“أنا فانيسا غولين”.. جريمة تكشف عورات الجيش الأمريكي وتغير القوانين العسكرية

لقد حدث أمر مهول أفسد فرح “فانيسا” الطفولي ونغّص سعادة أهلها، فكشف هذا المصاب الفردي خللا عظيما في المجتمع الأمريكي، أرغم كثيرين على الانخراط في مسيرة نضالية لحماية حقوق النساء في مجتمع ينتصب سياسيوه ليعلموا الآخرين قيم حقوق الإنسان.

ذلك ما تخبرنا به المشاهد الأولى من الفيلم الوثائقي “أنا فانيسا غولين” (I am Vanissa Guillin) الذي أخرجه “كريستي فيغنر” (2022) بأسلوب برقي سريع، وعبر التناوب بين زمني الماضي والحاضر يعدنا بمغامرة شجاعة أبطالها مواطنون عاديون.

“فانيسا”.. نبوءة قاتلة لطفلة تطارد الحلم الأمريكي

يعود بنا الفيلم إلى الوراء إلى حياة “فانيسا” المبهجة حين كانت طالبة في المدرسة الثانوية عبر مقاطع فيديو عائلية أو شخصية، فكانت -مثل كل الأطفال في سنها- توازن بين واجباتها الدراسية ولحظات المرح، فتستمتع بممارسة رياضتي كرة القدم ورفع الأثقال، وتتحدى قدراتها الجسدية سعيا نحو الأفضل.

وببلوغها سن الشباب تنضج أنوثتها، فتحصل على خطيب محب، ثم يعاودها حلم الطفولة وهي تفكر في مهنة المستقبل، فتنضم إلى القوات المسلحة. أليس الانخراط في صفوفه يمنحها النخوة والشعور بالانخراط الكامل في المجتمع الأمريكي وهي المنحدرة من أصول لاتينية؟ كذلك كانت تعتقد.

تأخذنا المشاهد إلى الحاضر، فنتعرف على البيئة التي عاشت فيها الشابة، فهي من عائلة مكسيكية الأصل، هاجرت إلى الولايات المتحدة تبحث عن حياة أفضل، وفي هذه المراوحة بين الماضي والحاضر، وفي عرض التسجيلات، يأخذنا المخرج إلى عالم “فانيسا” لنكون أكثر فهما لمصاب العائلة في ابنتها التي اعتنقت الحلم الأمريكي، وظلت تمني النفس بأن تعمل بالجيش، أو تسافر إلى السماء لتصبح رائدة فضاء، فإذا قدر خفي يجمع بين حلميها في شكل نبوءة قاتلة ونهاية مأساوية، فقد انخرطت في الجيش، وتكفل هو بإرسالها إلى السماء، لكن دون أمل في العودة إلى عالم الأرض.

اختفاء المجندة.. نفس تهلك بين البيروقراطية وعدم المبالاة

يأخذنا المخرج إلى ظروف اختفاء “فانيسا”، فبسبب الحجر الصحي إثر انتشار فيروس كورونا طُلب من أفراد الجيش عدم الالتحاق بقاعدة “فورت هود” (Fort Hood) العسكرية في تكساس أكبر القواعد في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما استلمت هي رسالة تطلب منها الحضور، لكن اتصالها بعائلتها انقطع فجأة، وسريعا ما تحوّل هذا الاختفاء ليصبح مبعث قلق حقيقي، فوالدتها تعلم أنها تتعرض للمضايقات وللتحرش الجنسي من قبل زملائها.

ولعل وجه الخطورة في هذا الاختفاء الغريب متعدد الأبعاد، فالمجندة الشابة في حماية أكبر القواعد الأمريكية وفي مهمة غير حربية، ويفترض أن تكون أكثر المواطنين أمنا، واختفاؤها الذي يجب أن يمثل مبعث قلق رسمي يواجه بعدم مبالاة من قبل القادة العسكريين. فقد واجهت عائلتها عقبات جمة لتعطيل البحث عنها، ووجدت نفسها في دائرة مفرغة من “سلسلة القيادة” في الجيش الأمريكي التي تتكتم على مصير المجندة، بل تعمل على حماية الجناة، فقد كانت تعلم أن الميكانيكي “آرون روبنسون” آخر من التقى بها، وتشتبه بضلوعه في جريمة اختفائها، ومع ذلك ظلت تتعامل مع الأمر بكثير من التراخي.

المجندة الأمريكية الشابة فانيسا غولين التي عُثر عليها مقتولة في قاعدة “فورت هود” العسكرية في تكساس

وبعد بحث دام شهرين من قبل جمعيات ومنظمات وإثر ضغوطات من المجتمع المدني والإعلام للتحقيق الجدي في مقتل المجندة؛ عُثر على رفاتها في منطقة ريفية، وقد أثبتت التحقيقات التي أجريت حينها بعد تتبع موقع هاتف المشتبه به ساعة الجريمة أن “آرون ديفيد روبنسون” هو قاتلها، فقد هاجمها وهوى بمطرقة على رأسها ووضعها في صندوق، وفي وقت لاحق حين شاع خبر اختفائها، اتصل بصديقته “سيسيلي أغيلار” ليأخذاها إلى نهر ليون، ثم يقطعاها إلى ثلاثة أجزاء ويدفناها في ثلاثة مواقع متجاورة.

“فورت هود”.. قاعدة تكشف الوجه الآخر لأمريكا

سلّط مقتل “فانيسا” الأضواء على القاعدة العسكرية، حيث مسرح الجريمة، فكشف وجها آخر لأمريكا كانت أسوار الإسمنت المسلح تخفيه، فتؤكد شهادات الحقوقيين السمعة السيئة لهذه القاعدة، فتصفها المحامية بالجيش الأمريكي “لوكي دال غوديو” بكونها موطنا لفساد أصحاب السلطة والقرار ومستودعا للشر، ولا يتعلّق الأمر بتواتر الاعتداءات الجنسية فيها فحسب، فقد جعلتها تجاوزات القادة العسكريين تشهد حوادث عدة لإطلاق النار أفضت إلى مقتل 28 جنديا خلال العام 2020 فحسب.

لم يكن الأمر يتعلق بحالات فردية معزولة أو بحالات عرضية، فقد كانت المضايقات الجنسية تطال فتيات وفتيانا باستمرار، والأغرب هو وجود منظومة في القاعدة نفسها تستدرج المجندات عبر وسيط إلى عالم الدعارة، فقد كان يراقبهن لينتخب مَن هُن في حاجة إلى المال، ليستغلهن في تقديم خدمات جنسية للمجندين بمقابل، أما القادة فيكفيهم نفوذهم لإنجاز المهمة.

من هنا تكتسب جريمة قتل “فانيسا” كل تعقيداتها، ويُفهم التراخي الرسمي في التعاطي مع الجريمة، فقد صادف انتشار خبر اختفائها عبر الإعلام وجود المشتبه به محتجزا لخرق قواعد كورونا، لكن بسبب الإهمال تُرك معه هاتفه، فاتصل بصديقته ليدبّر خطة نقل الجثة ودفنها أسفل نهر ليون، بعد أن تمكن من الهرب من مكان احتجازه.

ثم كلّف قسم التحقيقات الجنائية في الجيش الأمريكي محققين مبتدئين بلا خبرة ولا إشراف، وكانوا قليلي العدد ومثقلين بالأعباء، ورغم اشتباههم بـ”آرون ديفيد روبنسون”، فقد تركوه يتجول بحريّة، وحين همّت به الشرطة لاعتقاله وهو يسير بعيدا عن القاعدة؛ أخرج مسدسه وانتحر.

المجني عليها بتهمة المساعدة في قتل المجندة الأمريكية فانيسا غولين

لم يحاسَب عميلُ التحقيقات الجنائية، ولا قائد الجندي المسؤول عن احتجازه، رغم الأخطاء الجسيمة. بيّنٌ إذن أن هناك متورطين في قضايا مشابهة ومتواطئين لا يناسبهم أبدا التحقيق الجدّي في مثل هذه القضايا.

“أنا فانيسا غولن”.. هاشتاغ يفضح الساسة ويكشف الأقنعة

مما منح الفيلم قيمته المضاعفة إبرازُه لمغامرة “مايرا” أخت “فانيسا” الطفلة ذات الـ16 ربيعا وهي تواجه الجيش الأمريكي بمفردها، فتتمكن أولا من جمع المتعاطفين مع العائلة في بحثها عن العدالة المفقودة، وتوفّق في حشد الرأي العام الوطني والدولي، ثم تقنع المحترفين من رجال القانون والإعلام بالانضمام إليها، فتتطوع المحاملة اللبنانية الأصل “ناتلي خوام” لتأطير عملها، وتسهم منظمة “غيكو سيرتش” التي تساعد على إيجاد المفقودين في البحث عن رفات أختها.

بدأت “مايرا” رحلة بحثها عن العدالة من خلال النشاط على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد تأسيس الصفحة التي تحمل هاشتاغ “أنا فانيسا غولين” بدأت كرة الثلج في التدحرج والتضخم، فقد أخذت أخريات في مشاركة قصصهن الخاصة في الجيش، ويتحدثن عمّا تعرضن له من الممارسات، ومن تواطؤ القادة العسكريين، أو تورطهم المباشر في هذه التجاوزات بحقهن.

أضحى الجميع على بيّنة بأن أمريكا أخرى توجد خلف أسوار الثكنات، وأن الخلل يكمن في منظومة الجيش نفسها، وهكذا تمكنت العائلة وأصدقاؤها والمتعاطفين معها من إحداث توازن قوة بين الضحايا وقادة الجيش، مما أحرج السياسيين أنفسهم.

بعد النشاط على مواقع التواصل تحولت الشابة “ماريا” إلى النشاط الميداني، بداية بالاحتجاج أمام القاعدة، إلى الاحتجاج أمام البيت الأبيض. وأخذت حركتها تتحول شيئا فشيئا إلى حركة دولية تعمل على فضح السياسة الجائرة في القواعد العسكرية، وتحاول فرض إصلاح القوانين العسكرية، من منطلق قناعة مدارُها على أن الجندي يحتاج إلى الشعور بالأمان أولا، حتى يُشعر المواطنين بالأمان بدوره.

قادة العسكر المحافظين.. قوانين بالية منذ قرنين من الزمن

ترى “مايرا” أن كل ما أحاط باختفاء أختها أولا ثم اكتشاف جثتها والتعرف إلى الجاني يثير الريبة، فقد اختارت القاعدة التعتيم على الواقعة، ورفضت التواصل مع العائلة، ولما ذاع الخبر اكتفت ببيان صحفي يتجاهل معاناة الأسرة، وينفي تعرض “فانيسا” للتحرش الجنسي لغياب دليل مادي يثبت ذلك.

لا يرتبط هذا التراخي بمأساة “فانيسا” فحسب، وإنما يعود إلى أصل النظام القضائي العسكري الأمريكي، فمعلوم أن النظام القضائي المدني يقوم على محققين محترفين ومحامي ادعاء ومحلفين وقاضٍ، أما في النظام القضائي العسكري فالأمر مختلف، بحيث يرتبط مسار القضية بسلطة القائد لا بالمدّعي، ولهذا القائد العسكري حساباتُه التي ترتبط بطبيعة علاقته بواجب التحفظ بعلاقته بمرؤوسيه وبسمعة الجيش لدى الرأي العام، وهذا كله يحد من معايير المحاكمة العادلة والشفافة.

أضف إلى ذلك أن القوانين المنظمة بالية، فقد سُنّت منذ نحو 200 سنة، وظلت النزعة المحافظة لدى القادة العسكريين تمنع تطورها، فحماية المجندات من التمييز الذكوري ومن التحرّش مطلبٌ رُفع منذ خمسينيات القرن الماضي، لكنه كان يصطدم دائما برفض المؤسسة العسكرية.

دعوة إصلاحات القوانين.. “مايرا” تواجه السلطة في العاصمة

قدرت العائلة أن النضال لسن تشريع يحمي المجندات ويغير المنظومة القضائية العسكرية؛ يقتضي انتقال الشابة “مايرا” من هوستن إلى واشنطن، وذلك لتحفيز الساسة على تبني المطلب، وكان لا بد لها أن تواجه عقبات وحواجز كثيرة، وربما يكون على رأسها وجود قانون موازٍ في مجلس النواب، فقد كانت النائبة “جيلبراند” تعمل على سن قانون يخرج التحقيق في القضايا العسكرية عن تسلسل القيادة، ويوكله إلى محامي ادعاء.

الأمر هنا لا يتعلق بالتحرش، وإنما بجرائم القتل، ومرور هذا القانون يعني آليا سقوط القانون الموسوم بـ”فانيسا غولن” الذي يعمل على حماية النساء. ولعلّ ثاني هذه العراقيل أن يتعلق بصعوبة الاتصال بأعضاء الكونغرس، فقد كان عدد منهم مترددين لأسباب ذاتية، فأغلبهم قد ارتبط بصلة ما بالجيش قبل خوض غمار السياسة، ولهم مكانة اعتبارية ورأس مال رمزي يريدون الحفاظ عليهما.

عائلة فانيسا غولين تُطالب بالعدالة لأجل ابنتها المقتولة

وكان هؤلاء يتبنون مع حلفائهم السياسيين أطروحةً مناقضة تماما، ترى ضرورة الدفع بالقيادات أكثر في التحقيقات، لفرض الانضباط بدل تحييدها، بحجة ضمان قضاء مستقل، وحجتهم أن مثل هذا القانون سيضعف سلطة القادة العسكريين، والحال أن النظام العسكري هرمي تراتبي يقوم على خضوع أصحاب الرتب الأدنى وامتثالهم غير المشروط للقيادات العليا.

ولا يخفى أن مسألة الجدوى هذه تعلّة واهية لتأبيد نفوذ القادة العسكريين وحمايتهم من كل التبعات، وكان على عضوة الكونغرس “جاكي سبير” التي باتت تتبنى قانون “فانيسا غولين” أن تنسق مع النائبة عن أوكلاهوما “ماركوين كولين”، وذلك للمواءمة بين القانونين ليمثل إصلاحا جذريا للقانون العسكري.

غطرسة العسكر.. انتقام من رعاة الجانب المظلم للجيش

يرصد الفيلم حصيلة نضال عائلة “فانيسا” ومن آمنوا بعدالة قضيتها، فقد صيغ القانون الذي يصلح نظام التقاضي في الجيش الأمريكي، ومثّلت المصادقة على القانون إدانة لتواطؤ القادة العسكريين، لتسترهم على العشرات من حالات الاعتداء الجنسي والاغتصاب والقتل أو تورطهم المباشر، وسحبا للبساط من تحت أقدامهم.

لم تكن المسيرة هيّنة، بداية من رفض القادة التواصل مع العائلة في قاعدة “فورت هود” العسكرية، إلى المرابطة أمام البيت الأبيض والتقاء الرئيس السابق “دونالد ترامب”، إلى إقناع أعضاء مجلس النواب وأعضاء الكونغرس المتردّدين للمصادقة على القانون رغم الضغوطات، إلى توقيع الرئيس “جو بايدن” عليه بعد إقراره.

لا يترك هذا الفيلم المتفرج محايدا، فطريقته السلسة في السرد تخاطب وجدانه وعقله في الوقت نفسه. وبقدر ما يثير التعاطف مع ألم عائلة “فانيسا”، فإنه يوجه الأنظار إلى نجاحها في الدفاع عن قضيتها العادلة، وإلى انتقامها الراقي من غطرسة العسكر، فتحوّل مأساة ابنتها إلى فرصة لكشف الجانب المظلم للجيش الأمريكي وفساد نظام العدالة العسكرية، رغم ما وجدته من الترهيب.

لقد كان الفيلم شجاعا بقدر شجاعة “مايرا”، فكلاهما يفتح الأعين على خلل في المنظومة العسكرية، وكلاهما يقدم رسالة مدارها على قيمة الصبر والمثابرة والوحدة، لتحويل المآسي الفردية إلى عمل يفيد الإنسانية ويرفع عنها الظلم والقهر.