“في زاوية أمي”.. رحلة البحث عن الذات في قرية مغربية

عبد الكريم قادري

“منذ الطفولة وأنا أرى صورة محددة بين أمتعة أمّي، هي صورة قديمة عبارة عن بطاقة بريدية، وبعد مرور السنين صارت تلك الصورة بين كتبنا، فأنا مثلا كنت أضعها بين أوراق القصص التي أقرؤها حيث توقفت. لاحقا وبينما كنت أبحث عن وثائق بين أمتعة أمي وجدتها بين هذه الأمتعة، ثم سألت أمي بشأنها، فأجابت بأنها صورة القرية التي ولدتْ فيها، وقد غادرَتها وهي طفلة صغيرة ولم تعد إليها أبدا”.

فما قصة هذه الصورة التي تحدثت عنها المخرجة أسماء المدير في فيلمها “في زاوية أمي”، وما حكاية هذه القرية التي راحت تبحث عن سرّها في قلب جبال الأطلسي المغربية؟

 

ذاكرة الطفولة.. حفريات الماضي تحت سفوح الجبال

أظهرت المخرجة المغربية أسماء المدير كينونتها التي كانت تختبئ في ذاكرتها منذ الطفولة، مستغلة تراكمات الماضي وشجونه لتؤسس رؤيا فيلمها الوثائقي الأول “في زاوية أمي” (2020)، وتنطلق فيه بكل ثقة من أجل عكس تلك التراكمات في صور متحركة تربط من خلالها الماضي بالحاضر، وترسم للمستقبل خيوط أمل لكل من يتطلع له، مستفيدة من موهبتها السينمائية بتحويل حفريات القلب والعقل وما زرع فيهما من خيال إلى أشياء مرئية.

أرتنا المدير طفولة أمها وماضيها، وربطتها بمآلات القرية وواقعها الحالي الذي لم يتغير كثيرا عن الماضي. كل هذا في قرية “زاوية” التي تقع شمال المملكة المغربية بمنطقة بني ملال، وتنام تحت سفوح جبال الأطلس التي تحيط بها، بجانب الوادي الذي يجري بجانبها منذ مئات السنين.

يوثّق هذا الفيلم الذاتي للمخرجة وهي تبحث في هذه المنطقة عن الخطوات والدروب التي سارت عليها أمها وهي صغيرة، وذلك قبل هجرها للقرية بشكل نهائي دون أن تعود إليها، بسبب ظروف الحياة الصعبة والقاسية جدا.

إنها المعطيات الموجعة التي وقفت عليها المخرجة شخصيا عند تحقيقها لهذا الفيلم، إذ خبِرت فيها ما عاشته وعايشته أمها وعائلتها عندما كانت فيها، وفي الوقت نفسه لامست جذورها ومنبتها، وعرفت عن كثب أصل الأشياء التي ربما تكون قد سمعتها أو حكتها لها أمها، لتطبّقها أسماء المدير أو تعمل بها بوعي أو بدون وعي، ليكون هذا الفيلم بمثابة بطاقة بريدية تفسر ظاهر الأشياء وصورتها المرئية، أما باطنها فقد جاءت المخرجة لتحفر عليه في “زاوية” حتى تكتشف ما خفي منه، عن طريق مخالطة الأهل والعائلات والسكان لمعرفة طريقة عيشهم ونظرتهم للحياة والأشياء في ظلها.

قرية زاوية التي تقع شمال المملكة المغربية بمنطقة بني ملال، وهي مسقط رأس والدة المخرجة أسماء المدير

 

“ذاتية” الصانع.. حضور يعمّق التجربة

استطاعت أسماء المدير أن تقبض على لحظات مهمة في حياة سُكان القرية، بعد أن اقتربت منهم لدرجة أن المتدخلين في الفيلم -أو من ركّزت عليهم الكاميرا- لا يأبهون لوجودها، فقد ألِفوها وأصبحت جزءا من روتينهم اليومي، وهذا ما يُحسب للمخرجة التي عملت على تطويع دهشتهم وتغييبها في صور الفيلم، حتى إن المشاهد بات يرى سكان القرية وهم يسعون لشؤونهم دون أن يشعر بأن هناك آلة تلتقط تلك اليوميات وتصورهم.

كما نجحت المخرجة في جعل هذا الفيلم ذاتيا إلى أقصى حد، سواء من الناحية الموضوعاتية، أو من الناحية الجمالية، إذ نسمع من حين لآخر صوت المخرجة وهو يرافق بعض الصور والمشاهد، لا ليفسرها، بل ليزيد من عمق التجربة ويؤنسنها ويزيد من ذاتيها، عن طريق حكاية ماضي الأم وربطه بحاضر القرية وجراحها.

وأكثر من ذلك، تم إظهار ذاتية المخرجة كصورة في الفيلم، فقد ظهرت وهي تلعب كرة القدم مع سُكان القرية، أو تسبح معهم في الوادي بلباسها الحضري المختلف كليا عن لباس سُكّان القرية، ليعرف المشاهد بأنها هي المخرجة أو من فريق العمل دون أن تصرح بذلك بالصوت.

أم العيد ترى مستقبلها بعينين مغمضتين، وتحمل هم أهلها على أكتافها

 

“أم العيد”.. لغة سينمائية تنتصر للأنثى

ومن هنا تبرز عُمق تجربة المخرجة التي خلقت لغة سينمائية عن طريق الصورة، وهي الجزئية التي تولّد منها سينمائية الفيلم وفنيته، لتكون هذه “الموضعاتية” في مجملها دلالة قوية على الانتصار للأنثى بشكل عام، والانتصار للأم التي كانت جزءا من قرية زاوية في يوم ما.

وقد انعكس هذا الأمر بشكل جلي على الطفلة “أم العيد” التي تجلّت كشخصية “أم المخرجة”، وقد جاءت لتعيد تمثيل وقائع الماضي، لا كتمثيل درامي مُعدّ مسبقا، بل كتمثال ومطابقة، لهذا أعطتها المخرجة حيزا كبيرا من الوقت والظهور لتسرد فيه يومياتها في الرعي وجمع الحطب والتفكير في والدها المريض جدا، وهي الأشغال التي تجسّد قسوة حياة القرى والمناطق المعزولة. وفي الوقت نفسه نقلت أحلامها المُعلقة، وبحثها عن فرصة حتى تكمل دراستها بعيدا عن القرية، وهي الطريقة الوحيدة التي ستجعلها تحلق عاليا لتحقيق أحلامها، ولتبتعد جزئيا عن زاوية كما فعلت سابقا أم المخرجة أسماء المدير.

لم تكن “أم العيد” وحدها في تلك القرية التي تعاني، بل وراءها عائلة كاملة لديها مشاكل لا تنتهي، ومشاكل عائلة “فريد”، وكل من في هذا القرية الذين يعيشون في عزلة بعيدا عن كل مظاهر الحضارة والتمدن بمعناها الجغرافي والخدماتي.

“سكان زاوية وهم يرقصون فرحا في حفل زفاف”

عنوان موارب.. حفز الفضول وخلق الإثارة

جاء عنوان الفيلم مثل متنه حافلا بالدلالات والرمزيات التي تثير الأسئلة، وتفتح على المشاهد أبواب التفاسير وحلّ الشفرات، فعندما يواجهه عنوان “في زاوية أمي”، سيذهب تفكيره إلى أن الفيلم يتحدث عن أم ما، والزاوية سيفسرها بالركن أو المكان أو الجهة التي تعمل فيها أو تمارس فيها هذه الأم نشاطا ما. لكنه عندما يقف على الفيلم، سيرى بأن المعنى مختلف تماما، وأن المقصد بتسمية “زاوية” هي تلك الرقعة الجغرافية التي تقع شمالي المغرب، وقد أُخذت التسمية من المؤسس الأول دادا سعيد أحنصال الذي عاش في القرن السابع للهجري، ومع الوقت أصبحت القرية تحمل تسمية “زاوية أحنصال”، ويحج إليها مئات الأشخاص والعائلات من جميع الجهات سنويا، وذلك من أجل إعداد الولائم وزيارة مقام الولي الصالح.

وكأنّ المخرجة وضعت عنوانا متعدد القراءات، من أجل استدراج المتلقي لطرح الأسئلة والبحث عن إجابة داخل الفيلم، أو في جهات أخرى لإرضاء فضوله المعرفي، والتعريف أكثر بهذه القرية التي تحتفظ بتراث شفهي وعمراني وطبيعي يرضي كل زائر يبحث عما هو مختلف وأصيل.

البطاقة التي وجدتها المخرجة أسماء المدير بين أمتعة والدتها، والتي كانت سببا في ذهابها لمدينتها زاوية المغربية

 

جمالية التصوير.. القبض على اللحظة

استمد فيلم “في زاوية أمي” شرعيته الفنية من العديد من المعطيات التي ذكرتها أو التي لم أتطرق لها، من بينها الإطارات السينمائية “الكادرات” التي تم ضبطها بدقة عالية، من خلال اختيارات زوايا التصوير المتعددة، أو في القبض على اللحظات الزمنية المهمة التي تكون فيه ظروف التصوير مواتية من ناحية الإضاءة وعمران الأيقونة، أو الموضوع المراد تصويره.

وقد ساعد في هذا الأمر المرافقة الطويلة للمخرجة وفريقها، وقد انعكس هذا الأمر في العلاقة والانسجام بين الفريق وشخصيات العمل، ومن ناحية ثانية اختلاف المَشاهد التي عكست تقريبا كافة فصول السنة، إذ نجد مثلا موسم تساقط الثلوج الذي تنعكس قسوته على سكان القرية وظروف معيشتهم، وذوبانه في فصل الربيع، حيث بداية موسم الرعي وعيش فصل جديد، إلى فصل الصيف وحرارته واستغلاله للسباحة في الوادي.

وقد تم القبض على هذه اللحظات المهمة من خلال المرافقة الطويلة التي استمرت عدة شهور وربما أكثر، لهذا نجد هذا التنوع الكبير في الصور ومواضيعها، وهي من الموجودات الفنية التي تزرع الطمأنينة المشهدية لدى المتلقي الذي يبحث عن التجديد والتنوع والمختلف، ليصنع بها فرحه وفرجته الفنية.

الفيلم نقل المعاناة الكبيرة التي يعيشها سكان القرى بشكل عام، أهمها التسرب من المدارس

 

أهل القرية.. معاناة لا تنتهي وأحلام مؤجلة

نقل الفيلم المعاناة الكبيرة التي يعيشها سكان القرى بشكل عام، وقد تمّ هذا النقل بذكاء كبير من المخرجة التي أظهرت موهبتها في هذه الباكورة، فهي لم تنقل الوجع بطريقة فجّة ومباشرة، بل وضعته كرمز يُستنبط بسهولة دون تعقيد، مثل تعدد مشاهد الطعام الذي ينعكس من خلال الرغيف والشاي، وهذا ما يوحي بأن أغلب الوجبات لدى السكان تنعكس في هذه الأكلة التي تجتمع العائلات حولها. وكذلك مشاكل التسرب المدرسي المُبكر، بسبب البعد عن مراكز التعليم التي يتطلب الوصول لها جهدا كبيرا، حتى إن مراحل التعليم المتقدمة أصبحت حلما وأمنية لدى الكثير من التلاميذ. إضافة إلى نقص الرعاية الصحية، وعدم ثقة السكان المحليين في النظام الصحي كله.

وليس أدل من ذلك من والد “أم العيد” الذي ينتظر أجله على فراش الموت موصيا أولاده بأن لا ينقلوه للمستشفى تحت أي ظرف ومهما تقدم به المرض. كما يدل عليه عدم وجود مشاريع تولّد وظائف، لهذا تجد معظم السكان في بطالة قاتلة، ولا سبيل لهم سوى تربية المواشي والقيام ببعض النشاطات المحدودة مثل الفلاحة، لكنها نشاطات مؤقتة تقضي عليها الثلوج وفصل الشتاء القاسي في المنطقة.

الفيلم الوثائقي “في زاوية أمي” من الأفلام العربية الجيدة التي أنتجت سنة 2020، وتم التأكيد على هذه الجودة من خلال المشاركة في الدورة الـ33 لمهرجان “إدفا” السينمائي الذي انعقد خلال الفترة من 18 وحتى22 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في أمستردام الهولندية.

ويعد هذا المهرجان من بين أهم وأقوى التظاهرات العالمية التي تجمع الأفلام الوثائقية، ودخول أو مشاركة أي فيلم يُعدّ انتصارا للمخرج والفيلم والجهة المنتجة، وفي حالة هذا الفيلم فإن قناة “الجزيرة الوثائقية” هي من أنتجته وصاحبت المخرجة منذ بداية الفيلم إلى غاية صيغته النهائية.