“قضاة تحت الضغط”.. صراع حصون العدالة المحاصرة في بولندا

كاميرا تهتز وهي تتنقل بين جموع قليلة من المتظاهرين يحيط بهم عدد كبير من رجال الشرطة، وامرأة مسنة تحمل علم الاتحاد الأوروبي جنبا إلى جنب مع علم بلدها بولندا، وفوضى وخوف باديان على الجميع. كل هذا سيقطعه صوت عنيف كأنه لقنبلة انفجرت للتو، ليعم السكون للحظات على الشاشة.

بهذه الافتتاحية التي يطبعها الخوف يبدأ فيلم “قضاة تحت الضغط” (Judges Under Pressure) زمنه، ويمهد له بمقدمة تعريفية عن الأحداث التي سبقت هذه التظاهرة، إذ أن حزب العدالة والقانون اليميني البولندي (PIS) قد فاز بالانتخابات البرلمانية البولندية في عام 2015، وهذا ما سيقود إلى تغييرات ومواجهات كبيرة في بنية مجتمع الدولة الأوروبية الشرقية، ستصل إلى النظام القضائي نفسه.

يركز هذا الفيلم الوثائقي الذي أخرجه البولندي “كاسبر ليسوفسكي” على هذه المواجهة التي ما زالت متواصلة بين الحكومة البولندية اليمينية والنظام القضائي في البلد، وهي تهدف في جوهرها إلى تفريغ مؤسسات الدولة الديمقراطية من ثقلها القانوني والرمزي، وتعزيز سلطة الحكومة التي كانت قد بدأت في سن قوانين جدليّة، يقف بعضها على النقيض من أسس الدول الديمقراطية والليبرالية.

تغييرات جديدة.. يوميات قاضٍ شاب في مواجهة السلطة

عبر زمن الفيلم الوثائقي نطلع على يوميات قضاة بعينهم وهم يواجهون التغييرات الجديدة في مجتمعهم، إذ يطال الكثير منها القضاة شخصيا، مثل القاضي الشاب الذي نتعرف عليه في بداية الفيلم، فقد انتزعت الحماية القانونية عن عمله، وسمح للإعلام في البلد بالحصول على معلومات تخص القضية التي كان يحكم بها، والتي أثارت غضب الحكومة.

سيكون هذا القاضي الشاب إحدى الشخصيات المهمة في الفيلم، وسيكون الفيلم إلى جانبه وهو يمرّ بأوقات سوداء وعصيبة، فالضغط الذي كان يعيش تحته كان أكبر من قدرته على التحمل أحيانا، وظهر في مناسبات وكأنه قريب من خسارة المعركة، قبل أن يعود الى المواجهة مجددا، مُعتمدا على دعم زملاء له.

“اذهبي إلى الجحيم”.. معركة الحفاظ على سمعة القضاء

“أحصل على الكثير من عبارة اذهبي إلى الجحيم هذه الأيام”. تبتسم القاضية الأنيقة بسخرية مريرة للكاميرا، عندما كانت تقرأ الرسائل التي تصلها من مجهولين، ويتضمن الكثير منها شتائم وتهديدات.

نجحت الحكومة اليمينية والأجهزة الإعلامية القريبة منها في شيطنة القضاة في البلد، لتتركهم وحيدين أحيانا في معركتهم للحفاظ على سمعة القضاء في بولندا، مع بعض الاهتمام الشعبي النخبوي، ومساعدة من الخارج ستتكشف في الجزء الختامي من الفيلم.

أحد القضاة في الفيلم والذي يجد نفسه في مواجهة السلطة

يظهر الفيلم في مشاهد مختلفة المزاج الشعبي البولندي العام الذي يرى في القضاء عقبة أمام تغييرات كبيرة ومستعجلة كان يجب أن تقوم بها الحكومة البولندية الشعبية، مثل ذلك المشهد الطويل لأحد قضاة الفيلم وهو يقرأ التعليقات الغاضبة لبولنديين عاديين على قضيته في مواقع الإنترنت.

يُسجل الفيلم على مدار سنوات الصراع الدائر بين الحكومة والقضاة، ويختار محطات مهمة من ذلك الصراع، إلى جانب مشاهد خاصة من حياة القضاة الذين خاضوا الصراع، وعانوا كثيرا بسببه.

حميمية الكاميرا.. ثقة القضاة تصنع أريحية الفيلم

من الواضح أن الفيلم حصل على ثقة القضاة الذين ظهروا في الفيلم منذ بداية المشروع، فقد فتحوا بيوتهم وقلوبهم لكاميرات الفيلم، لتكون النتيجة مجموعة معتبرة من المشاهد الحميمية تمر بحنان كبير على تضحياتهم، مثل المشاهد التي تسجل الحياة العائلية لأحد القضاة، حين كان يُحضر من منزله الريفي لمرافعة مهمة ضد تقييد حرية القضاء، بينما بناته الصغيرات كن يلعبن حول أبيهن ويجررن شعره.

ومن المشاهد الطويلة المؤثرة في الفيلم مشهد ظهر فيه القاضي الشاب وهو يرتجف من البرد بعد أن شارك في نشاط عام، فقد ركزت الكاميرا طويلا على يديه المرتعشتين، بينما بدا التعب واضحا على وجهه.

سيجسد هذا القاضي ما يشبه ضمير القضية في الفيلم، وسيقرب مهنة القضاء من الواقع اليومي المعاش، وينزع عنها شكليات الوقار، ويذكر بحضوره المعذب بأن القضاة هم بشر عاديون، بل يحمل الكثير منهم العبء الأخلاقي الثقيل لحماية القانون وتطبيقه.

حملة ضد القضاة في مجلس النواب.. تعقيدات الصراع

لعل تعقيد الصراع القانوني بين الحكومة البولندية والقضاة في البلد انعكس على هذا الفيلم، إذ بقي هذا التعقيد على حاله، رغم المحاولات المتكررة للفيلم لتبسيطه، ورغم التفاصيل المتعددة التي أبرزها الفيلم ضمن سياقاته المتنوعة.

القضاة النساء في المواجهة أيضا لحماية مؤسسة القضاء

ومن التفاصيل التي تبرز تعقيد هذا الصراع محاولات بعض القضاة أنفسهم تفسيره للناس في بلدهم، كما فعل القاضي الشاب في الفيلم، إذ كان يزور مهرجانات موسيقية ليقدم بين الحفلات هناك ما يشبه المحاضرات عن أهمية وجود نظام قضائي محايد ومستقل وبعيد عن كل التأثيرات الحكومية.

يمر العمل الوثائقي على محاولات الطرف الآخر في الصراع -الحكومة والمقربين منها- لتشويه سمعة القضاة في البلد، فيعرض مشاهد لنقاشات في مجلس النواب البولندي يتهم فيها القضاة بالأرستقراطية الفكرية، وبعدهم عن حركة المجتمع، ووقوفهم بوجه التغييرات التي تنوي الحكومة البدء بها.

قضاة أوروبا.. مظاهرة في العاصمة لدعم القضاء البولندي

وصلت المواجهة بين الحكومة والقضاة في البلد لنقطة فاصلة في عام 2020، إذ شارك قضاة من كل أوروبا في تظاهرة في العاصمة البولندية لدعم زملائهم في البلد.

سجل الفيلم في مشاهد -غلب على بعضها العاطفية- الأعلام الأوروبية المختلفة مرفوعة من قبل قضاة من دول أوروبية مختلفة بدا على بعضهم التأثر، بل إن بعضهم كان يرتدي زي القضاة في بلده، ليضيف قيمة رمزية مضاعفة، إذ أن معركة القضاء بدت هي ذاتها في كل الدول الأوروبية.

مظاهرات في عدة مدن أوروبية ضد التضييق على القضاء

سبق تلك التظاهرة عمل قضاة بولنديين عدة سنوات لتعريف الدول المنضوية تحت الاتحاد الأوروبي بقضيتهم، إذ يسجل الفيلم زيارة لقاضين بولنديين للمشاركة في إحدى جلسات الاتحاد.

“لنحذف كلمة ثورة، فالأوروبيون لا يحبون كلمة ثورات”، يعلق القاضي ووالد الطفلتين الصغيرتين لزميله من غرفته في عاصمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، عندما كانا يحضران لكلمتهما للاتحاد الأوروبي.

أرستقراطية القضاة.. دعوى مواجهة النخبة المرفهة والشعب

إذا كان الإعلام الشعبوي في بولندا يريد أن يصم القضاة بالرفاهية ويذكر بأصلهم الأرستقراطي، ويضعهم في مواجهة مع المواطن العادي الذي ينشد التغيير، فإن الفيلم نجح بشكل كبير في البقاء مع موضوع الفيلم الأساسي وتجنب التشتت، ويتلخص بحيادية واستقلالية القضاء، وما قد يقوده اختلال هذا الجهاز من تبعات خطيرة للغاية على المجتمع بشكل عام.

وقد بدا واضحا من خلال مشاهد الفيلم التي تنقلت بين بيوت القضاة، أن هؤلاء ينتمون لطبقة اجتماعية مرفهة تاريخيا، فالدراسة الخاصة بمهنة القضاء مكلفة كثيرا، وتطول سنوات عدة، وهو الأمر الذي يجعلها منحصرة بفئة اجتماعية خاصة.

يختار الفيلم موسيقى ثورية شبابية لترافق عددا من المشاهد، ربما لمعادلة المناخ النخبوي الذي يمثله حضور القضاة في الفيلم، واللغة المثقفة التي يستخدمونها.

“عندما يرتجف صوتي وأنا أقرأ حكما”.. بداية الانهيار

يظهر تأثير المواجهة على بعض قضاة الفيلم باديا في الجزء الأخير من الفيلم، ويسجل سنة الصراع الرابعة، فالمواجهة هي أكثر من قدرة بعضهم على الاحتمال.

“عندما يرتجف صوتي وأنا أقرأ حكما فهذا يعني أني متأثر، أني بشر مثلكم”. هكذا غالب أحد القضاة دموعه وهو يقرأ حكما يخص الصراع القضائي لزملائه مع الحكومة في بلده.

ملصق الفيلم يعكس الضغوط التي تفرضها السلطات على القضاء

وهناك قاضٍ آخر لم يشترك شخصيا في الصراع القانوني الدائر، سيمتنع عن إصدار حكمه في قضية عادية بسبب المظاهرات التي كانت دائرة خارج قاعة محكمته، ويخاطب القاضي الموجودين في قاعة المحكمة قائلا: لن يكون من اللائق أن أمارس عملي بشكل اعتيادي وزملاء لي يتعرضون للقمع.

وهناك مشهد مؤثر آخر لقاضي كان يقرأ استقالته على شاشات الإعلام بسبب وضعه الصحي الخاص، وتأثيرات الصراعات الجارية على قدرة جسده على التحمل.

استقلالية القضاء.. وقوف السينما في صف العدالة

يقف الفيلم في صف القضاة في مواجهتهم المتواصلة مع الحكومة البولندية، حتى أنه لا يبرر هذا الانحياز فحسب، بل يدعمه بعرض انتقائي لوجهات نظر الطرف الآخر وتجنب محاورتهم، ويكتفي بعرض مادة أرشيفية لهم مما عرضه الإعلام البولندي في السنوات الأخيرة.

ولعل ما يبرر هذه المقاربة التي يُمكن أن تعد منحازة، هي القضية الأساسية في الفيلم، أي استقلالية القضاء، إذ يبدو أنها مقدسة لصانعي الفيلم.

يلمس الفيلم أحيانا قضية التحول البطيء في الدول الديمقراطية إلى حكم اليمين المتشدد الذي ربما يقود إلى كوارث، وهي القضية التي تشغل الكثيرين في أوروبا في الأعوام الأخيرة.

ورغم المشهد الثري الذي يقدمه الفيلم، فإن ما غاب عنه هو التركيز على شخصيات بعينها والبقاء معها، بدل التنقل بين شخصيات عدة، وهو ما أثر على روح الفيلم، رغم أنه يحفل بالشخصيات المؤثرة التي لم تمنح الزمن الكافي لنتعرف أكثر على دواخلها وهواجسها.