“آرسن فينغر الذي لا يقهر”.. قصة الفرنسي الذي درّب الإنجليز 22 عاما

د. أحمد القاسمي

كيف تتحول كرة القدم من تسلية أو مهنة إلى أسلوب حياة وعشق قاتل؟

الفيلم الوثائقي “آرسن فينغر الذي لا يقهر” (Arsène Wenger.. Invincible) الذي أخرجه “كريستيان جان بيير” و”غابرييل” (2021)؛ يقدم لنا مثالا قويا لذلك، فيعرض مسار المدرب الفرنسي مع الفريق الإنجليزي أرسنال الممتد لـ22 سنة، حيث يتوقف عند انتصارات المدرب الفرنسي الباهرة وخيباته المرة.

لكن وأنت تبتعد عن شاشة العرض تكتشف أن أعمق صور المدرّب التي ظلت بذهنك هي صورة العاشق المحبط الذي حيل بينه وبين من يحب.

“لا يوجد غير آرسن فينغر واحد”.. وداع المدرب الحكيم

يبدأ الفيلم بقول المدرب الفرنسي الذي خلّف وراءه مجدا في لندن “معنى حياتي هو كرة القدم.. هذا الأمر يخيفني”، ثم يعرض المخرجان المباراة الأخيرة في دوري الأبطال وكواليس تكريمه بعد قرار الرحيل تحت وابل من صيحات الجماهير التي جاءت لتعترف له بالجميل، فتتغنى مرددة “آرسن فينغر فريد من نوعه”، أو “لا يوجد غير آرسن فينغر واحد”.

 

تبدو اللحظة مفعمة بالمشاعر، لكن صوت “آرسن” الحزين يفاجئنا بالتعليق على المشهد قائلا “يحبك الناس حين تولد، ويحبونك حين تموت”. فيكشف خلف حكمته الظاهرة عميق ألمه، ألذلك كان يخشى أن ترتبط حياته بأكملها بكرة القدم؟ عبارته تلك تختزل تقييمه لنهاية تجربته مع الفريق، فتجعله موتا بشكل ما.

هل كان يرى في صيحات الجماهير التي تودّعه متغنية بتميّزه خُطب تأبين إذن؟ فكل ما سيرد في المشاهد اللاحقة سيدفع نحو هذا الانطباع، وسيسهم في رسم صورة للمدرّب الحكيم الذي يجعل كرة القدم صورة للحياة ولصراع الإنسان القوي من أجل البقاء.

لقد كانت الصور التي ينتخبها المخرجان تترجم هذا المؤثر، وتعكس النبض الإنساني الكامن وراء اللعبة تحديا أو فرحا أو حزنا أو غضبا، وترد أمه هذا النبض الإنساني القوي إلى القسوة التي ورثتها العائلة بأسرها بعد الحرب، ولا يكاد “آرسن” يختلف عنها، فيرد نجاحه إلى شخصية والده التي ترفض القناعة وتنشد الكمال، وعوض أن يقول “أحسنت”، كان يسرع إلى القول دائما “أنت قادر على ما هو أفضل”.

“هذا الأجنبي النكرة”.. عنصرية وبدايات صعبة في مهد كرة القدم

يعود الفيلم إلى بداية “آرسن فينغر” الصعبة في لندن، فقد أتت به إليها صداقته برئيس أرسنال “ديفيد دين” عام 1996، وهو ما مثّل مفاجأة كبيرة لوسائل الإعلام المحلية، فالمدرّب الذي لم يكمل عقده الخامس وقتها كان أول فرنسي يتولى التدريب في دوري الأبطال ليواجه جوّا عدائيا، فقد كان الجمهور متعصبا رافضا أن يدرب “هذا الأجنبي النكرة” في إنجلترا، خاصة أنه كان ينتظر أن يتسلّم اسم مرموق مقاليد الفريق، وأن أخبارا راجت تشير على “كرويف” أو إلى مدرب في قامته.

المدرب الفرنسي آرسن فينجر جعل من أرسنال بطلا لا يقهر

 

لم يكن الإعلام أقل عدائية للمدرب، فيبالغ تقرير بعنوان “أرسن.. من؟”  في عرض ذهول أنصار الفريق لخبر تعيينه، كأن يتساءل بعضهم هل لديه ماجستير؟ أو يخمن آخر أن يكون سويديا لرنة الاسم الغريبة، أو يتساءل ثالث “ماذا لديه ليأتي إلى لندن؟” مجسّدا مركزية الإنجليزي الذي يعاني من شعوره المرضي بالتعالي والتفوق لاختراعه لعبة كرة القدم، واللاعبون أنفسهم كانوا يجدون الرّجل غريبا، فلسترته الواسعة ونظارتيه الكبيرتين كان بالنسبة إليهم أقرب إلى شخصية الأستاذ الجامعي، أو إلى ممثل يتقمص دور المحقق في الأفلام البوليسية.

لا تخلو الصور التي ضمّها التقرير من سخرية تنفي عنه أن يكون رياضيا سليل الميادين، وتراه أقرب إلى المختص في الأنشطة الذهنية والتفكير النظري.

وعندما أخذ يحقّق نجاحاته الأولى تحوّل التنمر إلى حرب معلنة، فواجهته أطراف خفية بحرب الإشاعات. فكانت تنشر خبر تقديمه لاستقالته حينا، وتدّعي أن بعضهم يمسك صورا تفضح حياته الخاصة وتهدّد بنشرها. والمذهل حقا هو طريقة تعاطي “أرسن فينغر” معها. فلم يتقمص دور الضحية، ولم يشكُ تعرضه للتمييز العنصري، وإنما نزل هذه الهجمة ضمن بناء الشخصية النمطية الإنجليزية المحافظة التي ترفض التغيير وتقاوم التجديد، وليس على المجددين إلاّ أن يثبتوا عبر إنجازاتهم أنهم على صواب.

“هذا من كنا نريد”.. مثال المدرب الذي يُحتذى به

تحدى “آرسن” كل العراقيل التي واجهته، وفرض رؤيته لما يجب أن تكون عليه كرة القدم في فريق المدافعين، فقد لاحظ أن اللاعب الإنجليزي يتصرف خارج الملعب بحرية تنسف ما يحصل عليه في التدريبات من لياقة بدنية، والحال أن جسده هو آلته للعمل التي يجب أن يحافظ عليها ويتعهدها بالرعاية، ففرض نظاما غذائيا صارما على اللاعبين، ومنع عنهم مختلف المنبهات والمشتتات كالشاي والخمر والسكر، وعمل على إرساء ثقافة رياضية جديدة أساسها الطموح إلى اعتلاء أعلى المراتب، والقطع مع روح المحافظة.

 

تجاوز تأثير “فينغر” فريق أرسنال ليشمل الدوري الإنجليزي الممتاز بأسره، فقد كان يتشكّل أساسا من اللاعبين البريطانيين. و”آرسن” هو من جعله ينفتح على المواهب النادرة من الكرة العالمية ويطوّر أسلوبا مختلفا في اللعب، وهذا ما منح اللعبة روحا جديدة ومنزلة مميزة على الصعيد الأوربي والعالم، فاستقدم “باتريك فييرا” و”إيمانويل بيتي” و”نيكولا أنيلكا”، وجعل “تيري هنري” الوافد من يوفنتوس الإيطالي بعد تجربة صعبة يعيد بها اكتشاف نفسه لينعت الآن بأنه أعظم من لعب في الفريق.

لقد كان يقدّم المثال الذي يجب أن يحتذى به، فيسخر وجوده كاملا للاعبين، ويضع نفسه في خدمتهم لتذليل ما يعترضهم من الصعوبات، ويترجم عمليا فكرته القائلة إنّ “المدرب أب لهم بشكل ما، يأخذ بأيديهم ليحققوا رسالة الرياضة الفضلى، وهي أن تمنح الجمهور الفرح وتساعده على نسيان همومه”.

وكان يلزم نفسه بما يلزم به لاعبيه، فيعتزل مثلا العالم الخارجي قبل 48 ساعة من أي مقابلة، فتغيّرت نظرة المحيطين به، وسلموا بطريقته في التفكير تلك، وأضحى الجميع يردّد “هذا من كنا نريد”، وعلى مدار فترة إشرافه على الفريق حقق “آرسن فينغر” ما ارتقى به إلى مصاف جديدة، وحوّله إلى متراهن دائم على الألقاب.

“زرع البذرة وظل ينتظرها حتى تنمو”.. فوز بلا هزائم

منح “فينغر” لقب “البطل الذي لا يقهر” لفريق أرسنال بعد موسم 2003 -2004 الأسطوري، وذلك حين قاده إلى الفوز بالدوري دون هزيمة. يذكر اللاعبون أنه اجتمع بهم إثر نهاية موسم 2001-2002 وأعلمهم بهدفه ذاك، أما هم ففكروا بأن مديرهم “بدأ يفقد صوابه”، وأنه “أصيب بالاختلال”، فكيف له أن يفكّر في تحقيق المستحيل.

كواليس تصوير فيلم “آرسن فينغر الذي لا يقهر”

 

لقد أضحى التحدي حقيقيا حين أعلن عن هدفه هذا على رؤوس الملأ، واتجه صوبه فخاض في الموسم 2002-2003 ثلاثين مباراة دون هزيمة، لكن الحلم انهار في الجولة اللاحقة حينما انحنى الفريق أمام إيفرتون، ثم عاود الكرة في الموسم 2003-2004، وكان على القدر أن يتدخل هذه المرة ليحقق المدرب الفرنسي حلمه، فيجعل ضربة الجزاء التي حصل عليها مانشستر يونايتد في الوقت بدل الضائع تنهال على القائم ذات مباراة عاصفة انتهت بصدام عنيف بين لاعبي الفريقين، وكلفت أرسنال عقوبات قاسية.

ثم ظهر “فيرغيسون” مدرب الفريق المنافس متهما خصمه بالغش، مطالبا إياه بأن يردم رأسه في التراب، لكن “فينغر” يتذكر تفاصيل المباراة بفخر معتبرا إياه “إنجاز حياته”، فلا يخفي غبطته وهو يؤكّد أنه “زرع البذرة وظل ينتظرها حتى تنمو”.

لقد فات المخرجين أن يذكرا أن “فينغر” انتزع لقب الفريق الذي لا يقهر من فريق بريستون نورث إند بعد أكثر من قرن، فقد استكمل موسم 1888/1889 بدون هزيمة، لكن الزمن غير الزمن، والظروف غير الظروف، فمباريات الدوري والكأس معا حينها لم تكن تتجاوز 27 مباراة، والتنافس لم يكن بالحدة التي هي عليها اليوم.

فرسا الرهان.. صراع قوي بين الغريمين يصنع المتعة الكروية

يعود الفيلم إلى أجواء التنافس الشرس بين “آرسن فينغر” والسير “أليكس فيرغسون” مدرب مانشستر يونايتد، وإلى ملاسناتهما التي كانت تتصدر الصحف الشعبية، ويصنع منها مؤثرا دراميا يخلق التشويق، ويُعيد المتفرج إلى الأجواء الحماسية بين الخصمين العنيدين.

 

فقد كان “فيرغسون” رجلا شرسا يخشاه الجميع، وكان مانشستر يونايتد يتقدم بعشرة نقاط على أرسنال في موسم 1997-1998، لكن الفريق الطموح أخذ يراكم الانتصارات المتتالية، وبات في طريقه إلى انتزاع اللقب.

في خضم هذا التنافس المحموم التصاعد عاشت صحف الإثارة على التلاسن بينهما، فقد حاول “فيرغسون” التقليل من شأن خصمه، مؤكدا أنه يأتي من اليابان ويفتقر إلى الخبرة الضرورية بكرة القدم الإنجليزية، وكان جواب “فينغر” أن “فيرغسون لم يعد يعمل، لقد فقد إحساسه بالواقع، وأن عليه أن يهدأ، فربما كان سيشعر بتحسن إذا وضعنا أمام الحائط وأطلق علينا الرصاص”.

لكن بعد تقاعدهما استعاد كلاهما احترامه إلى الآخر، فيقر “فيرغسون” بفضل “فينغر” في جعل فريق مانشستر يونايتد نفسه يتألق، فقد كان يفرض عليه النظر في المرآة العاكسة دائما لمراقبة الأرسنال.

يعترف “آرسن فينغر” بأن تلك العلاقة خلقت له تحديا شخصيا له ليثبت ذاته، ولا ينسى أن يتقمص دور الحكيم مرة أخرى ليساعدنا على فهم طبيعة الصراع، فالنساء يرتكبن الجرائم من فرط الحب، أما الرجال فيرتكبونها لشدة كرههم للهزائم، وكلاهما كان أسدا مستعدا لالتهام الآخر إن اعترض طريقه إلى النصر.

“قدر النهايات في قصص الحب العظيمة حزينة دائما”

يحرص الفيلم على إبراز “فينغر” في صورة من قدّم كل شيء لفريق العاصمة الإنجليزية مضحيا بحياته الشخصية والعائلية من أجله، لكن المتاعب بدأت منذ أن انطلق الفريق في تشييد ملعبه الجديد “ملعب الإمارات”، فقد استنفد المشروع كل الموارد المالية، وحال دون تجديد دمائه بلاعبين من طينة “فيرا” و”هنري” و”بيركامب”، وأضحى الفريق على حافة الإفلاس.

 

في تلك الأثناء ظهر فريق تشيلسي بصفته قوة مالية ورياضية صاعدة، وذلك بعد أن استحوذ الملياردير الروسي “أبراموفيتش” عليه، و”بعد أن أضحت كل قوانين اللعب النظيف تنتهك”، وأخذت صورة البطل الذي لا يقهر تتقوض، ونسي الجمهور بسرعة كل ما صنعه مديره الفني، وأضحت إزاحته مطلبا ملحّا، ليخلف ذلك كله رجلا محبطا يقر بأنه رابط بلندن لـ22 سنة لأن الأرسنال كان حب حياته، و”قدر النهايات في قصص الحب العظيمة حزينة دائما”، وكأن لسان حاله يردد قول أبو القاسمي الشابي:

لا أبالي.. وإنْ أُريقتْ دِمائي
فَدِمَاءُ العُشَّاق دَوْماً مُبَاحَه

“لم يخرجوه من الباب الخلفي، بل من النافذة”

لا بد من الإشارة إلى أن المخرجين الفرنسيين قد رسما صورة “فينغر” بكثير من العشق، وأنهما كثيرا ما كانا يدرجان لقطات عامة للفضاء الممتد عند إدراج صورته، إما سماء ليست متناهية، أو حقولا شاسعة، أو ملاعب عظيمة، للإيحاء بعظمة الرجل.

ولا بد أن شيئا من شعورهما بالفخر القومي سيتسرب إلى المتفرّج، فقد كانا يحتفيان برجل أثبت للإنجليز ماذا يمكن لفرنسي أن يفعل في لندن. ولا بد أيضا أن شيئا من العلاقات المعقدة بين فرنسا وإنجلترا والمنافسة بينهما على مر التّاريخ سيقفز إلى ذاكرته.

من هنا مأتى الحرص على تصوير الإنجليز مغرورين متعالين في بداية الفيلم، ناكرين للجميل في نهايته، وعلى تصوير “فينغر” الرجل الذي قدّم لهم كل شيء، ومع ذلك “لم يخرجوه من الباب الخلفي، بل من النافذة”.