“الأستاذ”.. قصيدة سينمائية تحمل روح المقاومة وتكسر النمط السائد

في كتاب “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال”، يخبرنا الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني أن “المقاومة المسلحة ليست قشرة، بل هي ثمرة لزراعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض”.

وفي الفيلم الروائي “الأستاذ” للمخرجة الفلسطينية البريطانية فرح نابلسي، نشاهد حكاية مقاومة مسلحة فلسطينية تنضج على نار هادئة، نار الحياة اليومية الفلسطينية التي تصبح معها المقاومة أمرا اعتياديا وفعلا يوميا.

عُرض الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في سبتمبر/ أيلول 2023، وما زال يستحق المشاهدة والتحليل حتى اليوم، ليس فقط لاستمرار رحلته في العرض بين المهرجانات السينمائية العالمية، وحصده جائزة لجنة التحكيم وجائزة أفضل ممثل من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في ديسمبر/ كانون الأول 2023، إضافة إلى عرضه حاليا في مهرجان “ستوكفيش” السينمائي بأيسلندا في أبريل/ نيسان 2024، بل أيضا مع زيادة الاهتمام العالمي بما يحدث على أرض غزة اليوم، وأهمية موضوع الفيلم في هذا السياق.

في استقبال العاملة الاجتماعية البريطانية

فبينما يظهر الفلسطينيون في غالبية الأفلام الفلسطينية الموجهة للجمهور العالمي بشكل مسالم ومستسلم، يحاول فيلم “الأستاذ” أن ينقل حكاية أكثر واقعية، فلا يخشى أبطال الفيلم الفلسطينيون اختطاف جندي من الجيش الإسرائيلي، ولا حمل السلاح في مواجهة الاحتلال.

فكيف تستطيع حكاية عن المقاومة المسلحة جذب اهتمام جمهور عالمي؟ بل كيف تصبح الحكاية السينمائية قادرة على كشف الجذور الإنسانية للمقاومة الفلسطينية؟

الأستاذ.. قصة لا يتردد أبطالها عن كسر المألوف

تدور أحداث فيلم “الأستاذ” عن معلم فلسطيني في الضفة الغربية يدعى باسم، يؤدي دوره الفنان الفلسطيني صالح بكري، ونرى تطور علاقته باثنين من طلابه هما آدم ويعقوب، وتأثير الاحتلال على حياتهم، وتتطور الأحداث تدريجيا حتى نشهد اشتراك المعلم في خطف جندي إسرائيلي، وتورط الثلاثي في مواجهات حياة أو موت مع المستوطنين الإسرائيليين داخل الضفة الغربية.

جنود الاحتلال يهدمون بيت العائلة تحت سمع وبصر الأب والأبناء الذين يحاولون مقاومتهم

ففي حين يظهر الفلسطينيون -كما ذكرنا من قبل- في معظم الأفلام الفلسطينية مناضلين سلميين أو ضحايا، يظهر أبطال هذه الحكاية ذوي أعين مفتوحة على اتساعها، فلا يتردد الطالب يعقوب في اعتراض وسب الجنود الإسرائيليين الذي يهدمون منزله ومنزل أسرته.

ولا يفكر أي من أبطال الفيلم مرتين قبل مواجهة المستوطنين الإسرائيليين المدججين بالسلاح، والأهم أن الفيلم لا يعرض حادثة خطف الجندي الإسرائيلي بشكل يدينها، بل يعرضها بشكل يدعو لفهم أسبابها.

حيل السيناريو.. مصيدة لإيقاع المُشاهد العالمي في الفخ

يحاول سيناريو الفيلم -الذي كتبته المخرجة فرح نابلسي بنفسها- أن يضع عيونا وأيادي أجنبية داخل الحكاية، لجعلها أسهل في التماهي مع المُشاهد العالمي، فنتابع صداقة زميلة بريطانية مع المعلم الفلسطيني في المدرسة، ثم تتطور علاقتهم شيئا فشيئا، ومعها تصبح هذه المرأة الأوروبية شاهد عيان على كل ما يتعرض له أبطال الحكاية الفلسطينيون.

الطالبان “آدم” و”يعقوب” بطلا الفيلم

ويحاول أبطال الحكاية الفلسطينيون أيضا بكل السبل المتاحة للوصول لحقوقهم، ويوافقون على التواصل مع محامية إسرائيلية خلال أحداث الفيلم، والوقوف معها أمام محكمة إسرائيلية.

هذه التفاصيل المميزة والمختلفة داخل الحكاية، تترك أثرا مهما على المُشاهد العربي بشكل خاص، فجذور ما سيقوم به المعلم وتلاميذه فيما بعد تأتي بشكل أساسي من يأسهم من الوصول لحقوقهم بأي طريقة أخرى.

لقاء الأستاذ ووالد الجندي.. مشهد مختلف يختزل الكثير

تصبح مشاهدة فعل المقاومة المسلحة في الفصل الثالث من الفيلم نتيجةً لما شاهدناه في الأحداث تدريجيا، ولا تأتي المقاومة هنا قشرة، بل تبدو جذورها عميقة وراسخة، كما وصفها غسان كنفاني.

تختار المخرجة فرح نابلسي بذكاء أن تجعل الجندي المخطوف إسرائيليا أمريكيا، فتظهر بذلك التورط الأمريكي في الحكاية، كما تقترب من التماهي مع حكايته أيضا، بنقلها نقاشات أبويه المكلومين على ابنهما لخلفية الحكاية.

لحظة اختطاف الجندي الإسرائيلي الأمريكي

وحين يواجه والد الجندي المخطوف المعلم الفلسطيني قبل نهاية الفيلم، تتخطى المخرجة أحد أكبر “كليشيهات” الحبكة في هذا النوع الفيلمي، فبدلا من صنع لحظة تآخٍ وحب مصطنعة، فإن اللقاء وما دار فيه من حوار يترك أثرا أكثر أصالة، بالتزام كل طرف بما يعبر عن جانبه من الحكاية.

الأستاذ يوجه حديثه لوالد الإسرائيلي المختطف

فالأب يريد أن يطمئن على ابنه، وربما يلوم نفسه على تركه يأتي إلى هذه الأرض المحتلة، والمعلم لا يريد أن يكشف تفاصيل حادثة الاختطاف، لكنه يريد بشكل إنساني أيضا أن يخبر الأب بأن ابنه سيظل في حالة جيدة، لأن من اختطفوه يعلمون أن من أرسلوه مقتنعين بأنه يساوي أكثر من 10 آلاف أسير فلسطيني.

خطوة في اتجاه المقاومة.. فيلم جريء قادم من الضفة الغربية

من خلال نمط سينمائي يبدو قريبا من الوثائقي، ومن خلال لقطات طويلة لقرى الضفة الغربية وتلالها ومزارعها وأشجار الزيتون فيها، والمستوطنات التي تحيط بها والجدار العازل، تؤسس المخرجة فرح نابلسي لأجواء فيلمها الروائي الطويل الأول، بعد فيلمها القصير “الهدية” الذي رُشح للأوسكار في عام 2020.

عاملة الشؤون الاجتماعية البريطانية التي تقف إلى جانب الحق الفلسطيني

وبينما صور فيلم “الهدية” معاناة أب مع الفصل العنصري ونقاط التفتيش والجدران العازلة، تتخذ سردية فرح نابلسي الفلسطينية هنا في “الأستاذ” خطوة في اتجاه المقاومة، فلا تكتفي بنقل معاناة الفلسطينيين فقط، بل تبني لحظات التشويق لتصل في النهاية إلى لحظة المواجهة، ومع التأصيل والبناء المتمهل للعلاقة مع أبطال العمل، يصبح اتجاههم للمقاومة في النهاية رد فعل طبيعيا، فماذا يمكن أن تفعل إن فقدت بيتك وأفراد عائلتك ويئست من العدالة؟

بوستر فيلم “الأستاذ”

بعد عرض الفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، قالت المخرجة فرح نابلسي إنها صنعت الفيلم بشكل مستوحى من القصص الحقيقية التي سمعتها من أهل فلسطين، في زيارتها المتعددة إلى هناك، وإن الفيلم صور في ظروف صعبة بالضفة الغربية.

المخرجة الفلسطينية “فرح نابلسي”

فيلم “الأستاذ” محاولة شجاعة من مخرجته لصنع فيلم فلسطيني عن المقاومة، وهو موجه بشكل رئيسي للمُشاهد الغربي، ويزيد من قيمته أداء تمثيلي مميز من بطله صالح بكري، التي تصفه مخرجة الفيلم بأنه “دانيال داي لويس” العرب، ومعه ممثل موهوب هو محمد عبد الرحمن، ويؤدي دور آدم الذي يقدم هنا ظهوره الكبير الأول.