العالمية، يتصل به محرروها ويسألونه عن المشاكل والأحداث الجارية فيها.

الشاب “ريني سيلفا” الذي فكّر بإنشاء صحيفة محلية من قلب المدن البرازيلية الفقيرة

 

لقد استطاع هذا الشاب تغيير الصورة السلبية عن منطقته بمبادرة شجاعة يُعرّض نفسه للخطر بسببها في كل لحظة، ومع ازدياد شعبية صحيفة “فوز” تنوعت مقالاتها المتناولة لأوضاع الفقراء في العاصمة، وعرض التباين الكبير في مستوى الخدمات المقدمة لها من قبل الحكومة، مقارنة بتلك المقدمة لسكان المناطق الغنية منها.

تركز مقالاته أيضا على التمييز العرقي بين السود والبيض في بلد أغلبية سكانه من ذوي البشرة السمراء، وبالرغم من ذلك ففرص حصولهم على الوظائف -وبشكل خاص في حقل الإعلام- معدومة تقريبا، وأكثرها ممنوح للشقر وبيض البشرة.

من أجل التخلص من ذلك لا بد من رفع أصوات سكانها عاليا لتسمعه الحكومة أولا، ثم لتشكيل رأي عام قادر على الضغط عليها من أجل تحسين أحوال تلك المناطق المنكوبة بالمخدرات والنظرة الفوقية المتعالية، لكن فيها بالمقابل من المبدعين ما لا يحصى عددهم، وهذا ما عمل الوثائقي على رصده أثناء وجوده في البرازيل، ومن خلال حواره مع الصحفي الشاب المدرك لواقع بلده ومناطقه الفقيرة.

أهازيج الدفاع عن أرض السكان الأصليين.. رسالة إلى الحكومة الأمريكية

يمر الوثائقي على نشطاء ومبادرين في مناطق مختلفة من العالم، ويتوقف عند مواطن أمريكي من السكان الهنود الأصليين يقوم بحملات توعية من خلال الموسيقى والغناء، وينبه فيها إلى الأخطار البيئية التي تتعرض لها الحياة البرية الحاضنة للسكان الأصليين، إذ يجري تخريبها من خلال إقامة المشاريع الصناعية الكبيرة بجانبها، مما يسهم في تلويث مياهها وتربتها، ويؤثر سلبا على صحة سكانها.

الناشط الأمريكي “شيتيستال مارتينز” يستخدم الموسيقى والغناء للتنبيه بالأخطار التي تتعرض لها الحياة البرية الحاضنة للسكان الأصليين

 

أثناء وجوده في مركز ثقافي ينظم فيه حفلاته، يشرح الناشط الأمريكي “شيتيستال مارتينز” لصُنّاع الوثائقي تفاصيل التخريب المنهجي الذي تقوم به الشركات الصناعية الكبيرة، وعبر أغانيه المقدمة خلالها يدعو الحكومة الأمريكية للكف عن تخريب أرض أجداده الأصليين.

“ويني توشالي”.. استغلال أيادي اللاجئين لإنقاذ الأرض

“ويني توشالي” هي ناشطة شابة من أوغندا تعمل على الدمج بين اللاجئين الأفارقة في المناطق التي فرّوا إليها هربا من الحروب الأهلية والجوع، وبين مواطني البلد، وتخبر صنّاع الوثائقي أن إقامتهم في المخيمات وكثرة أعدادهم أثارت حفيظة المواطنين الأوغنديين، خاصة المزارعين منهم الذين نظروا إليهم كمصدر لاستنزاف جهدهم ومواردهم.

لكن بعد زجّهم في مشروع تطوعي تديره بنفسها تغيّر الكثير، وعاد بالنفع على الطرفين بعدما أحسّا بالتكامل الحاصل بينهما، الذي أدى إلى إصلاح مساحات من الأراضي التي كادت تموت بسبب الاستخدام المنفلت للمواد الكيميائية السامة.

الناشطة الأوغندية “ويني توشالي” التي تعمل على دمج اللاجئين الأفارقة في المناطق التي فرّوا إليها هربا من الحروب الأهلية والجوع، وبين مواطني البلد

 

تركزت مبادرتها على تأسيس مشاريع زراعية صغيرة مشتركة تراعي البيئة، وتعتمد في طريقة زراعتها على المواد الطبيعية. هكذا بدأ المزارع المهاجر الحصول على مصدر رزق وأرض أيضا، وبما يحصلون عليه يؤمنون به عيشهم، ويتخلصون نهائيا من الاعتماد على غيرهم، وبالتالي يسهل اندماجهم مع سكان تلك المناطق.

إعادة إحياء التربة.. عقد التصالح بين المواطن والغريب

جاءت الفكرة التي تبنتها الناشطة الأوغندية بناء على معطيات تقول إن استخدام الكيميائيات الزراعية خلال السنوات العشرة الأخيرة أدى إلى تدمير مساحات كبيرة من التربة، فلم تعد صالحة للزراعة، وتشير بالأرقام -حسب المنظمة الدولية للزراعة “فاو”- إلى أن 84% من الأراضي والمنتوجات الزراعية في القارة الأفريقية قد فقدت جودتها، وهذا يعني بالنسبة لها حالة موت لا يمكن السكوت عنها.

التوجه نحو الزراعية الطبيعية يمكن أن يساهم فيه اللاجئون الأفارقة بشكل فعّال، من خلال تمليكهم بعض الأراضي، والتشارك مع أبناء البلد لزراعتها، مما يؤمن سلامة التربة والنباتات. هذا ما عملت عليه الناشطة، وقد خلق حالة ارتياح عند المواطنين من وجود المهاجرين والأغراب بينهم، ما داموا يعملون ويصلحون ما خربوه بأنفسهم.

 

تطورت المبادرة الإنسانية وتحولت إلى نقطة لتبادل الثقافات والمعلومات التي تنفع الطرفين، إلى جانب تشجيع النساء على المشاركة في العمل بالأرض وحتى امتلاكها.

“ماري فين”.. ناشطة مرابطة على ثغور الإنسانية في اليونان

لا تكل الناشطة البريطانية “ماري فين” الموجودة في اليونان عن تقديم العون للاجئي القوارب المطاطية، حيث تسبق رجال خفر السواحل للوصول إليهم في عمق البحر من أجل منع إرجاعهم.

عملها محفوف بالأخطار، لكنها لا تبالي بها، فبالنسبة لها فإن تقديم العون لهم واجب أخلاقي وإنساني، فمبادرتها لا تنحصر في ذلك الجانب، بل تتعداه إلى جمع وإتلاف كل القوارب المطاطية المهترئة، وواقيات الماء ذات النوعية السيئة التي يموت بسببها كثير من الأبرياء الهاربين من الحروب غرقا.

الناشطة البيئية “ميلاتي ويسن” رفقة الناشطة البريطانية “ماري فين” الموجودة في اليونان لتقديم العون للاجئي القوارب المطاطية

 

يرافق الوثائقي الناشطة إلى المقبرة التي تجري فيها عملية حرق تلك المواد الواصلة للسواحل، منعا للمهربين من إعادة استخدامها ثانية.

جبال النفاية وسيول البلاستيك.. مستقبل الكوكب القاتم

بعد جولتها تلك في أرجاء العالم تعود “ميلاتي” لوطنها، وتنقل صورا مخيفة عن الخراب البيئي الحاصل في إندونيسيا، صور رائعة منقولة بعدسات حساسة تلم بالتفاصيل، حيث جبال من النفايات المنتشرة في كل مكان، وكميات هائلة من البلاستيك تتسرب إلى مياه البحر، كما تتسرب إليها نفايات العاصمة وقذاراتها.

كل أبعاد هذا المشهد المخيف تُهدد بموت الأرض والبحر، لهذا تجد “ميلاتي” في مبادرات أمثالها من الشباب ما يشجع إلى دعوة آخرين للمشاركة في الأعمال الشجاعة والمفيدة لكل سكان الأرض، فما هو محلي له مردودات كونية.

هذه هي خلاصة جولتها في جهات الأرض، وحصيلتها وثائقي أكثر من رائع.