“برتقالة من يافا”.. صراع عند حاجز عسكري يلخص واقع فلسطين

نال الفيلم الفلسطيني “برتقالة من يافا” للمخرج الفلسطيني محمد المغني منتصف شهر فبراير/ شباط 2024، الجائزة الكبرى في النسخة الـ46 من مهرجان “كليرمون فيران” السينمائي الدولي للأفلام القصيرة في فرنسا، وهو واحد من أهم مهرجانات الأفلام القصيرة في العالم.

يحكي الفيلم قصة شاب يُمنع من المرور من حاجز قلنديا، فيحاول البحث عن سيارة أجرة تقله إلى حاجز حزما، فيصادف سيارة يقودها سائق نزق، وهناك يعرقل جنود الاحتلال سيارة الأجرة، ويبقى بداخلها مع السائق، مما يتسبب في تصاعد الاحتقان بينهما.

مقاطع من فيلم “برتقالة من يافا”

ولأن مخرج الفيلم لم يشأ أن يحمّل المشهد أكثر مما يحتمل، فتبقى القصة على بساطتها، فقد ابتعد عن طرح فلسفة أو جدل أو قضايا كبرى في النقاشات بين الراكب والسائق، بل اقتصر الأمر على الانتظار أمام الحاجز نفسه، ليحاكي ما قد يحصل في الواقع.

ومن هنا يمكن أن نرى المشهد في تجرده معادلا موضوعيا ورمزية لحكاية أكبر لا يمكن عرضها في 25 دقيقة هي زمن الفيلم.

لحظة إعلان فوز فيلم “برتقالة من يافا”

لذلك لا يمكن أن تشاهد فيلم “برتقالة من يافا” ذي الإنتاج البولندي والفرنسي والفلسطيني المشترك، دون أن يحيلك إلى ما هو أبعد من حاجز عسكري إسرائيلي وشاب يريد الوصول لوالدته، وسائق مزعج لا ينفك يتشاجر معه.

سطوة الاحتلال.. جرثومة تجثم على صدور السكان الأصليين

إن كل لحظة في الفيلم هي معادل موضوعي للقضية وسيطرة الاحتلال على الأرض والسماء، وانشغال الفلسطيني بالحركة والمرور عبر الحواجز واستغراق العمر لعبور نقاط التفتيش، وإنهاء المقابلات الأمنية، وانتظار تسليم البطاقات الشخصية.

مقاجآت لا يمكن توقعها على الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية

في حين أن الإسرائيلي يسيطر على الفلسطيني باعتبار نفسه الحاكم المستعمر، مهما حاول الفلسطيني نفاقه أو مجاراته، كأن يقدم له مرهما واقيا من الشمس كما حدث بالفيلم، أو قد يصمت خوفا، أو يحاول الاعتراض، فهو في كل الأحوال عاجز.

بل إن الرمزية في الفيلم تذهب إلى أكثر من ذلك، فالفلسطيني يترك المستعمر، وينشغل مع أخيه الذي يشبهه في الشجار والقتال والانقسام، وهذا ما يطرق رأس المتلقي فورا حين يرى المشاجرة بين السائق والشاب والمضاربة بينهما، والجنود يقفون يتفرجون، كما يحدث تماما في أرض الواقع.

برتقالة من يافا.. صراع يجسد الفرقة عند حاجز الاحتلال

أدى الممثل كامل باشا -وهو حاصل على جائزة أحسن ممثل في مهرجان البندقية عام 2017- شخصية السائق باحترافية وانتباه، مما أظهر العفوية والحيوية التي يؤدي بها الممثل الشاب سامر البشارات الشخصية المقابلة له، وكان قد مثّل عام 2013 في فيلم “عمر” وصعد سريعا إلى العالمية.

شجار بين الفلسطينيين يشهده الأعداء بسعادة

وتدور شخصية سامر البشارات حول شاب مغترب اسمه محمد يسعى إلى مقابلة والدته، ولكنه يعلق أمام الاحتلال عند الحاجز العسكري، مع سائق عصبي وفي زمن ومكان لم يعد يشبهه، بعد أن حصل على إقامة أوروبية خارج البلاد، واستقر هناك.

النتيجة المتوقعة في انتظار كهذا هو عودة السيارة أدراجها، ولن يصل أحدهما إلى القدس أو يافا، لكن برتقالة من هناك تصل إليهما، فيلتهمانها وهما يبتسمان في جنح الليل الذي أسدل ظلامه على السيارة.

برتقال يافا.. رمزية منتج عريق سطا عليه الاحتلال

هناك رمزية أخرى لوحدة الأرض وسعي الفلسطيني إلى كل بلاده ولو في الأمنيات، وتتجسد في كون المخرج من غزة، والفيلم يتحدث عن محاولة المرور إلى الشطر الآخر، واحتجاز السيارة على حاجز إسرائيلي في الضفة الغربية.

كذلك الأمر لرمزية برتقال يافا وما ناله من سطوة الاحتلال، فالمحتل لم يغير الجغرافيا فحسب، بل إنه سطا على السمعة التاريخية لبرتقال يافا الفلسطيني ونباهة الفلاح الفلسطيني التاريخية في سقياه وتطعيمه، ثم نسب كل ذلك إلى نفسه.

السائق يقدم للراكب برتقالة من يافا

فقد كان برتقال يافا يشحن في صناديق خشبية وينقل بالسفن هديةً مبهجة من يافا لجميع أنحاء العالم، ومع مرور الوقت أصبح الاسم علامة تجارية، وبهذا الاسم تعرف العالم على هذا البرتقال، حتى استغله الاحتلال لغرض الدعاية ووضعه على لوحات الدعاية السياحية له، وكأنه منتج إسرائيلي

فعلى كل حبة برتقال تصدر إلى العالم يوجد ملصق صغير كتب عليه (Jaffa)، وانتزع المحتل هذا الاسم من سياقه التاريخي، واستمر في سرقة الثقافة وتاريخ برتقال يافا.

“استلهمتُ الفيلم من قصتي الشخصية”

كان مخرج الفيلم محمد المغني قد درس السينما في المدرسة الوطنية للأفلام في وودج ببولندا، وهو يقول في لقاء خاص بالجزيرة الوثائقية إنه سعيد بجائزة مهرجان “كليرمون فيران”، وهي تأتي في وقت يشاهد فيه العالم ما يحدث في قطاع غزة، مما يزيد حاجتنا لمزيد من الاهتمام بالقضية الفلسطينية عموما.

وكان الاحتلال الإسرائيلي قد شن عدوانا شرسا على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، فخلّف أكثر من ثلاثين ألف شهيدا وشهيدة، ولم تضع الحرب أوزارها حتى اللحظة.

يقول مخرج الفيلم: لقد استلهمت الفيلم من قصتي الشخصية، عند محاولتي للذهاب إلى يافا مع والدتي قبل سنوات، ومن هنا بدأت كتابة السيناريو وعرضه والبحث عن منتجين، حتى صنعنا الفيلم في مدينة رام الله، وبنينا حاجزا من جديد، وقد واجهنا كثيرا من الصعوبات لنقل المعدات التي احتجزتها السلطات الإسرائيلية أسابيع عدة.

ولا يمكن للمخرج الشاب محمد المغني أن ينسى أنه خلال حياته مر على حواجز إسرائيلية كثيرة، فيقول: عندما كان الجنود يتحدثون العبرية فيما بينهم، كنت أشعر أن هنالك شيئا مريبا، وأنا لا أفهم ماذا يدور بينهم، وهذا يجعلك تشعر بأن هنالك ثمة مشكلة، لذلك لم أترجم ما يقوله الجنود في الفيلم، ليشعر المتلقي بنفس الحيرة والارتباك اللذين يصيبان الفلسطيني كل يوم عشرات المرات.