“اعتقال”.. تكثيف للقهر والدكتاتورية والقمع الإنساني

د. أمـــل الجمل

كان يبدو أنه يُحاول أن يُخلص نفسه من ذلك الجحيم لبضع لحظات، فيعترف بالأشياء المطلوب منه تسجيلها، لكن يبدو أن السجين المرافق له -والذي يحاول أن ينقذ نفسه هو الآخر- قد أصبح ساديّا إلى درجة بشعة، إذ لم يتوقف عن الضرب إلا عندما كانت قواه تخور، فيأخذ فاصلاً للراحة ويذهب إلى سريره ليرقد عليه، ثم نسمع الآخر يتأوه من الوجع والألم محاولا النهوض من الركن الضيق خارج الكاميرا، نسمع صوت ارتطام الجسد بالأرض.

وبعد قليل من الوقت ينهض السجين المكلف بالتعذيب يتفحص الجسد المنكفئ على وجهه، ثم ينادي على الحراس فيسألونه: إلى أي درجة بالغت هذه المرة أيضاً في إصابته؟

فيجيب: لدرجة الموت.

يدخل ثلاثة من الحراس ويبدؤون في مسح دمائه، يستخرجون من حقيبة السجين ملابسه النظيفة، ويحشرون جسمه فيها، ثم ينقلونه إلى السرير كأنه نائم على ظهره في سبات عميق أبدي. يقول الحارس الأكبر سناً: “سنستدعي الطبيب”، بينما يظل القاتل واقفا يتأمل ضحيته لبعض الوقت، لكن قبل أن تُظلِم الشاشة نسأل أنفسنا نحن معشر المتفرجين: تُرى هل كان يتأمل ضحيته أم أنه يتأمل نفسه ومصيره هو الآخر؟

 

الحقبة الأكثر سوادا

أما التساؤل فمرجعه تأمل أول مشهدين بذلك الفيلم الروماني “اعتقال” (Arest)، وهو فيلم يبلغ 126 دقيقة من تأليف وإخراج “أندريه كوهن” سوف يُعرض ضمن أفلام أسبوع النقاد في مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ41 الممتدة من 20إلى 29 نوفمبر الجاري، وقد سبق أن عُرض ضمن مسابقة “شرق الغرب” بمهرجان كارلوفي فاري الـ54.

وعلى الرغم من أن الفيلم ينتمي للأفلام المنخفضة التكلفة حيث تدور الأحداث في أربعة أماكن فقط، فإنه نجح في تكثيف مختلف أشكال القمع والكذب والاحتيال والقسوة المغلفة بالرقة القاتلة؛ شيء بشع وفظيع من الإهانات النفسية والجسدية والعقلية، إنها عملية إذلال مُمنهجة مشحونة بالجنون.

المدهش في الفيلم أنه يدور حول واحدة من أسوأ الفترات التاريخية في رومانيا أو الأكثر سواداً، وهي الحقبة الشيوعية، وتحديدا نهاية ثمانينيات القرن الماضي. ويتصادف أن عام إنتاج الفيلم يتوازى مع الذكرى الثلاثين للثورة الدموية التي أطاحت بدكتاتورية “نيكولاي تشاوشيسكو”.

وعلى الرغم من أنه قد تغير الكثير في رومانيا منذ ذلك الحين، لكن سرد القصص السينمائية عن نظامه القمعي والعواقب الاجتماعية والاقتصادية التي تلت ذلك ما زالت تهيمن على السينما الرومانية على أيدي مخرجين مهمين، خصوصا “كريستيان مونغيو” أحد رواد السينما الرومانية الجديدة الذي نال السعفة الذهبية عن فيلمه “4  شهور و3 أسابيع ويومان”، ثم أتبعها بأفلام لا تقل أهمية مثل “خلف التلال” و”بكالوريا”.

يكشف فيلم “اعتقال” للمخرج “أندريه كوهن” المستويات المتعددة من القهر والرقابة حتى بين مَنْ يُمارسونها من رجال السلطة

 

كلنا في القهر سواء

هنا، يكشف فيلم “اعتقال” للمخرج “أندريه كوهن” المستويات المتعددة من القهر والرقابة حتى بين مَنْ يُمارسونها من رجال السلطة، والترتيب الهرمي لذلك القهر، إذ نرى أحد أفراد البوليس السري يحاول الحصول على هدية لابنته (ربما تكون قطعة ملابس مستوردة) في عيد ميلادها من خارج الحدود، لكن يبدو أنها هدية من الأشياء التي منعت الدولة شراءها وتداولها، فيخضع الرجل -رغم نفوذه ووظيفته- لابتزاز أحد المهربين الذي يبدو وكأنه يعمل بالمكان الرسمي ذاته، فيدور بينهما الحوار التالي بينما يقفان في ممر أحد المباني يتهامسان:

–  الموظف المهرب: لن أفعل أي شيء من هذه الصفقة.

– رجل الشرطة: أنت قلت 3 أيام فقط، لقد مر عيد ميلاد الطفلة الصغيرة بالفعل، أنا وعدتها وخيبت أملها بسببك.

– أنت تتهمني؟

– أنت تخادعني وتغشني، فكل يوم تقول: قريباً، حالا.

– أنت تصفني بأنني لص؟ اللعنة على أموالك، وعلى هدية ابنتك.

– هكذا؟ فعلا؟! إذن أعد إليَّ أموالي، لم أعد بحاجة للهدية.

– لا أستطيع، فقد دفعت الأموال للرجل بالفعل، ولا أستطيع أن أُسبب الذعر للرجل المسكين.

– آخر ما لدي من كلام: أعد إليَّ أموالي.

فجأة تتبدل نبرة الصوت وتختلف قوته بين الطرفين، وكأنهما قد تبادلا الأدوار، إذ نسمع الموظف المهرِّب يقول بصوت مستضعف بعد أن كانت نبرة صوته مغلفة بالاستقواء: هل هذا جزائي؟ كل ما أفعله أنني أحاول أن أساعدك، لماذا يجب أن يعاني رجلي بسبب أنني وثقت فيك، سأجلب لها هدية ستكون جميلة عليها، وربما أتمكن من إحضار اثنتين، لتعطي واحدة منهما لزوجتك.

هنا نسمع من الخلفية أصوات أبواب تفتح وتغلق بينما تظل الكاميرا ثابتة، فيبدأ الرجلان بالسير في الممر وكأنهما يشعران بالقلق من رؤيتهما سوياً، فيُنهيان المحادثة في طريقهما لنهاية الممر.

تظل المساومة وممارسة الضغوط قائمة من المحقق ليجعل السجين يقوم بمهمة لا نعرف ماهيتها تحديداً

 

تجنيد إجباري في الزنازين

في اللقطة الثانية في الفيلم يتجسد مستوى ثانٍ للقهر وكأنه حلقة جهنمية لا تنتهي، حيث نرى في مكتب التحقيق الرجل الذي شاهدناه بالمشهد السابق يستبدل ملابسه أمام الدولاب، بينما زميل آخر يجلس خلف المكتب وأمامه سجين حليق الرأس إذ يستجوبه قائلاً: أخبرني عن اسم أول شخص منحك اللقب الرمزي لك “الشفاه”.

فيجيبه: لا أعرف، ربما لأنني كنت أنقل تقارير شفاهية.

تظل المساومة وممارسة الضغوط قائمة من المحقق ليجعل السجين يقوم بمهمة لا نعرف ماهيتها تحديداً، لكنها تبدو بشعة ولها علاقة بضرب بعض الناس، غير أن السجين ما زال يرفض ويطلب منه أن يُكلفه بفعل أي شيء آخر عوضاً عن تلك المهمة، فيهدده رجل الشرطة بأنه سيبقى في السجن ثلاث سنوات، فيرد عليه: إنهما اثنتان فقط.

يقول المحقق: نعم سنتان، لكن هل تخبرني مَنْ معه القلم، مَنْ يكتب ويُقرر؟

ثلاثة أرباع الفيلم تدور داخل الزنزانة بين المساومة والضرب

 

سيعود غدا.. الميعاد المكذوب

تنتقل الكاميرا إلى شاطئ نهر بجوار بعض المداخن حيث نرى رجالا ونساء وأطفالا عريانين كانوا يسبحون هناك، ثم يأتي بعض رجال الشرطة ويأخذون رجلا من على الشاطئ حيث كان يستحم مع أُسرته، فنسمع شرطيا يقول للزوجة الخائفة: سيستغرق الأمر فقط 3 أو 4 ساعات إلى بوخارست، ومثلها في طريق العودة إلى هنا.. ابقي أنت مع الأطفال، وسيعود غدا.

وعندما يطلب منهم الزوج أن يحضر إليهم يوم الاثنين يرفضون قائلين: لقد قطعنا كل هذه المسافة لأنهم في القيادة يريدون التحدث إليك.

عندما يصلون إلى المبنى ويبدؤون في صعود السلم الموحش يبدو جليا توتر الزوج وهو يقول: ماذا لو تركتني اليوم وسوف أحضر إليكم غدا.

فيدفعه أحد رجال الأمن بيده بقوة حتى يكاد الزوج أن ينكفئ على وجهه على الدرج وهو يقول له بغضب: اصعد، لا تُضيع وقتنا.

فيسأله الزوج: لماذا تدفعني هكذا؟

فيرد رجل الأمن: لم يدفعك أحد، أنت من لم تنتبه لخطواتك فكدت تسقط على الدرج.

وهكذا يستمر الأسلوب المفزع في الفعل ونفي الفعل حتى يصل السجين إلى الزنزانة، ثم يطفئون النور كأنما صار داخل القبر.

في الصباح يدخل إلى الزنزانة السجين الذي رأيناه سابقاً في مكتب التحقيقات بالمشهد الثاني

 

السجين المُجند.. المعاناة المضاعفة

في الصباح يدخل إلى الزنزانة السجين الذي رأيناه سابقاً في مكتب التحقيقات بالمشهد الثاني، يظهر الرجل هنا وقد أصبح شعر رأسه طويلاً، علامة على مرور الزمن الذي لا نعرف مداه، لكن يبدو أن السجين قد تعلم الدرس، ووافق على أداء مهمة التعذيب ضد البطل المتهم بالتآمر على الحزب.

بين تلك الجدران نعيش معهما قسوة إجراءات الاستجواب التي استُخدمت خلال العهد الشيوعي من قبل الشرطة السرية، فالسجين المتعاون مع الشرطة يبدأ ممارسة ما يُطلق عليه أسلوب “القمع التقييدي في الاستجواب”، حيث يقوم بسلسلة من الضرب المتتابع من دون أدنى رحمة على البطل المتهم، يليها ما يسميه بحزن “لحظات من الراحة والاسترخاء”.

ثلاثة أرباع الفيلم تدور داخل الزنزانة بين المساومة والضرب، ثم طرح العديد من التساؤلات عما كانوا يفعلونه مساء كل جمعة، تُرافق ذلك أسئلة أخرى عن عادات الطعام وعن الكتب وما تملكه العائلة من أشياء ثمينة، يستمر التعذيب ومعه يستمر الاستجواب: لماذا؛ لماذا الهند؟ لماذا يذهب إلى الحدود؟ هل التقى بغرباء أو أصدقاء هناك؟ هل يسمع إذاعات أجنبية؟ مَنْ يعلم بتلك الصفقة هناك أنا أم أنت؟ والسؤال الأخير يُحيل إلى المشهد الثاني في بداية الفيلم، بالتأكيد.

المخرج أندريه كوهن

 

الاعتراف بالمسؤولية.. مصدر الإلهام

الجدير بالذكر أن فيلم “اعتقال” هو التجربة الروائية الطويلة الثانية للمخرج بعد فيلمه “العودة للمنزل”، والذي يدور عن نهاية مفهوم العائلة، كما أن المخرج له تجربة أخرى عن حقبة الثمانينيات بمشاكلها القمعية بعنوان “قبل وبعد”.

وعندما يتحدث بحواراته عن فيلمه الأحدث ومبرر العمل عليه -خصوصاً أنه هو من كتب له السيناريو- يُفسر ذلك بأنه كان يُحاول أن يفهم سبب بقاء تلك الفترة معه وانشغال ذهنه بها طويلا، ثم أدرك أنه في عام 1989 كان مراهقا متمردا، كان يستمع إلى موسيقى الروك، لكنه في الوقت نفسه تقبل جميع الإساءات من النظام الشيوعي القائم، من دون أي رد فعل منه.

لم يكن وحده، بل معظمهم فعل الشيء نفسه على حد وصفه، لذلك قرر أن يتخلص من هذا الشعور بالإفصاح عنه، معترفاً بأنه أدرك أنه كان مسؤولا عن ذلك الوضع أو شريكاً في المسؤولية مع مثل هؤلاء الأوغاد. كانت تلك السنوات عند مفترق طرق حيث المواجهة بين الخوف والدكتاتورية، لكن من المهم أن يعترف الجميع بالدور الذي قام به، ومسؤوليتهم في تلك الحقبة.