تجار الألم.. الأنانية المفرطة التي يمكنها تدمير البشر

تحمل القضية التي يتعرض لها فيلم “تجار الألم” من الغرابة والجنون ما يجعلها قصة خيالية أكثر من كونها حقيقة، ولولا اعتمادها المباشر على القصة الحقيقية من واقع ملف القضية في المحاكم، لكانت بعيدة التصديق، ربما لما تعنيه من مدى التوحّش والقسوة البشرية التي تخرج عن حدود المقبول.

ولعل اختيار المخرج “ديفيد ياتس” -وهو مخرج سلسلة “هاري بوتر” (Harry Potter) الشهيرة، جامعا بين خياله الواسع والحقيقة التي تمثلها قصة الفيلم القاسية، ربما كان اختيارا جيدا لتخفيف وقعها على المشاهد.

في إطار روائي، يحكي فيلم “تجار الألم” (Pain Hustlers) قصة حقيقية لسعي إحدى شركات الأدوية، للتعاون مع عدد من الأطباء المعالجين لمرضى السرطان، بهدف التحايل على المرضى وإعطائهم أدوية مسكّنة للآلام المميتة، تحتوي على قدر عال من الأفيون “الإدماني” أقل سعرا وأكثر طلبا وأعلى ربحية، وهي قصة حقيقية قاسية اعتمدت شركة “نتفليكس” المنتجة للفيلم على نقلها بشكل درامي، يستقي أحداثه من الحقيقة مباشرة.

يمكن أن نقول إن المواد الأفيونية هو وباء المخدرات الأكثر توحشا في التاريخ الأمريكي على مدار العقدين الماضيين، وكانت بداية الأمر ارتفاعا حادا في الجرعات الزائدة من الأدوية الموصوفة طبيا، وأدى استخدامها إلى ارتفاع غير عادي في الوفيات، وصل إلى حوالي 42 ألفا في عام 2016، بعد أن كان 33 ألفا في عام 2015، بحسب الإحصاءات التي قدمتها الحكومة.

البطل والبطلة أثناء سعيهما في إقناع بعض شركات الأدوية بوصف عقارهم للمرضى

وفي عام 2012، حين أنشئت الشركة التي يحكي الفيلم قصتها، كانت صناعة الأدوية في عنفوان معركة كبرى مع سلطات ترخيص الدواء حول دور هذه الشركات في تعزيز انتشار مسكنات المسببة للإدمان. فبينما كانت السلطات تحاول حصر استهلاك المواد الأفيونية في مجموعة مختارة من المرضى الذين بلغ مستوى الألم لديهم درجة لا يمكنهم تحمله إلا من خلال هذه المواد، كانت شركات الدواء تحاول دفع الحدود القانونية لاستخدام هذه العقاقير المسكنة لتتمكن من إيصال منتجاتها إلى سوق أوسع، ما جعل الفيلم الوثائقي الذي نحن بصدده وعددا آخر من الأعمال الفنية والأدبية تضع تلك القضية في محور قصصها.

لكن الإشكالية أن انتشار هذه العقاقير الطبية جاء متجاهلا الخطورة البشرية التي تظهرها الأرقام، فعلى سبيل المثال، أدى استهلاك أربعة من بين كل خمسة مرضى للمواد الأفيونية عام 2016 إلى إدمانهم على مخدر الهيرويين ما أودى بحياة 15 ألفا منهم خلال ذلك العام فقط.

يطلق الفيلم صرخة مدوية في وجه العصابات التي تتاجر بآلام فئة شديدة الضعف والاحتياج، ويثير سؤالا عن كيفية تغيير كل ذلك، إذ لا ينتهي الأمر بالمدمنين بمجرد سجنهم وابتعادهم قليلا عن التعاطي.

تجار الألم.. قضية الفيلم التي شغلت السينما مؤخرا

أمست أزمة المواد الأفيونية الملهم الأكثر شعبية لدراما الجريمة في السنوات الماضية، فعلى سبيل المثال بثّت منصة “هولو” (Hulu) المسلسل القصير “دوبيسيك” (Dopesick) عام 2021، ثم أنتجت نتفليكس منذ ذلك الحين عدة أعمال تتناول القضية، منها مسلسل “المسكّن” (Painkiller)، ومسلسل “انهيار منزل أشر” (The Fall of the House of Usher)، وأحدث تلك الأعمال فيلم “تجار الألم” (Pain Hustlers) الذي بين أيدينا.

ملصق فيم “تجار الألم”

ما يجعل فيلم “تجار الألم” مختلفا نسبيا عن الأفلام السابقة، أنه يمثّل قصة أخرى لشركة لا تروج للطبيعة الإدمانية لمسكنات الألم التي تنتجها، وقد بدا الفيلم أكثر كوميدية قليلا من الأعمال السابقة، ويحمل خيال مُخرجه العالمي، ولا يتجاهل نفس الزاوية بشكل أساسي، ومع ذلك فقد حصل صناع الفيلم على مساحة مهمة للإبداع في هذه العملية.

قامت ببطولة الفيلم “إيميلي بلانت” و”كريس إيفانز”، وقد قدما أداء مذهلا، مع أن الحبكة التي اعتمد عليها الفيلم متواضعة، لكنهما اختلسا طرقا لإثبات موهبتهما الفذّة، في التعبير عن المشاعر الإنسانية التي تظهر ضعف شخصين اضطرتهما الظروف للكذب والخداع، ولم يجدا ما يمنعهما من ذلك.

تجار الألم.. زاوية القوة والضعف في عمل حقيقي درامي

يبدأ الفيلم بداية قوية، تعتمد على تقطيعات مونتاجية بين الجناة الحقيقيين أثناء محاكمتهم، وبين الممثلين الذين يؤدون أدوارهم، لكنه لا يبدو قاعدة قوية للتعلق بتلك الشخصيات بشكل مؤثر يخدم القصة. إذ يبدأ تفكك القصة بعد ربع ساعة من بداية الفيلم، وتلك محاولة باهتة لاعتماد معادلة “نتفليكس” المعتادة في السعي إلى قصة مهجنة، تتوزّع بالتساوي بين الدراما والكوميديا والحركة، بدل البحث عن بناء متماسك أكثر.

تحاول “نتفليكس” في كل مرة العمل على بناء وصفتها التقليدية التي باتت مملة نوعا ما، بمحاولة تخفيف وطأة القسوة على المشاهد خوفا من ملله، وفي الوقت ذاته تسعى لصناعة قصص لا يمكن أن تُصنع من دون التركيز على جرعة الدراما فيها، ما يتسبب في كل مرة بخروج القصص ببعض الحيادية غير المحببة في صناعة السينما، سواء الوثائقية أو الدرامية.

مشهد من فيلم “تجار الألم”

ويعتمد الفيلم على حوار سطحي نوعا ما يجمع الأبطال، ولا يلتفت بشكل عام إلى خروج شريط صوت قوي يخدم قصته، بل يكتفي بنقلات طويلة وتطورات في الأحداث، تعتمد على معرفة القضية لدى جانب كبير من الجمهور، وربما من ذلك بدت القصة داخلية محلية أمريكية أكثر من كونها عالمية.

النقطة الأقوى في الفيلم كانت التأسيس للبطلة التي سعت إلى حماية ابنتها من الإفلاس والتخفيف من وحدتها القاسية بعدما تركت زوجها، لكنها لم تتمكن تحقيق ذلك دون المساس بالتحايل على ضعفاء مرضى السرطان الذين كانوا ضحيتها الأكبر.

الفائدة الكبرى التي يطرحها الفيلم هي إعادة تشكيل غضب المجتمع على هذه المجموعات، والسعي في كل مرة إلى إدانة جرائمهم، وخلق مساحات تخويف مجتمعية من التعامل الساذج مع العقاقير الموصوفة من غير سياق محدد.

وهو فيلم يثير بعض الخوف من الأطباء الجدد الذين باتت الثقة المفرطة في اختياراتهم مميتةً في بعض الأحيان، وربما بدت تلك النقطة تحديدا هي الأقسى على الجميع، إذ يبدو الفيلم على مدار عرضه دعوة للتشكيك في كل شيء حولنا مهما كان، حتى الطبيب الذي ارتضينا أن يساعدنا في مرضنا.

تجار الألم.. بداية حقيقية للمأسآة

يمكن تصنيف عام 2012 الوقت الحقيقي الذي بدأت منه قصة الفيلم، حين خرج الرجل الأربعيني “إليك بورلاكوف” مدير مبيعات شركة “إنسيز ثيرابيوتيكس” (Insys Therapeutics) لتناول العشاء مع صاحب شركة الأدوية “ساراسوتا باين أسوشيتس” والطبيب “ستيفن شون”، وكان لديه منتج واحد فقط يحمل علامة تجارية واحدة، وهو مسكن ألم أفيوني جديد وقوي للغاية يسمى “سوبسيز” (Subsys)، وكان يريد أن يجعله أحد عملائه، بالتوصية على قبول منتجاته من الأفيون، واتخاذها مسكنات في علاج مرضى السرطان.

رجل الأعمال “جون كابور” صاحب الشركة التي عملت البطلة “إيملي بلانت” في مبيعاتها

وعلى مدار أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، زادت المواد الأفيونية التي كان يعطيها الأطباء للمرضى بشكل حاد، وزادت معه المراقبة والتحذير من وصفها في علاجات كانت تجعلها إدمانية. وفي كل مرة يصبح تسكين الألم بالأفيون دعوةً لإدمان المريض، وهو لا يعلم.

ومن هؤلاء الأطباء الذين كانوا يفضلون تسكين آلام مرضاهم -وإن أدمنوا- الطبيب “ستيفن شون”، فقد استهدفته شركة الأدوية الجديدة على اعتباره “الحوت” الذي يستطيع تحسين مبيعات الشركة بالكامل. ويبدأ فيلم “تجار الألم” من تلك الحكاية وعلى ألسنة أصحابها، في لحظة يقف فيها الجميع للمساءلة بعد القبض عليهم، بسبب تعرّض المرضى لحالات إدمانية عالية.

ففي قضية شركة “إنسيز”، التي اعتمد الفيلم عليها، يتطلع المدّعون العامّون إلى فتح آفاق جديدة في مساءلة صناعة الأدوية والصناعات الطبية فيما يتعلق بأزمة المواد الأفيونية الحالية، فهم يهاجمون طرفي صفقة مبيعات الأدوية، ويواجه 11 طبيبا بعض التهم، بعد إدانتهم بسبب ثبوت علاقاتهم بالشركة.

وقد استُدعي الطبيب “ستيفن شون” بسبب سجلات طبية تتعلق بشركة “سوبسيز”، ومن خلال النظر في علاقة شركة “إنسيز” بمقدمي الخدمات مثله، يكشف المحققون كيفية بيع المواد الأفيونية عند النقطة التي تدخل فيها مجرى الدم الوطني لأول مرة، حين يزور المريض عيادة الطبيب.

بطلة العمل “إيملي بلانت” أثناء انتظار محاكمتها في الفيلم

وينتمي عقار “سوبسيز” و”أكتيك” (Actiq) إلى فئة من منتجات “الفنتانيل”، تسمى أدوية “تي آي آر إف” (TIRF)، وقد رُخصت حصريا لعلاج آلام السرطان “الاختراقية”، وهي نوبات ألم تخترق تأثيرات المواد الأفيونية طويلة المفعول التي يتناولها مريض السرطان على مدار الساعة. كما أنها منتجات متخصصة، ولكن هذا التخصص يمكن أن يكون مربحا أيضا، لأن الأدوية تتطلب مثل هذا السعر المرتفع، ويمكن لمريض واحد أن يوفر لشركة الأدوية أرباحا تصل لملايين الدولارات عبر استهلاكه لهذه العقاقير الإدمانية.

وأما الفنتانيل فهو قوي للغاية، وقد أصبحت الأشكال المصنعة بشكل غير مشروع هي القاتل الرئيسي في أزمة المواد الأفيونية، وغالبا ما تُحوّل إلى الهيروين أو تضغط في حبوب مزيفة، وقد بذل المنظمون جهودا قوية لتقييد منتجات الفنتانيل الموصوفة طبيا.

ففي عام 2008، أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية رفض طلب “سيفالون” توسيع الاستخدام المعتمد لعقار “فنتورا” (Fentora)؛ ففي التجارب السريرية للشركة، أظهر الأشخاص الذين لم يصابوا بالسرطان سلوكا إدمانيا أكبر بكثير وميلا إلى تعاطي المخدرات، وهو “نادرا ما يُرى في التجارب السريرية”، وفقا لإدارة الغذاء والدواء.

صورة حقيقية لـ”جون كابور” صاحب الشركة الحقيقي

وقام رجل الأعمال “جون كابور” (74 عاما) وحده بتمويل شركة “إنسيز” كلها تقريبا خلال أكثر من عقد من الزمن، فكان يرعى شركة “سوبسيز” على الطريق الطويل لنيل موافقة إدارة الغذاء والدواء، وكان يقول في كثير من الأحيان إن ما حفزه هو رؤية زوجته “إيديثا” تعاني من سرطان الثدي النقيلي، قبل وفاتها في عام 2005 عن عمر يناهز 54 عاما.

يقول “جيم كوفمان”، وكان مدرب مبيعات إقليمي في شركة “إنسيز” في عام 2012: كانوا يوظفون الأشخاص مباشرة بعد تخرجهم من الكلية، لذلك كان هناك نوع من السذاجة، مما أسهم في تحقيق أهدافهم وغاياتهم.

“تجار الألم” تعبير صارخ حول الفردية والأنانية المفرطة التي باتت علامة العصر الجديد، الذي يستبيح كل شيء من أجل نجاته الشخصية، حتى لو كانت على حساب مريض سرطان.