تاريخ السرعة البرية.. عالم يسابق الخيال منذ ميلاد القطار والسيارات

يميل البشر للعيش في مجموعات، ولذا تجد أن معظم السكان يوجدون في المدن، ويتضح هذا عندما نرى العالم من أعلى، فعلى ارتفاع 400 كم فوق الأرض عندما ترى المدن العملاقة، وكيف تتصل ببعضها عبر المسافات الطويلة، بشبكات معقدة من الطرق، بعضها قديم قدم الحضارة الإنسانية؛ تدرك ساعتها أن الإنسان اجتماعي بطبعه.

لكن حياتنا اجتماعية تشكلت أيضا بالتوازي مع رغبتنا في أن نكون أسرع، سرعة في التواصل وسرعة في الانتقال، كأن الإنسان يسابق عمره، ليكتشف أكثر ويعيش أكثر. سيصحبنا في عالَم السرعة هذا المخرجُ وعاشق السرعة “شون رايلي”، ليطلعنا على آخر قفزات البشر في التنقل على هذا الكوكب، من خلال فيلم تعرضه قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “تاريخ السرعة” بعنوان: “تاريخ السرعة.. عير القارات”.

“ريتشارد تريفيثك”.. أميٌّ يخترع “الشيطان النافث”

قبل 200 عام شهدت منطقة “كورون وال” من أرض إنجلترا لحظة فاصلة في تاريخ الهندسة، وهي اللحظة التي غيرت تاريخ تنقلنا إلى الأبد، ففي 1801 بدأ العصر البخاري، وازدهرت مناجم النحاس بفضل المضخات المائية التي تمنع فيضان الماء في المنجم وتعمل بالبخار.

كان المخترع “ريتشارد تريفيثك”، ابن مدير المنجم لا يكاد يتقن الكتابة، لكنه يحمل أفكارا ستغير مسار التاريخ، فهو عنيد ومغامر وأفكاره جريئة.

“الشيطان النافث” هي أقدم مركبة ذاتية الدفع اخترعها “ريتشارد تريفيثك” سنة 1801

حتى ذلك الحين كان البخار ينتج بإشعال النار تحت المرجل، ومن عيوب هذا التصميم فقدان الحرارة، وبخار منخفض الضغط، فابتكر ريتشارد مرجلا أسطوانيا يحيط بالموقد، لضمان الاستفادة القصوى من الحرارة، وبحجم أصغر وضغط بخار أعلى، ويحفز صماما لإنتاج سرعة خارقة.

ومن إبداعات “تريفيثك” جاءت فكرة “الشيطان النافث”، وهي أقدم مركبة ذاتية الدفع، حيث تكون النار في أسطوانة داخلية، ويحيط بها الماء في أسطوانة خارجية. لقد تحول حلم النقل بالبخار إلى حقيقة في 1801. وبعد سنوات شيّد “تريفيثك” أول مسار للقطار البخاري. وداعا للأحصنة، ومرحبا بالقاطرات التي أصبحت تسمى الحصان الحديدي، وقدرتها تحسب بـ”الحصان”.

سكك أمريكا.. ست سنوات تربط الشرق بالغرب

كانت أمريكا من أكثر الدول استفادة من القاطرات البخارية، وقبل ذلك كانت هذه الأراضي الشاسعة بكرا، لم يقطعها إلا الشجعان، أو الحمقى واليائسون.

أطلقت أمريكا أكبر مشاريعها الهندسية بعد وصول الحصان الحديدي، لربط الشرق بالغرب بواسطة السكك الحديدية، وبدأ آلاف الرجال بالعمل بين أوماها وساكرمنتو، وشيدوا ما معدله 16 كيلومترا من السكك في اليوم الواحد في المناطق المنبسطة، أما في جبال روكي فنصف متر يوميا فقط.

محطة “غراند سنترال” في نيويورك هي أكبر محطة قطارات في العالم منذ 150 عاما

في 1869 وبعد 6 سنوات من العمل المتواصل، التقت سكك حديد الشرق والغرب بطول 3200 كيلومتر في يوتاه، ومنذ ذلك الوقت تغير وجه الحياة في أمريكا، وصار العبور أكثر أمانا وسرعة، حتى غدت محطة “غراند سنترال” في نيويورك أكبر محطة في العالم منذ 150 عاما، وصارت مركز السفر الطويل بين المدن الأمريكية إلى أكثر من 500 وجهة و240 ألف كم.

“هيديوشيما”.. معجزة هندسية تلتهم المسافات

لم تكن أمريكا الوحيدة، فهذه الثورة في النقل مستمرة حتى اليوم، والابتكارات في تقنيات القطارات تحملنا بسرعة أكبر لمسافات أبعد من أي وقت مضى، وتتصدر اليابان العالم في هندسة القطارات، وقد استأثرت بأسرع القطارات خلال 50 عاما مضت، حيث بلغت سرعة قطار “الرصاصة” الياباني 280 كم/ساعة، ونقل المسار بين طوكيو وأوساكا أكثر من 6 مليارات إنسان خلال 60 عاما.

بعد صناعة القطارات في أواخر القرن الثامن عشر، ازدهرت السكك الحديدية وأصبحت تربط بين جميع ولايات أمريكا

على هذا المسار كانت الرحلة تستغرق 6.5 ساعات، بسرعة لا تتجاوز 110كم/ساعة، لكن المهندس “هيديوشيما” كان يطمح لتحطيم حاجز 160 كم/ساعة، وكانت فكرته تقوم على وضع محرك كهربائي في كل قاطرة، بدل المحرك الواحد الذي يجر كل القطار، وصمم القطار ليستخدم الهواء المضغوط لامتصاص الصدمات، ومع مسارات قليلة الانحناءات للمحافظة على السرعة العالية.

بلغت الكلفة مئات الملايين، وهي ميزانية رفضتها الحكومة اليابانية، فما كان من “هيديوشيما” إلا أن نقل فكرته الجريئة إلى البنك الدولي في واشنطن لطلب التمويل، وبعد أخذ ورد وافق البنك على تمويل رؤيته الجسورة. واليوم وبعد ستة عقود أصبحت قطارات “شنكانسن” مشهورة بسرعتها ومظهرها الجذاب.

“إل زيرو”.. قطار طائر لا تسمع له همسا

عكف المهندسون اليابانيون على تطوير شكل أسرع من القطارات، تصبح فيه العجلات شيئا من الماضي، وستصل سرعة التصميم الجديد “ماغليف” أكثر من 480 كم/ساعة، وقد أطلقت منه نسخة “إل زيرو” (L-0) بسرعة 600 كم/ساعة، إنه يطير فعلا، لا يلامس السكة أثناء سيره، ولا صوت له، إلا صوت الرياح، فما قصته؟

طور اليابانيون قطار “الرصاصة” الذي يسافر بسرعة أكثر من 500 كم/ساعة، ويرتفع عن سكته بمقدار 10 سم

تعود القصة إلى الستينيات، وتحديدا في نيويورك، عندما أُلهم العالم الفيزيائي “جيمس باول” فكرة عبقرية باستخدام المجال المغناطيسي المتتالي لتحريك الأشياء باستمرارية، وكذلك لرفعها عن الأرض، فخاصية التنافر والتجاذب بين أقطاب المغناطيس تتيح استمرارية الحركة إذا رُتبت الأقطاب بشكل مناسب، ومن هنا بدأت فكرة “تعليق القطار” أو “ماغليف”.

قام المهندسون اليابانيون بتحويل هذه الفكرة العبقرية إلى واقع ملموس، ودشنوا قطار “الرصاصة” بسرعة تزيد عن 500 كم/ساعة، حيث يرتفع القطار عن سكته بمقدار 10 سم أثناء سيره، ولهذا لا نسمع إلا صوت الرياح، فلا عجلات على السكة، ولا محركات بداخله، شيء مذهل للغاية، وسرعة لم يبلغها إنسان من قبل على سطح الأرض، فهل يمكن أن نتجاوز هذه السرعة؟

“هايبرلوب”.. كبسولة تحلق في الفراغ المطلق

الجواب في صحراء لاس فيغاس، حيث يحوي هذا الأنبوب الفولاذي الضخم “هايبرلوب” الذي أنتجته شركة “فيرجن”؛ ما يمكن تسميته ضربا من الخيال العلمي الذي قد ينقلنا فوق سطح الأرض بسرعات خيالية تتعدى 1,100 كم/ساعة، وقطر هذا الأنبوب 3 أمتار وطوله 457 مترا، وهو مفرغ من الهواء تماما.

هايبرلوب، أسرع تكنولوجيا نقل ستغزو العالم قريبا، حيث سيسير القطار فيها بسرعة 1100 كم/ ساعة

ستنطلق بداخله كبسولة تجريبية، وتكون في المستقبل صالحة لنقل 12 مسافرا بسرعة خيالية، وهذه التكنولوجيا أيضا مبنية على مجموعة من المغانط فائقة القوة، تتناوب على تحريك الكبسولة وزيادة سرعتها باطراد، ورفعها عن السكة أثناء الرحلة، بحيث لا تكون هنالك مقاومة احتكاك تذكر، فلا سكة ولا هواء، فالكبسولة فعليا تنطلق في الفراغ المطلق.

عندما نسافر في “هايبرلوب-1” فإننا سنقطع مسافة 4 آلاف كم بين نيويورك ولوس أنجلوس في 3.5 ساعات فقط، وهي سرعة تفوق بكثير الطائرة النفاثة، مع راحة وأمان أكثر وتلويث أقل، إنها شكل مبتكَر من أشكال النقل.

هذا عن القطارات بتصميماتها المختلفة، لكن النقل عبر اليابسة لم يقتصر على القطارات.

آل “بنز”.. اختراع السيارات الذي قلب تاريخ النقل

في ثمانينيات القرن الـ19، كان “كارل بنز” -وهو ابن سائق قطار من مانهايم بألمانيا- يحلم بمركبة تتحرك بحرية دون سكك ولا تعتمد على البخار، ورغم عدم توفر الإمكانات الهندسية، وغياب تصميم مرجعي يعتمد عليه، فقد استطاع في 1885 الكشف عن نموذج مركبة المستقبل.

هذه العربة البسيطة ذات العجلات الثلاث تبدو مثل دراجة هوائية، ذلك أن “بنز” كان شغوفا بالدراجات منذ صغره، وهي تحتوي على محرك ذي أسطوانة واحدة بسعة أقل من لتر، وسرعة لا تتعدى 16 كم/ساعة، وخزان وقود صغير، ومقعد وعصا توجيه، هذا كل ما في الأمر، لكن هذا النموذج العبقري هو ما تعتمد عليه السيارات حتى يومنا هذا.

في 1885 اخترع “كارل بنز” أول سيارة  ذات محرك ذي أسطوانة واحدة بسعة أقل من لتر، وسرعة لا تتعدى 16 كم/ساعة

في 1886 حصل “بنز” على براءة اختراع لسيارته العجيبة، لكن العالم لم يهتمّ بها، إلى أن جلست خلف المقود امرأة شجاعة هي زوجته “بيرتا”، فقد كان منتقدو هذا الاختراع يدَّعون أن العربة لا تستطيع السير لمسافات بعيدة، لكن “بيرتا” رأت غير ذلك، ففي أغسطس 1888 أخذت السيارة دون علم زوجها، واصطحبت ابنيها في رحلة إلى بيت والدتها على بُعد 80 كيلومترا.

وقد واجهتها صعوبات عدة في الطريق، فكان ابناها يضطران لدفع المركبة في المرتفعات لعدم وجود صندوق التروس، وعندما انقطع حزام نقل الحركة استبدلته برباط جواربها، ولكن بعزيمتها وإصرارها أثبتت أن هذه السيارة بها من المزايا والقدرات ما سيجعلها سيدة الطريق، ودشّنت “بيرتا” بهذه الرحلة أعظم اختراع للنقل عبر القارات، وعلى مرّ التاريخ البشري.

ثورة “فورد”.. 15 مليون سيارة أمريكية في عشرين عاما

بلغت تكلفة سيارة “بنز” 1000 دولار، وهو ضعف الدخل السنوي للعامل الأمريكي آنذاك، فكانت متاحة للأغنياء فقط، أما اليوم فهناك مليار سيارة تجوب طرقات العالم، فكيف حدث ذلك؟ إنها عبقرية “هنري فورد” الذي ابتكر خط التجميع، لإنتاج أعداد كبيرة من النموذج “تي” (T) لسيارة “فورد” بكلفة رخيصة.

انخفض زمن التجميع من يومين ونصف للسيارة الواحدة، إلى 12 ساعة فقط، وانخفض سعرها إلى 350 دولارا فقط، لتصبح هذه السيارة العبقرية في متناول الجميع، وفي 20 عاما منذ مطلع القرن العشرين وصل عدد سيارات طراز “تي” 15 مليون سيارة، تسير بسرعة تصل إلى 60 كم/ساعة.

هذه الثورة أحدثت تغييرا في المجتمع، تمثل في تركيب أول إشارة مرور في 1914، ولأن السيارات بدأت تسافر خارج المدن أصبح من الضروري وجود الطرق المناسبة ومحطات للتزود بالوقود والفنادق، وهو المشروع الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة حوالي مليار دولار سنويا في عشرينيات القرن الماضي.

ابتكر هنري فورد” خط التجميع لإنتاج أعداد كبيرة من النموذج “تي من سيارة فورد

في الأربعينيات أصبحت القيادة رفاهية بعد اختراع ناقل الحركة الأتوماتيكي في سيارات “بويك”. وفي أواسط القرن زادت “كاديلاك” من سرعة سياراتها، بعد تدشين شبكات الطرق السريعة بين الولايات، وبدأ الناس يتركون المدن الكبيرة إلى الضواحي، قبل أن تصبح مدنا كبيرة لاحقا، وهكذا صارت السيارة الناقلَ المهم الثاني إلى جانب القطارات.

لكن السيارات لم تفِ بكل الأحلام الوردية التي وعدتنا بها، فازدحام الطرق جعل معدل السرعة في مدينة نيويورك لا يتجاوز 8 كم/ساعة، أي أن المشي أسرع من استخدام السيارة، فهل هذه بداية النهاية للسيارات؟ أم أننا بحاجة لسيارات ذكية أكثر من البشر؟ هل يمكن أن تحل السيارات ذاتية القيادة مشاكل الازدحام؟

عالم السيارات الذكية.. مستقبل حضاري تقوده الحواسيب

في صحراء أريزونا يعكف المهندسون على تجربة سيارات ذاتية القيادة، ويطورون البرامج والخوارزميات التي تجعل قيادة الحواسيب للسيارات أمرا ممكنا، ربما يكون من السهل التحرك ببطء والاصطفاف في ساحات فارغة، ولكن كيف ستبدو الأمور عند انطلاق هذه السيارات الذكية في شوارع المدن والطرق السريعة؟

يخوض “شون رايلي” تجربة تسير بموجبها مجموعة من السيارات في خط مستقيم بسرعة ثابتة، وتحافظ على مسافة مناسبة بينها، وستكون السيارة قبل الأخيرة ذاتية القيادة بواسطة حاسوب، وسنرى رد فعل الحاسوب عندما تُبطئ السيارة الأولى سرعتها بشكل مفاجئ. لقد كان تصرف الحاسوب كارثيا، فقد اضطر السيارة الأخيرة إلى الانحراف بسرعة لتفادي الاصطدام.

تستطيع السيارات الذكية أن تستشعر ما حولها بزاوية 360 درجة بفضل أشعة الليزر

لم تكن المشكلة في الحاسوب بحدّ ذاته، ولكن في كمية المعلومات عن الظروف المحيطة التي يزود بها بواسطة الكاميرات والمجسات المختلفة. وهذا أعاد إلى الأذهان تجربة قامت بها ناسا في الستينيات لقياس مسافة قمر صناعي عن الأرض بواسطة أشعة الليزر، حيث يُحسب الزمن بين انبعاث الليزر وارتداده، وعلى أساسه تحسب المسافة. فهل يمكن استخدام نفس التقنية في السيارات ذاتية القيادة؟

لقد طور نظام “لايدار”، وهو يعتمد على إرسال 128 شعاع ليزر إلى جميع الاتجاهات، لتغطي 360 درجة، وتُجمع النبضات المرتدة عن جميع الأجسام المحيطة، وتُدخل إلى الحاسوب، ليرسم صورة ثلاثية الأبعاد لكل ما يحيط بالسيارة في زمن قياسي وفي جميع الظروف.

ولكن ما الفرق بين نظام “لايدار” وبين العين البشرية؟

تعتمد العين على الضوء الخارجي المتاح، أما الـ”لايدار” فيصدر الضوء بنفسه، ويرى في محيط 360 درجة، بينما لا ترى العين إلا ما يواجهها، والـ”لايدار” يرى في ظلمة الليل، بينما لا ترى العين إلا بتوفر الإضاءة الكافية، والـ”لايدار” يحسب المسافة بسرعة ودقة أكبر. إنها تقنية مدهشة آخذة في التحسن كل يوم.

كيف ستبدو سيارات المستقبل؟ هل هي سيارة سباق صغيرة مزودة بمراوح للطيران حين اللزوم؟ نعم إنها “فيتول” السيارة الطيارة، فلها مجموعة من المراوح تجعلها سريعة، كما أنها مريحة وآمنة، وستكون ذكية وذاتية القيادة بالكامل، ترتفع بنا فوق الازدحام والتلوث. نعم سيأتي اليوم الذي تمتلئ به سماء المدينة بالفيتول.