“الجحيم السيبراني”.. جرائم استغلال القاصرات في غرف الدردشة المظلمة

عبد الكريم قادري

بعد أن تواصل معه الصحفي بوصفه العقل المدبر لصناعة المحتوى الجنسي على القاصرات اشتاط غضبا، وهدده في حالة بث التحقيق بأن يجعل إحداهن ترمي بنفسها أو تحرق جسدها في مقر قناته، لتُسارع الشرطة للكشف عن المجرمين والضحايا لمنع الجريمة قبل حدوثها، فهل تنجح في فعل هذا وتوقف مجرمي الإنترنت؟

“تشوي جين سونغ”.. مخرج قرع طبول الخوف في عالم مظلم

استطاع المخرج الكوري الجنوبي “تشوي جين سونغ” أن يسلط الضوء على مشاكل الحاضر وتداعياته الكثيرة فيما يخص إفرازات التكنولوجيا الحديثة وارتدادها السلبي على الإنسان، وهذا من خلال فيلمه المهم “الجحيم السيبراني.. فضح رعب الإنترنت” (Cyber Hell.. Exposing an Internet Horror) الذي عُرض في النصف الثاني من سنة 2022.

 

لقد اختار المخرج هذا الموضوع الدقيق والمهم ليقرع به طبول الخوف والفزع لكل فرد، لينتبه جيدا لما يمكن أن يحدث لأي مراهقة، ولأي شخص يستعمل مواقع الإنترنت المختلفة، انطلاقا من جرائم باتت ترتكب بشكل يومي في الفضاء الافتراضي الذي بات أقرب للواقع، لأن أذيته أكثر أثرا ووقعا من الجرائم العادية، أو التي بات يُطلق عليها الجرائم الكلاسيكية، خاصة ما يحدث في الدردشات المشفرة.

هذه هي النقطة أو الزاوية التي ذهب “تشوي جين سونغ” صوبها، ليظهر بها حفرة من حفر الجحيم السيبراني المتعددة، انطلاقا من القاصرات اللواتي لم يتجاوز سن كثير منهن عمر الـ12 عاما، فقد أرغمن من خلال الابتزاز والمساومة والتهديد على صناعة المحتوى الجنسي ونشره في مواقع الدردشة المشفرة والمغلقة للرواد الذين يدفعون مقابل مشاهدتها بالعملات الرقمية، وذلك في عالم الإنترنت المظلم الذي لا يُعرف عنه الكثير.

غرف التلغرام المشفرة.. مسرح جرائم الابتزاز الجنسي

ركّز المخرج على قصة مهمة هزّت الرأي العام الكوري الجنوبي، وذهب صوب بداية تشكلها وانتشارها ومعالجتها، وهذا من خلال غرفة دردشة مشفرة انتشرت في مدينة سيول الكورية أنشئت على تطبيق تلغرام بواسطة شخص سمى نفسه “غود غود”.

صورة تعبيرية من الفيلم تعكس معاناة الفتيات القاصرات ومعاناتهن جراء الابتزاز

 

يقوم “غود غود” بإرسال رابط إلى الضحايا القُصر اللواتي يختارهن بعناية فائقة، ثم يستولي على صورهن، ومن ثم يعيد إرسالها لهن، بعد أن يقوم بابتزازهن بقوله إنهن إن لم يذعنّ له فسيقوم بإرسالها لعائلاتهن، ويقوم بإعطائهن عناوين بيوتهن وأسماء أفراد أسرهن وأقاربهن، وهو الأمر الذي يجعل الفتاة القاصرة تستجيب له، ويبدأ معها في ممارسة ألعابه القذرة.

يدخل بعدها شخص آخر اسمه “باكسا”، وهو أشد فتكا وإجراما من “غود غود”، فقد أنشأ غرف دردشة سرية، ونصب عليها مدراء مجموعات، وبدؤوا في نشر صور الفتيات من خلال وضعيات مختلفة، وأكثر من هذا كان يأمرهن بكتابة اسمه على أجسادهن، حتى تصبح الصورة كملكية خاصة، وكأنه وسم شركة، إضافة إلى كثير من الألاعيب.

 

بعد نشر المحتوى الجنسي في الموقع المشفر وفي الإنترنت المظلم تصبح القاصرات بلا حياة، فمصيرهن معلق بيدي “باكسا” و”غود غود”، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الصحفي “كيم وان” قطع عطلته والعودة إلى جريدته في أسرع وقت، من أجل التحري والبحث في هذه القصة الخطيرة.

“كيم وان”.. سخرية وبرود يواجهان الصحفي الذي كشف الجريمة

فتح الصحفي “كيم وان” العامل في جريدة “ذا هانكيوريه” تحقيقا في هذا الموضوع بعد جمع فريق موسع من الصحفيين، من بينهم الصحفية “يون سيو أوه”، وهذا بعد أن وجدوا بأن الموضوع خطير ويحتاج إلى تركيز وجمع معلومات.

وبعد جهد ووقت نشر التحقيق في الصفحة الأولى من الجريدة، لكن لم يلتفت إليه رغم خطورته، بل قوبل ببرودة من القراء، ولم يجلب أي اهتمام على عكس ما كانوا يتوقعونه، وأكثر من هذا فقد تدوولت صور الصحفي في تلك المواقع التي يشرف عليها هؤلاء “الهاكر”، مع نشر أخبار وفيديوهات شخصية عن أولاده وزوجته، بل وصل الأمر حد استعمال إحدى ضحايا المحتوى الجنسي، إذ كتب على جسمها العاري بأنها ضحية الصحفي والجريدة.

لحظة اعتقال المجرم واقتياده للعدالة

 

أصبح الصحفي محل سخرية من تلك المواقع، وبات مهددا في أسرته وعائلته، لكن برنامجا إذاعيا آخر أعجب بالقصة، لهذا قرر بث تحقيق في الأمر، ويتعلق الأمر بحصة “سبوت لايت” الذي تبثه قناة “أس بي أس”.

وعند التحقيق بدأ التواصل مع المجرم الخطير “باكسا”، وفي الوقت نفسه قدمت جهة تسمي نفسها “الشعلة” دعما معلوماتيا كبيرا للصحفي من أجل الوصول بعض الحقائق، لكن “باكسا” أطلق تهديدا خطيرا في حالة بث الحصة، وفحوى التهديد بأنه سيجعل واحدة من “إمائه” ترمي نفسها من مقر الإذاعة أو تحرق نفسها.

فتحت الشرطة تحقيقا معمقا في الأمر لمعرفة الضحية المحتملة، وبعد الجهود الجبارة استطاعوا الوصول إليها ومراقبتها عن قُرب حتى لا يقع استغلالها، وفي الوقت نفسه بدأ تشكيل فريق مكوّن من أكثر من 40 فردا للقبض على هذا المجرم الخطير الذي جلب اهتمام الرأي العام الكوري بعد بث البرنامج.

اعتقال المحتالين.. تحالف الصحافة والشرطة يصنع الحدث

تعاون رجال الشرطة والصحفيين و”الشعلة” ومكاتب المخترقين القانونية، من أجل معرفة هوية “باكسا” الذي كان يستعمل حيلا جهنمية ويسبقهم دائما بخطوات، كما أنه كان يُحصّل الأموال من عند المشتركين عن طريق مدرائه الذين لا يعرفونه، حتى أنه يجمع رزم المال عن طريق سعاة يرمون الأموال في مكان معين، ثم يأتي من يلتقطه بعد مدة، وهكذا استطاعوا الوصول له بعد عمل جبار استغرق منهم كثيرا من الوقت، كما اتفقوا على ضرورة القبض عليه في حالة تلبس كي لا يغلق حسابه في تطبيق “تليغرام” وتضيع جميع الأدلة، وهذا ما حدث بالضبط.

بفضل عمل الصحفيين وإصرارهم على كشف الحقيقة رغم الأخطار قُبض على المجرمين

 

وبعد شهور أخرى ساعد أحد المخترقين بالوصول إلى “غود غود” الذي اختفى بشكل نهائي، وهذا حين أرسلوا له رابطا مقرصنا، وعندما فتحه حصلوا على عدد من المعلومات حوله، ليبدأ تتبعه والقبض عليه هو الآخر، رغم أن الأمر كان صعبا، لأنه كان يستعمل الهواتف الخردة التي كان يجدها في محل أبيه بائع الخردة، وبفضل التكاثف والتعاون بين عدد من الجهات قبض عليه هو الآخر.

“أشكركم على وضع حد للشيطان الذي لم أستطع إيقافه”

سألت الصحفية “باكسا” واسمه الحقيقي “جو بين تشو” بعد التحقيق معه من طرف الشرطة عن ما يود قوله، فقال “أشكركم على وضع حد للشيطان الذي لم أستطع إيقافه”، لكنه لم يعتذر للضحايا الذين تسبب في أذيتهم. أما “غود غود” واسمه الحقيقي “هيونغ ووك مون”، فقد صرح بأن السبب الذي جعله يقوم بتلك الأفعال هو أنه يعاني من اضطرابات جنسية.

حكم على “باكسا” بـ42 عاما سجنا نافذا، وقد قبض عليه بعد جهد كبير

 

حكمت المحكمة العليا في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021 على “باكسا” بالسجن لمدة 42 سنة سجنا نافذا، بعد أن ثبت بأنه أجبر 25 ضحية على تصوير محتوى استغلال جنسي، كما حُكم على “غود غود” في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021 بمدة 34 سنة سجنا نافذا، بعد أن ثبت إجباره لحوالي 20 ضحية على تصوير محتوى استغلال جنسي.

كما قُبض على 3757 شخصا متورطا في جرائم مجموعات الدردشة المشفرة هذه، وسُجن 245 شخصا، ووُضع حد لهذه الجرائم العابرة للحدود، لكنهم لم يستطيعوا إيقاف كل الجرائم الإلكترونية أو صور تلك الضحايا التي لا تزال تُباع إلى غاية اليوم في الإنترنت المظلم.

مشاهد تمثيلية ورسوم.. صرخة فنية مدوّية في وجه التكنولوجيا

لم يكتفِ المخرج الكوري الجنوبي “تشوي جين سونغ” في فيلمه “الجحيم السيبراني: فضح رعب الإنترنت” (ساعة و45 دقيقة) بالحقائق والضيوف والشهود لرسم معالم هذا العمل، بل أعاد تجسيد مشاهد تمثيلية لتقريب الفكرة أكثر من المتلقي، وجعله يستوعب الموضوع بأقصى درجة من العمق.

كما دعم الفيلم بالرسوم المتحركة ذات الأبعاد الفكرية والتأملية، حتى يزرع فيه اللمسة الفكرية المهمة، إضافة إلى الجماليات البصرية التي تغذي الذائقة من خلال تعدد أشكال السرد والتلقي.

ليكون الفيلم في مجمله من ناحية الموضوع صرخة قوية في وجه سلبيات التكنولوجيا، ويدعو في الوقت نفسه إلى ضرورة حماية الأسر من الانفلات ومن الخطر الذي يتهددهم، ولن يكون هذا إلا من خلال زرع الوعي وتلقي منطلقات الأمن السيبراني.