“فرار”.. رحلة اللجوء الأفغانية القاسية في الشمال الأوروبي

عبد الكريم قادري

لم تكن رحلة اللجوء التي قام بها أمين الأفغاني رفقة عائلته سهلة عليه، فقد انطلقت من أفغانستان مع بداية سيطرة طالبان عليها، وكانت المحطة الأولى روسيا التي ذهبوا لها كسيّاح، وبعد انتهاء المدة المسموحة لهم أصبح بقاؤهم غير نظامي، فقد استعانوا بالمهربين ليصلوا الى السويد، لكن محرك المركب تعطل، وغمرتهم المياه من كل جهة في بحر البلطيق البارد.

فجأة وجد أمين وعائلته أنفسهم على شفا الموت في مياه إستونيا، وبعدما نجوا واحتُجزوا لشهور عادوا إلى روسيا ليعيدوا الكرّة مرة أخرى بطريقة مغايرة، وفي هذه المرة أرسلوا أمين بجواز سفر مُزوّر ليذهب للسويد بما بقي له من مال، لكن المُهرّب أرسله إلى الدانمارك، وهناك ابتدأت القصة بعد أن ظن بأنها انتهت.

“فرار”.. وثائقي دانماركي يُنافس الأفلام الأمريكية

استطاع الفيلم الوثائقي الدانماركي المختلف “فرار” (FLEE) للمخرج “يوناس بوهير راسموسن” (إنتاج سنة 2021) أن يلفت أنظار العالم إليه وإلى قصته، فاستقبل الفيلم في كثير من المناسبات بحرارة كبيرة، وجرى تناوله إعلاميا ونقديا بشكل واسع.

 

كما حظي بعدد من المشاركات والجوائز والترشيحات القياسية في أرقى مهرجانات العالم، وأهمها ترشيحه لثلاث جوائز مهمة من طرف أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، وهي جائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، وقد نافس بذلك عددا من الأفلام المهمة المنتجة في أمريكا وخارجها.

كما حصل خلال سلسلة العروض العالمية التي قام بها على جائزة “غوثام” للأفلام المستقلة لأحسن فيلم وثائقي، وجائزة الفيلم الأوروبي لأفضل فيلم رسوم متحركة، وجائزة السينما المستقلة البريطانية لأفضل فيلم أجنبي، وجائزة الجمعية الوطنية لنُقّاد السينما لأفضل فيلم، إضافة إلى قائمة لا تنتهي من الجوائز العالمية والتكريمات، ولقد عُرض أول مرة في الشرق الأوسط والعالم العربي في مهرجان الجونة السينمائي في الدورة الخامسة (14ـ22 أكتوبر/تشرين الأول 2021).

أمين.. دعاية المثلية الجنسية للهارب من أفغانستان

تتمحور قصة أمين بطل هذا الفيلم حول شقين أساسين، الشق الأول يتعلق بعملية هروبه رفقة عائلته من أفغانستان، وهذا مع بداية خروج القوات الروسية المحتلة، وبداية سيطرة حركة طالبان على مقاليد الحكم، والشق الثاني يتعلق بحياته الشخصية في الدانمارك، وتتعلق خصوصا بمثليته الجنسية التي حاول في صغره معالجتها من خلال الأدوية حسب ما قاله للأخصائية الاجتماعية بعد إدخاله لأحد المؤسسات المتخصصة بالقاصرين.

أمين بطل الفيلم الأفغاني الهارب من أفغانستان، والذي يُعاني في الوقت ذاته من مثلية جنسية حاول معالجتها بالأدوية منذ صغره

 

استعمل المخرج هذه الجزئية حتى يضمن الانتشار والاهتمام بفيلمه، أي جعلها كمنطلق دعائي وإشهاري، مع أن غيابها أو وجودها في الفيلم من الناحية الفنية لا يؤثر على المسار الدرامي بدرجة كبيرة، ولا بسير أحداث العمل وموضوعه الرئيسي، لكنه استعملها لأنه يعرف بأن المهرجانات السينمائية تحب هذه الأمور التي يخرج فيها عن السائد، لهذا استعملها وقد نجح فيها.

والدليل على هذا أن فيلمه لم تسعه كل المهرجانات لمشاركاته القياسية، لكن ما يهم في الفيلم بالدرجة الأولى هو الرحلة الشاقة والحياة القاسية التي عاشها أمين رفقة عائلته من خلال التغيير المتسارع لنظام الحكم في أفغانستان، هذا من ناحية الموضوع، أما من الناحية الفنية فهي طريقة المعالجة المختلفة التي استعمل فيها سينما التحريك لإعادة رسم الأحداث وتشكيلها من جديد.

“قتلوا أبي وخطفوا أختي”.. عودة إلى ماضي الطفولة الأليم

شكل المخرج افتتاحية فيلمه بطريقة ذكية مكّن المخرج من خلالها من كسب المُشاهد وتحريضه على مُشاهدة العمل، حيث جسّد عن طريق سينما التحريك موقعا إنسانيا حزينا ومؤثرا جدا، عكسه مجموعة من الأشخاص وهم يُجرّون وسط الشوارع خائفين ومرعوبين مما يحدث، فقط تسمع تسارع خطواتهم، وهذا ما يعكس وجع الحرب وآلامها.

وفي نفس التزامن بُثّ صوت شخص يسأل آخر عن معنى الوطن، ليجيب الثاني ضاحكا بأنه “مكان آمن، إنه مكان حيث تعرف أنه يمكنك البقاء وليس عليك أن تنتقل، إنه ليس مكانا مؤقتا”، لنعرف فيما بعد بأن السائل هو محاور أمين، حيث يحاول أن يستخرج منه المعلومات والأحداث التي عاشها، وأن أمين هو الذي أجاب وأعطى مفهومه عن الوطن بكلمات كثيفة تحمل دلالات فلسفية عميقة، مما يدل على أنه صاحب تجربة وموقف إنساني، لكنه في المقابل يُعاين جراح الماضي والمحطات التي عاشها، الماضي الذي يرفض أن يغادره.

أمين وعائلته يظهرون بحالة من الرعب والخوف من وجع الحرب وآلامها

 

لهذا يرحل بنا المخرج مباشرة إلى طفولته عن طريق الرسوم المتحركة، بعدها يبث صورا أرشيفية حقيقية لشوارع كابل، حين كان النساء يتجولن بكل حرية بلباسهن العصري وشعورهن المنسدلة على أكتافهن، حتى الناس كانوا يعيشون في انسجام واضح، ليعود المخرج مرة أخرى إلى أمين الذي شُكلت ملامحه عن طريق الرسوم، وقد وضع المخرج بطريقة ذكية خانة على وجهه من أجل التعرف عليهم في جميع مراحله العمرية.

عاد المخرج له، حيث كان يقرأ من دفتر ملاحظات قديم مكتوب باللغة الدرية (لغة منطوقة في أفغانستان) التي بدأ في نسيانها “بعد أن استولى المجاهدون على السلطة في أفغانستان، قتلوا أبي وخطفوا أختي، ثم بعدها قتلوا والدتي وأخي، ولو بقيت لكانوا ربما قتلوني أنا أيضا”.

إعادة تشيكل المآسي.. إرهاصات الحروب الأهلية الأفغانية

بدأ المخرج في إعادة تشكيل مآسي الماضي على لسان أمين، ومن بينها اقتياد والده أختار نوابي إلى السجن، وبعد شهر نقل إلى مكان مجهول، وهذا بعد أن اعتبرت الحكومة الأفغانية بأنه مصدر تهديد للشيوعية، وقد وقع هذا الاعتقال بعد إسقاط النظام الملكي سنة 1979، إذ اعتقل وقتها حوالي 3000 شخص، ولم يكن والد أمين هو الوحيد حسب ما صرح به، بعدها بعشرة سنوات أخرى دخلت حكومة محمد نجيب الله حربا أهلية شرسة مع الحركات الإسلامية، لهذا أرسلت شرطتها لتجنيد الشباب إجباريا.

يستذكر أمين مآسي الماضي، حيث اقتيد والده أختار نوابي إلى السجن، وبعد شهر نقل إلى مكان مجهول

 

هذا ما حدث مع سيف الذي حاولوا أخذه عنه رغم صغر سنه، فقد كان طويل القامة، لكنه استطاع أن يهرب وسط شوارع كابل. وقد اتَهم وقتها رئيس الحكومة أمريكا بأنها تدعم الإسلاميين بالصواريخ، لهذا توعدها بحرب كارثية في سنة 1989.

وبعد خروج الجيش الروسي من أفغانستان بدأت بوادر الحرب الأهلية والفوضى، لهذا فرّت الأم رفقة أمين والأبناء الأربعة إلى روسيا من أجل التخطيط للذهاب إلى السويد، وذلك انطلاقا من الفيزا السياحية الروسية المحدودة التي استطاعوا أن يحصلوا عليها.

مركب متهالك في انتظار المنقذ.. جرائم المهربين

انعكست مشاكل أمين وعائلته من خلال ما حدث لهم مع المهربين، وقتها كانت روسيا تعاني كسادا كبيرا، ولقد اشترى لهم أخوهم الأكبر عباس المقيم في السويد شقة لتكون محطة لهم إلى حين إخراجهم من البلاد.

كانت البداية مع ترحيل الأختين عن طريق وضعهن رفقة مجموعة تقدر بحوالي 64 فردا داخل حاوية حديدية وسط البرد، حيث رفعت ووُضعت وسط كمّ هائل من الحاويات على ظهر سفينة، وبعد أيام من الإبحار شارفوا على الموت، من بينهم الأختان اللتان أصابتهما صدمة نفسية بعد الوصول، وقد نقل الإعلام وقتها هذه الحادثة المأساوية.

المركب المُتهالك وسط بحر البلطيق، حيث كانت عائلة أمين على متنه، إلى أن وجدتهم شرطة الحدود الأستونية التي وضعهم في الملاجئ لشهور

 

أما بقية العائلة ومن بينهم أمين فما يزالون في انتظار جمع المبلغ لهم، وبعد أن وفروه انطلقوا في رحلة برية مع المهربين، بعدها دخلوا مركبا متهالكا تعطّل بهم في بحر البلطيق الذي كان متجمدا تقريبا، وأكثر من هذا فقد تسرّب المياه داخله، مما حتم عليهم الخروج إلى السطح، حيث الثلج يتساقط بقوة، ولقد وجدتهم شرطة الحدود الأستونية التي وضعتهم في ملجأ لشهور، بعدها أعادتهم إلى روسيا من جديد.

ولأن الأسرة لم تعد تملك المال، فقد جمعت مبلغا من عند الأخ عباس، وأصدرت جواز سفر مُزوّر لأمين الذي كان طفلا قاصرا، وكان من المفروض إرساله إلى السويد، لكن المهرب أرسله إلى الدنمارك، وهناك طلب اللجوء بعد أن قال لهم إن كل أفراد أسرته توفوا في أتون الحرب الأفغانية، لكنه كذب وقال لهم ما أملاه عليه المهرب، وهناك بدأت حياته الجديدة بين أمريكا التي يدرس فيها ما بعد الدكتوراه، وبين الدانمارك التي احتضنته لاجئا.

سينما التحريك.. ساعة زمنية تنقل المتلقي بين الأحداث

استطاع المخرج “يوناس بوهير راسموسن” أن يستعمل في فيلمه “فرار” سينما التحريك لإعادة تشكيل ورسم الأحداث التي لا يملك حولها أي وثائق سمعية بصرية من أي نوع، فقد اعتمد على ذاكرة الراوي/ الضحية/ بطل الفيلم أمين المُثقل بجراح الماضي ومآسيه، وهي الشخصيات التي لبسها  خلال مدة العمل (استعمل الفيلم أسماء مستعارة لحماية الأشخاص الحقيقين).

المخرج “يوناس بوهير راسموسن” مع ملصق فيلمه “فرار” الذي استخدم فيه سينما التحريك لإعادة تشكيل ورسم الأحداث التي لا يملك حولها أي وثائق

 

وقد لجأ “يوناس” لها لرسم معالم ودروب وفضاءات كانت تتجول في ذهن أمين، ونجح في هذا لأنه تناول عددا من المحطات المهمة والمؤثرة في مراحل حياته العمرية، بداية من طفولته، حيث توقف مليا في سنته الخامسة، وقتها كان يلعب ويلهو في شوارع كابل، وقد أظهر المخرج في تلك المرحلة كيف كان أمين يحب فساتين الفتيات (تبرير المثلية)، إذ كان يرتديها ويلعب بها بدون أي مشكلة، وقد جُسّد هذا عن طريق سينما التحريك التي كانت بمثابة ساعة زمنية تُمكّن المتلقي من خلالها بالعودة إلى الماضي، حيث جرى استيعابها وفهمها وتقبل الفضاء العام الذي كان يعيش فيه.

اتجهت عدة أفلام وثائقية حديثة ومنها فيلم “فرار” إلى هذه التقنية، خاصة الأعمال التي لا تجد الوثائق والمواد المناسبة لاستعمالها، لهذا باتت تلجأ إلى التحريك لإعادة رسم الأحداث وخدمة الموضوع بشكل مختلف، وأكثر من هذا فإنها تخلق جسر تواصل عاطفي بينها وبين الجمهور، مثل تشكيل الشخصيات، وزرع ملامح الفرح أو الحزن في وجوههم، أو رسم الأحداث مهما كان حجمها بطريقة فنية تنعكس على فهم المشاهد، وهذا ما فعله المخرج “يوناس” الذي زرع ملامح الحزن على وجه أمين وعائلته، لهذا تمكن من الاستيلاء على مشاعر المشاهد وتعبيد طريق التعاطف مع الفيلم، ليُصبح المتلقي يلعن الحرب وشرورها وما فعلته بالناس.

كما لم يتخلَ المخرج عن الوثائق السمعية البصرية العادية التي يحتفظ بها الأرشيف، إذ مزجها بمشاهد سينما التحريك، ليصبح الفيلم مزيجا فنيا بين سينما التحريك والسينما العادية، وربما فعل هذا حتى يضمن تيار أو توجه الفيلم الوثائقي، لأنه لولا وجودها ربما سيكون من الصعب تصنيف الفيلم على أنه وثائقي.