دروس بيلاغا”.. دروس الحياة القاسية لمعلمة بلغارية متقاعدة

“بيلاغا” التي تهيمن تقريبا على كل دقيقة من فيلم “دروس بيلاغا” للمخرج البلغاري “ستيفان كومانداريف”، هي امرأة في بداية السبعين من العمر، كان من المفترض وسط ظروف طبيعية أن تستمع بسنوات تقاعدها بعد أن عملت كمعلمة لغة بلغارية حياتها كلها.

وما أن يصل الفيلم إليها، يكون قد بدأ عندها للتو كابوس مرعب للغاية، سيقلب حياتها رأسا على عقب، ويضعها في مواجهة أسئلة وتحديات لها علاقة ببلدها المضطرب، والغارق في مشاكله المزمنة وانسداد أفقه.

“بيلاغا”.. فيلم يحيي السينما البلغارية

يأتي الفيلم الروائي البلغاري الجديد بعد فترة غابت فيها السينما البلغارية عن المهرجانات السينمائية المرموقة، لظروف لا نعرف عنها الكثير، إذ إن السينما هناك، مثل الوضع العام في البلد الشيوعي السابق، أضحت أمرا ميؤوسا من إصلاحه، وتكاد تغيب عن التغطيات الإخبارية.

وعندما تحضر بلغاريا في الإعلام، فلأسباب لها علاقة على الغالب بالفساد الإداري وسيطرة المافيا على مفاصل الحياة جميعا، أو بسبب معدل الهجرة الكبير جدا لشبابها إلى الخارج، والذي يُعد من الأعلى في العالم بالنسبة لعدد السكان الكلي.

بوستر فيلم “دروس بيلاغا”

ولا يُضيع الفيلم أي وقت في التعريف بشخصيته الرئيسية أو حالتها النفسية، إذ يبدأ زمنه بمشهد طويل لـ”بيلاغا” قليلة الكلام بالعادة وهي تفاصل مع شركة الدفن لتقليص المبلغ الخاص لترتيب قبر يليق بزوجها الذي توفي للتو. وبرغم الحزن الذي كان يخيم على “بيلاغا”، إلا أنها تجد نفسها مضطرة للتعامل مع التفاصيل المالية الخاصة بترتيب دفن ملائم، والذي يتوافق مع ميزانيتها المحدودة.

ويرسم هذا المشهد ذلك الواقع الذي تعيش فيه “بيلاغا”، إذ إنها تنتمي إلى الطبقة التي كانت تصنف بالمتوسطة في زمن الشيوعية، لكنها انهارت اقتصاديا واجتماعيا بعد سقوط النظام الشيوعي، ولم تجد مكانها بعد في السنوات الأخيرة.

“بيلاغا”، وكما تظهر في المشاهد الافتتاحية، هي امرأة متحفظة قليلا، ولا تزال تعتز بطبقتها المتوسطة الآفلة، ومنصب زوجها، وهذا كله يعرقل حياتها، ويصعب من تقبلها للواقع الجديد من حولها.

“بيلاغا” تساوم متعهد الدفن في تكلفة قبر زوجها

ويوفق الفيلم كثيرا في رسم ملامح الطبقة التي تنتمي اليها “بيلاغا” عبر تفاصيل المكان الذي تعيش فيه، إذ إنها تعيش في حي سكني أصابه التقادم الكبير، بعد أن كان يمثل فخر طبقة اجتماعية متوسطة. أما الشقة التي تعيش فيها فقد أصابها الإهمال هي الأخرى، والمقتنيات التي تملكها تنتمي أيضا إلى عصر سابق، فعصر ما بعد الشيوعية لم يستطع أن يخترق حياة المعلمة السابقة، فظلت حبيسة حياتها وعالمها السالفين.

بداية الكابوس

وسط التحضيرات لجنازة زوجها، ستتلقى “بيلاغا” المكالمة الهاتفية التي ستهز حياتها، إذ ستتصل بها عصابة مختصة بسرقة المسنين عبر الاحتيال عليهم والادعاء بأنهم من الشرطة البلغارية وأن عليهم تسليهم مدخراتهم للحفاظ عليها بسبب الخوف من عصابة تسرق النقود من البيوت.

بدت “بيلاغا” غير معتادة أبدا على التعامل مع ظروف غريبة، أو ربما أن زوجها الراحل هو من كان يتولى التعامل مع العالم الخارجي في حياته. كما يمكن لحالتها النفسية المضطربة بعد وفاة الزوج القريبة، جعلتها فريسة سهلة لهذه العصابة القاسية.

المعلمة البلغارية المتقاعدة “بيلاغا” تعد نقودها القليلة

في سلسلة من المشاهد المؤلمة كثيرا، نراقب “بيلاغا” وهي تهتز من الخوف بسبب اتصال العصابة، ثم كيف نجحت الأخيرة في السيطرة عليها بالكامل، إلى الحد الذي جعلتها توافق على رمي كل مدخراتها من النافذة الى الخارج، بحجة حمايتها من عصابة متخيلة، وأن الشرطة ستعيد لها مالها بعد ساعات.

بالطبع لن يعود المال، الذي كان مخصصا لدفع تكاليف دفن زوجها والجنازة القادمة، والتي سيشكل موعدها المحدد ما يشبه الخط الزمني المتصاعد للفيلم، فكلما اقترب زمن هذه الجنازة كلما تعاظم توتر “بيلاغا” وقلقها، وبالتالي اقترافها أخطاء ستكون كارثية، وهي التي كانت كل ما ترغب فيه هو جنازة لائقة لزوجها الراحل.

لا رحمة للمسنين في عالم المادة

عندما تذهب “بيلاغا” لمركز الشرطة لتستعيد مالها، تكتشف أنها كانت ضحية لعملية نصب كبيرة. وتحصل على بعض الاهتمام في مركز الشرطة، لكن رجال الشرطة بدوا وكأنهم غير مبالين أو أنهم فقدوا الأمل في وقف هذه الجرائم البسيطة، مقابل جرائم كبيرة عديدة تعصف بالمجتمع هناك.

يقع الكثير من حمولة الفيلم العاطفية على الممثلة “إيلي سكورتشيفا” التي لعبت دور “بيلاغا”، إذ كان عليها أن تنقل الأزمة المتعددة الأوجه والتي تواجهها وحيدة، وبدون حماية الزوج والسلطة في بلدها، وسوف تفعل بأداء مقتصد كثيرا، ذلك أن الشخصية المحافظة بطبعها والعنيدة، ستصر أن تواجه الظروف، وأن لا تستسلم لليأس، كل هذا وفاء لزوجها وربما لحياتها السابقة.

“بيلاغا” ترمي بجميع نقودها للعصابة التي ادعت أنها ستحميها من اللصوص

وهناك مشاهد عديدة في الفيلم تظهر “بيلاغا” وهي تتلقى الضربات والخيبات من كل جانب، إذ إن شركة الدفن ترفض أن تساوم على مبلغ الدفن، بل زادت من المبلغ. وهناك المشهد الذي بدأت فيه “بيلاغا” ببيع مقتنياتها الخاصة مقابل مبالغ زهيدة، والمشهد الذي كان فيه عليها أن تعيد بعضا من الحاجات في المتجر القريب عندما اكتشفت أن ما بحوزتها من مال لا يكفي لدفع تلك المواد الأساسية. بيد أن كل هذه الجهود لن تقود إلى حل، وبقيت “بيلاغا” في حاجة ماسة للنقود.

عندما تقرر “بيلاغا” العودة إلى سوق العمل في مدينتها البلغارية الصغيرة، ستكتشف أن هذا الأخير لا يحتاج نساء تجاوزن السبعين، وستفشل في إقناع السوبرماركت القريب في العمل هناك. وهكذا بدت كل الأبواب مسدودة.

وحتى ابنها الوحيد الذي يعمل في الولايات المتحدة كسائق شاحنة، غير قادر على المساعدة، بل إن محادثتهما عن طريق الإنترنت ستكون قاسية كثيرا على الأمّ، إذ إنه سيلومها على إهمالها وتفريطها بمدخرات والديه، وكيف، وهي المتعلمة الحذرة، ستكون فريسة سهلة لعملية نصب ليست ذكية.

“بيلاغا” تترك بلاغا لدى مركز الشرطة بشأن العصابة التي سرقت نقودها

بمدخرات والديه، وكيف، وهي المتعلمة الحذرة، ستكون فريسة سهلة لعملية نصب ليست ذكية.

وكلما أوصد باب جديد أمام “بيلاغا”، غطس الفيلم في قتامة جديدة، ضاعف منها أسلوب التصوير الخاص، الذي كان بكاميرا متحركة ترافق الشخصية من زوايا تصوير مقربة، لتبدو الشخصية وحيدة تماما أحيانا.

عضو في عصابة جمع الأموال

يقدم الفيلم في منتصفه امرأة شابة جميلة كانت تدرس اللغة البلغارية عند “بيلاغا”. وستحتاج هذه الشابة إلى شهادة اللغة لأجل الحصول على الجنسية البلغارية. ولا يكشف الفيلم جنسية الفتاة، لكنها ستروي في مشهد مؤثر طويل ذكريات حرب عنيفة دفعتها إلى اللجوء لبلغاريا. وربما كانت هذه الفتاة جاءت من سوريا أو أوكرانيا، ففي كل الأحوال، ستمثل الفتاة تلك ضحايا الحروب الدائرة في العالم اليوم.

ولم تكن “بيلاغا” المشغولة بمحنتها الخاصة لطيفة كثيرا مع طالبتها، بيد أن هذه الأخيرة ستكون متفهمة لأزمة المعلمة بعد وفاة زوجها، وستساعدها في كتابة سيرة ذاتية للمعلمة ووضعها على أحد مواقع العمل على شبكة الإنترنت، على أمل الحصول على وظيفة سريعة وجمع المال للجنازة.

الشابة الأجنيبة التي كانت تدرس اللغة البلغارية عند “بيلاغا”

وما يحصل بعد ذلك، سيعد تحولا غير متوقع في الفيلم ..وغير مقنع تماما. إذ إن العصابة نفسها ستتصل بـ”بيلاغا” موقع العمل دون أن تعرف هويتها أو عمرها، للعمل معهم وجمع المال الذي يرميه المسنون من نوافذ شققهم.

ويجتهد الفيلم أن يحافظ على إيقاعه النفسي الحاد حتى في المشاهد التي تبدأ فيها الشخصية الرئيسية بالعمل مع العصابة، وكيف كانت ترتجف في مهمتها الأولى، وكيف كانت تنتظر في سيارة زوجها القديمة تلك المرأة المسنّة التي ستطل من شباك شرفتها لترمي نقودها من هناك. فلم يكن واضحا من خلال المشهد ذاك الوجهة التي ستأخذها “بيلاغا”، وما إذا كانت ستواصل ما بدأت فيه أو ستقف وحدها ضد النظام المهترئ كله.

نهاية عنيفة تليق بعالم رثّ

لا يتخلى الفيلم الذي رشحته بلغاريا للأوسكار القادم عن سوداويته أبدا، بل يواصل صب المزيد من الوقود علي الواقع العنيف القاتم، والحرب المستترة التي كانت دائرة تحت السطح، وكانت معادِلة للحروب الفعليّة التي مثلتها طالبة اللغة البلغارية عند “بيلاغا”، والتي سيتعاظم دورها في الربع الأخير من الفيلم، عندما تقذف بها المصادفات المأساوية في أتون الواقع البلغاري وتصبح ضحية تراجيدية له.

لا أمل للمسنين في بلغاريا من الوصول

يقدم المخرج “ستيفان كومانداريف” فيلما غير مساوم على الإطلاق، ولا يوفر أي نافذة من الأمل، وكان صعبا كثيرا على المشاهدة في غير موضع. وفي حين نقلت الممثلة “إيلي سكورتشيفا” هواجس جيل كامل من البلغاريين المسنين الذين لم يعودوا ينتمون إلى بلدهم الذي مرَّ بتغييرات هائلة.

ولعل المشاهد المتكررة التي صورت “بيلاغا” تصعد درج طويلا للغاية للوصول إلى نصب أثري من أيام الشيوعية، هي أكثر مشاهد الفيلم رمزية، لما يمثله الماضي في البلد، والذي ما زال حاضرا بتماثيله وآثاره، فيه حين بدت “بيلاغا” التي كانت تصغر تدرجيا في المشاهد البعيدة تلك، مجازا واضحا لأفول ذلك الجيل.