“روسيا ضد روسيا”.. إرث السوفيات يمزق الأجيال في بلاد القيصر

قيس قاسم

يرصد الوثائقي الفرنسي “روسيا ضد روسيا” (Russia vs Russia) الانقسام الحاد الحاصل في المجتمع الروسي بسبب اختلاف وتباين المواقف السياسية من السلطة وتوجهاتها، إذ يجد فيها كبار السن ومن عايشوا التجربة السوفياتية توافقا مع ماضيهم وتراثهم السياسي، بينما يتطلع الجيل الجديد من الروس إلى نظام ديمقراطي حقيقي يتمتع فيه الفرد بحق التعبير عن آرائه من دون خوف، لهذا لا يجدون في محاولات استعادة الموروث السوفياتي بكل سلبياته استجابة لطموحاتهم المستقبلية، بل يرون فيها مسعى لإرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء.

لنقل المشهد الروسي الحالي، يعتمد المخرج “ستيفان بيتورا” على المعاينة والمشاهدة الميدانية، ولفهم مواقف الأطراف المتناقضة يتيح لشخصيات تمثلها فرص التعبير عن آرائها ورؤيتها لمستقبل البلد، مع ملاحقة ورصد دقيقين لتبعات الإعلان عن مواقف معارضة لتوجهات السلطة الروسية، يدفع رافعو لوائها أثمانا غالية، كما يأتي في سياق الوثائقي الاستقصائي والتحليلي.

موسكو.. رفاهية العاصمة على حساب بقية المدن

قبل الدخول في الانقسامات السياسية الحادة، يثبت الوثائقي انقساما ديموغرافيا ملحوظا، يتمثل في الفوارق الحادة في مستويات المعيشة بين العاصمة موسكو وبين بقية المدن الروسية، فخلال عشرين سنة من حكم الرئيس “بوتين”، خصصت الحكومات المتعاقبة ميزانيات كبيرة لها، وأنفقت موارد النفط والغاز على تحسين مستويات سكانها البالغ عدهم حوالي 12 مليونا، لتجعل مظاهر ترفهم وترف مدينتهم مثالا على نجاح السلطة.

رفاهية موسكو على حساب بقية المدن الروسية

 

لكن مظاهر الرفاهية في العاصمة تأتي على حساب عيش بقية الروس في المدن المحيطية بها والبعيدة منها، فالتمايز يظهر بقوة في مستوى الأجور، إذ تبلغ الرواتب في موسكو ثلاثة أضعاف الرواتب في بقية المدن، كما أن تطوير البنى التحتية محصور بها.

هذا التباين ولّد حركة احتجاج يقودها شباب واعون خارج العاصمة، بينما تشهد موسكو نفسها حركة احتجاجات قوية، لكن دوافعها سياسية بالأساس، تنتقد حصر الامتيازات بأعضاء الحزب الحاكم، وبالدائرة المقربة من الرئيس، إلى جانب انتقادهم لغياب الديمقراطية الحقيقية وانتشار الفساد.

علم الألوان الثلاثة.. انتصار للديمقراطية فوق قصر الكريملين

يتساءل الوثائقي عن الثمن الذي يدفعه المحتجون والمعارضون للسلطة. فقبل البحث عنها وتوثيقها، يعود إلى التاريخ ليراجع ظروف الانتقال السياسي الذي بدأ في نهاية عام 1991، وأوصل بعد سنوات الرئيس “بوتين” للحكم.

 

يتوقف الفيلم عند اللحظة التي ارتفع فيها العَلَم الروسي بألوانه الثلاثة فوق قصر الكريملين شتاء ذلك العام، فقد مَثَّل رفعه بدلا من العَلَم الأحمر نصرا للشعب الروسي، ولاختياره الديمقراطية وسيلة للانتقال السلمي للسلطة، إذ ظهر الشعب الروسي لحظتها موحدا حالما بالخلاص من حكم الحزب الشيوعي ودعايته المضللة.

بعد سنوات قليلة تغيرت الصورة، وظهر الشعب الروسي مُجددا منقسما على نفسه رغم مظاهر الديمقراطية التي تروّج لها وسائل الإعلام الحكومية والموالية للسلطة.

الانتخابات المحلية.. كعكة لا يتذوقها إلا الحزب الحاكم

في موسكو يقابل صانع الوثائقي صحفيا اسمه “بيوتر تولستوي” تعرف عليه قبل 30 عاما، يوم كان يعمل مراسلا صحفيا هناك، أما اليوم فهذا الصحفي الروسي يُعتبر من أشد المؤيدين للرئيس “بوتين”، ومن المقربين من سلطته، وأحد مؤسسي القناة التلفزيونية التابعة للدولة.

في العام الفائت رشّح نفسه للانتخابات المحلية، ولمعرفة رأيه في أسباب الانقسام الحاد الحاصل في روسيا رافقه صانع الوثائقي في جولاته على مراكز الاقتراع. يجد من خلال تجواله معه تشابها بين عملية التصويت الجارية هناك، وبين مثيلاتها في الدول الديمقراطية، وحسب تأكيد صديقه القديم فإن كل شيء يجري بسلاسة وشفافية، وأن محاولات تشويه نزاهتها التي يشيعها المعارضون لن تعيق ممارستها، وأنها تتيح فرصا متساوية لبقية الأحزاب، بما فيها الحزب الشيوعي.

بوتين يروج لأفكاره في مؤتمر تلفزيوني مع طلاب جامعات من الجيل الجديد

 

وللوقوف على صحة ما يقوله الصحفي، يُقابل صانع الفيلم عددا من المعارضين الذين يشككون في نزاهة الانتخابات الروسية، ويفهم منهم أنها مُكرسة بالكامل لفوز الحزب الحاكم “حزب روسيا الموحدة”، أما بقية الأحزاب فمُنعت من المشاركة بقرار من لجنة الانتخابات المركزية.

وخلال انتخابات العام الفائت، أجرى الوثائقي مقابلات مع ممثلي الطرفين في الشارع، ومن خلالها تأكد له وجود هوة عميقة بين جيلين روسيين مختلفين في قناعاتهما السياسية والفكرية.

الحماسة القومية.. ميل كبار السن إلى الجيل القديم

يرافق الوثائقي ناشطة مدنية تدعى “أولغا” وهي ترافق أعضاء يعملون في دائرة الانتخابات التابعة لموسكو بصفتها عضوا في الحزب الشيوعي الروسي، وتعترف بأنها انتحلت تلك الصفة حتى تتمكن من مرافقتهم أثناء ذهابهم إلى بيوت كبار السن الذين يتعذر قدومهم إلى مراكز الاقتراع، وذلك لإتمام عملية تصويتهم ومعرفة كيفية إجراء عملية الاقتراع.

في عمارة سكنية أغلب ساكنيها من المتقاعدين لاحظت الناشطة إجماعا على اسم مرشح واحد كبير في السن كان في الماضي عضوا نشطا في الحزب الشيوعي، واليوم يُرشح نفسه عن الحزب الحاكم. أغلبية كبار السن أعربوا عن ثقتهم بالجيل القديم من السياسيين، وأنهم لا يثقون بتوجهات الشباب، ويعيبون عليهم نقص حماستهم القومية.

كبار السن يصوتون لأمثالهم من السياسيين، فهم يثقون بالجيل القديم

 

عاد الصحفي القديم المرشح عن دائرة موسكو للوقوف أمام الكاميرا ليكرر الكلام نفسه بكلمات أخرى، يشدد بها على تأثر الجيل الجديد من الروس بالأفكار الغربية، وابتعادهم عن القيم القومية الروسية.

تصفية المعارضين.. أثمان الوقوف ضد القيصر

في خضم متابعاته ومقابلاته يجد الوثائقي نفسه وسط خلافات سياسية تُعمق الانقسام الاجتماعي الحاصل، ولقسوة ما يتعرض له المعارضون بسببها من تمييز وتنكيل من قبل السلطة؛ تشتد أكثر فأكثر.

يُوَفَق صانع الوثائقي في مقابلة “فلاديمير كارا مورزا” المستشار السياسي السابق للمعارض الروسي “بوريس نيمتسوف” الذي قتل بالرصاص عام 2016 بالقرب من الكرملين. وقد تعرض هذا الناشط السياسي لمحاولتي تسميم بمواد كيميائية خطيرة مرتين نجا منهما، ويقول إنه يتعرض لملاحقات يومية وتشويه متعمد لسمعته على وسائل الإعلام التابعة للسلطة، بسبب دوره في فضح الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة، وأساليب تكريس السلطة الفردية. يشير إلى أن محاولات تصفية المعارضين قد توسعت منذ وصول الرئيس “بوتين” للسلطة، وشملت العشرات من أمثاله.

الناشط السياسي المعارض الذي تعرض للتسميم بالكيمياوي مرتين

 

يراجع الوثائقي تسجيلات (فيديو) مسربة من الطائرة التي كانت تقل المعارض “ألكسي نافالني”، ويظهر فيها وهو يصرخ من الألم، ويتضح لاحقا أنه تعرض لحظتها لعملية تسميم بمواد كيمائية خطيرة كاد أن يفقد حياته إثرها، لولا إجراءات تسفيره السريعة إلى ألمانيا ليتلقى العلاج المناسب هناك.

“أولغا”.. فصل من العمل وهواجس التهم الملفقة

أضحت ألمانيا مركزا للمعارضين الروس الهاربين من سطوة النظام، هذا ما ينقله الوثائقي عبر مقابلاته لعدد منهم وتوثيق نشاطهم المعارض، ومن بينهم “نافالني” الذي قرر العودة إلى موسكو بعد تحسن حالته الصحية.

يستغل الوثائقي المناسبة ليرجع معه إلى العاصمة الروسية، ويتابع حالة الانقسام الآخذة بالاتساع بين مكونات المجتمع الروسي. ستكون الناشطة المدنية “أولغا” بين أعداد غفيرة في انتظار وصوله إلى المطار، وما واجهته من عنف من قبل رجال الشرطة الواقفين أمام بوابات المطار يُحيل إلى ممارسات مشابهة جرت ضد المحتجين في موسكو وبقية المدن، وستتحول صورة الشابة التي يسحبها شرطيان بالقوة إلى رمز للعنف الممارس على المحتجين السلميين ضد الفساد وانعدام الحريات وإشاعة الخوف بين الناس.

الناشطة المدنية “أولغا” في المطار لاستقبال المعارض “ألكسي نافالني”

 

تجربة الناشطة الشابة “ألينا” تعزز ذلك الانطباع، فبسبب نشاطها أُجبرت على تقديم استقالتها من العمل كباحثة في مؤسسة البحوث العلمية التابعة للدولة، أما اليوم فهي تعمل مصففة شعر للكلاب، وتشعر بالخوف من أن تتمادى السلطة وأدواتها وتقوم بسجنها بتهمة ملفقة.

أحلام الماضي السوفياتي.. دهاء الإعلام الرسمي يصنع الانقسام

في خضم مخاوفها بعد مشاركتها في مظاهرة سلمية تنادي بفسح الحريات، من احتمال صدور حكم قضائي ضدها، تشير الشابة “ألينا” إلى حالة الانقسام المجتمعي الحاصل من خلال تجربتها العائلية، فجَدّاها يؤيدان السلطة، ويحلمان بعودة النظام الشيوعي للسلطة ثانية، بينما تشدد هي على أهمية نقل البلاد إلى مستوى من الاستقرار الحقيقي الذي يشيع الأمان ويضمن سلامة الجميع، لكنها تتجنب الخوض في نقاشات حادة معهم حتى لا تفقدهم.

يشدد المعارض “فلاديمير كارا مورزا” على دهاء الإعلام الرسمي ويصفه بالذكي، وذلك لأنه نجح في خلق تناقضات بين جيلين، وقد استغلت السلطة ذلك لإحياء الفكرة القومية من خلال العودة إلى الماضي وتبريز الأمجاد التي حققها الجيش السوفياتي في الحرب العالمية الثانية ضد النازية.

الإعلام الرسمي يوصف بالذكي لأنه نجح في خلق تناقضات بين جيلين

 

في خطاباته ومؤتمراته الصحفية يتعكز الرئيس “بوتين” على الفكرة القومية لضرب كل معارضة له بالقوة، ويتهمها بالخيانة والتنصل من الإرث الروسي العظيم كلما اشتد عودها.

تهجير العقول.. سعي السلطة إلى تصفية الجو من الرقباء

يصف المبعدون السياسيون والسجناء الهاربون إلى دول البلقان ما تعرضوا إليه من أساليب تعذيب من قبل رجال أمن تعاملوا معهم بوصفهم خونة للأمة الروسية، وليس بوصفهم معارضين سياسيين، بينما يجد مثقفون ومفكرون في سلوك السلطة ما يضعف الأمة حقا، من خلال تشريدها وطردها للعقول العلمية والكفاءات المهنية، ضمن توجه مدروس للسلطة تُريد من ورائه إبعاد المعارضين والمثقفين من المشهد السياسي الروسي تماما، ليخلو لها الجو وتعمل كما تريد من دون حسيب أو رقيب.

تهجير العقول وتعميق جروح جسد الأمة الروسية وتمزيقها كما يأتي في سياق مقابلات الوثائقي الميداني مع معارضين داخل البلاد وخارجها؛ يصبّ في مصلحة الحاكم، وليس في مصلحة الشعب الروسي الغارق في فقره ومشاكله.