“اغتيال المدينة”.. الخسارة التي لم نشعر بها

سعيد أبو معلا / رام الله

بعض الأفلام لا تمحى من الذاكرة وتبقى حاضرة في الذهن والوجودان وهو ما يحرض على الكتابة عنها ولو بعد حين.. ربما يعد فعل الكتابة إفراغ لثقل ما سببه الفيلم على كل تفاصيل جسم مشاهديه، فتكون الكتابة عنه محاولة للتخلص من هذا الثقل أو نقله للقراء على أحسن تقدير.
أحد هذه الأفلام الشريط الوثائقي “اغتيال المدينة” وهو من انتاج قناة الجزيرة الفضائية لعام 2011، فهو فيلم  يآسر مشاهده بحق، يحبس أنفاسه ويحاصره وكأنه أصبح قدره لما فيه من قدرة كامنه تفرض “تغوله” الايجابي على المشاهد، وجعله قضيته التي تتسيده.”اغتيال المدينة” الذي جاء ضمن سلسلة “فلسطين تحت المجهر” يخالف عشرات الأفلام لا بل المئات منها التي أرخت لنكبة فلسطين عام 1948، فهو لا يغرق في بكائيات تقليدية ومشاهد التهجير والرحيل وويلاتهما بل يعود بنا للوراء قليلا وتحديدا لما كانت عليه فلسطين قبل عام 1948 وتحديدا هنا يؤرخ لمدينتي يافا وحيفا ليحكي لنا بطريقة دافئة وحميمية وصادقة عن الشيء الذي خسرناه، فنحن لم نخسر وطننا فقط بل فقدنا حياة مدنية كاملة.

 

الغياب عن عصر النكبة

غير أن السؤال الذي يدق في الرأس يتمثل في: لماذا يحاول المخرج المبدع “رامز قزموز” أن يقول ذلك، وفي هذه اللحظة بالذات إذا؟
الإجابة تأت في مطلع الفيلم، وتكتمل مع أخر مشاهده، فعلى لسان أحد ضيوف العمل وفي دقائق الشريط الأولى نسمع: “ولدنا وعشنا في فضاء محدود.. لم نستشعر الخسارة.. ومن لم يعش فلسطين قبل 1948  فقد عاش وولد في فضاء محدود وسقف منخفض.. وبالتالي لم يستشعر عظم الخسارة”.
يأت ذلك إذا ما علمنا أن غالبية من يعيشون في فلسطين المحتلة عام 1948 ولدوا بعد النكبة وبالتالي لم يعرفوا ولم يعيشوا مدنية مدنهم الفلسطينية قبل النكبة. من هنا تحديد يحضر الفيلم بقوة ليخبر الأجيال الجديدة حكاية المدينة الفلسطينية التي كانت في أعلى مستويات الرقي والنهضة، وكان يسكن فيها أكثر من 30% من نسبة سكان فلسطين (وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع دول أخرى)، لولا خطط المشروع الصهيوني التي توجهت جميعها للقضاء على المدينة والمدنية الفلسطينية.
العمل المميز والمحبوك والواعي والذي بذل في انجازه الجهد الكبير جاء ليشعرنا بعظم الخسارة لعلها تكون الدافع لفعل تعويضها ما أمكن، وحتى لو لم يتحقق ذلك قريبا فإن معرفة وإدراك تلك الخسارة الواعية يعد أمرا جوهريا في حرب الوعي على الفلسطيني أينما تواجد وارتحل.

ميناء يافا قبل النكبة

 

الصورة كوثيقة تاريخية

كلنا نعرف ما حل بفلسطين بعد النكبة غير أن غالبيتنا لا نعلم ما هي صورة فلسطين قبلها؛ الفيلم يجتهد في تقديم صورة شبه متكاملة لمدن مثل يافا وحيفا قبل النكبة حيث الازدهار والمدنية والنماء والتطور والتمدن.
والفيلم في سبيل تحقيق ذلك لا يركن لخطاب عاطفي إنشائي منبري بل يجلب الوثيقة التاريخية (صورة/ بوستر/ جريدة/ إعلان تجاري/ أماكن صناعات) ويقاربها بحديث الخبراء والمختصين من ضيوف قدموا لذلك الموضوع الفكري الجوهري، ومعا وبشكل متواز تلعب تلك الوثائق دورها في إبراز حقيقة أن فلسطين كانت تعج بالحياة المدنية، فيافا كانت تنافس بيروت والقاهرة، ولو لم تحصل النكبة لكانت من أهم مدن الشرق الأوسط على أقل تقدير.

ويمكن القول هنا أن الفيلم لا يفند الأطروحة الصهيونية التي تقول أن “فلسطين أرض بلا شعب” بل يتجاوز ذلك إلى بناء أطروحتنا/ روايتنا الفلسطينية الخاصة عن خسارتنا الجسيمة وذلك عبر الوثيقة التاريخية. فأكثر ما يدلل على وجود شعب هو المدينة الفلسطينية التي قضي عليها لتكريس الدعاوي الصهيونية.
وهو لأجل ذلك نراه يعود وعبر جهود بحثية قام بها الباحث “نبيل عويضة” إلى مجموعة كبيرة من الأماكن لجلب الوثيقة من بئر الماضي والغبار، فقد اعتمد الفيلم على كل من: أرشيف الجيش الإسرائيلي، أرشيف مكتبة السلام – جبعات حبيبه، أرشيف مكتبة الكونجرس، وأرشيف جامعة القدس إضافة إلى أرشيف شركة الأرز للانتاج، الشركة المنتجة للعمل لصالح قناة الجزيرة.
هذا الجهد البحثي يفسر لنا تلك الصور والمشاهد الغنية وثيقة الصلة بموضوع الفيلم والتي لو لم تكن موجود لما كان هناك فيلم أصلا، فأغلب بنى الفيلم يقوم على مادة أرشيفية طازجة وقوية وبعضها أحسب أنها تعرض لأول مرة وهو ما يفجر فينا الدهشة والألم معا ويشعرنا بعظم حجم الخسارة التي لم نشعر بها.

برج الساعة وسط يافا

 

معالم يافا وحيفا

في الجزء الأول من الشريط يطلعنا وعبر العودة لمجموعة من الشخصيات التاريخية عن يافا وحيفا قبل عام 48 حيث يعود إلى عام 1865 ليخبرنا عن حال مدينة يافا عبر استرجاع شريط الذاكرة الحديدية للرجل الثمانيني اسماعيل شحادة (مواليد يافا عام 1926)، كما يتوقف عند تجارب عائلات عاشت في حيفا وتحديدا عائلة “سعاد قرمان”.
تلك العائلة الرأسمالية تخبرنا “سعاد” الأديبة والكاتبة عن تجربة والدها التاجر وعمها السياسي الذين أسسا لحياة صناعية وتجارية تخطت الحدود ورسمت معالم مدينة تم تقيضها لتعيش مدن إسرائيلية هجينة وجديدة.
كما يخبرنا الضيوف المنتقين بعناية بمعلومات تدعمها الوثيقة التاريخية وتحديدا الصورة بمعلومات وحقائق تكشف لنا عمق ما جهلنا وضخامة ما تم تدميرة فالمواطن العربي كان يأت ليافا أو حيفا يسهر فيها وينام وفي الصباح الباكر وخلال ساعتين يكون في بيروت وهو الأمر الذي يضعنا في طبيعة الحياة المدنية المفتوحة على العالم العربي وهو ما يتعمق مع وجود المسارح والسينمات ودور النشر والأحزاب السياسية وحفلات الغناء والمسابح والنقابات والمطبوعات والحياة الثقافية.
“سعاد قرمان” تحدثنا عن “ابطن” التي جلبت لها الكهرباء وحفرت فيها الابار الارتوازية وكانت تضم مزارع الابقار الهولندية التي كانت تحلب بالالات الحديثة ويصنع حليبها وتنتج فيها الحلاوة وتصدر للخارج.
أما شركات قرمان فكانت كثيرة مثل: شركات الدخان، ومصانع للقهوة، ومعامل الثلج، ومصانع الملح والحلاوة والزجاج، وشركات السفريات ومصانع الباصات.
أما “يافا” وتصدير برتقال فنالت نصيبا وافرا في شريط “قزموز” ونتفاجأ عندما نعلم أن الشوارع الخاصة شقت لتسير عليها شاحنات النقل التي كانت تنقل البرتقال من المزارع الى الميناء، وفي عام 39 خرجت من ميناء يافا 45 سفينة حمضيات، كما أنها صدرت عام 1947 أكثر من مليون ونصف صندوق برتقال. كما أنها شغلت عمالة عربية من سوريا ومصر والمغرب العربي.

المخرج ولقطة من العمل اثناء التنفيذ

 

وراحت المدينة

بعد النكبة حدث الزلازل الذي ضرب المدينة الفلسطينية (يافا – حيفا) وغيرهما من المدن، الفيلم يضعنا في تحولات الحياة في تلك المدن العامرة بكل شيء ويمكننا تخيل ذلك بتخيل مدينة كان يسكنها 90 ألف قبل النكبة أصبح يسكنها ألفان بعدها.
فبعد النكبة نفذت مخططات تغييب المدينة الفلسطينية لكونها تشكل الخطر على المشروع الصهيوني كله، ويبدو جليا أن غياب المدينة في 48 كان يعني غياب للقلب الجامع وهو ما قاد إلى تشكل بؤر صغيرة يسكن فيها الناس على شكل جيتوهات عربية في مناطق مثل: وادي النسناس في حيفا، والعجمي في يافا.

فاختفي المركز الذي يشع، واختفت الطبقة الوسطى والنخب القادرة على انتاج الأحلام. وبعبارة أخرى “راحت المدينة”..نشعر بذلك من حسرة الضيوف/ الشهود الذي يعيشون في مكان أصبحوا غرباء عنه فيافا تحولت “لمزبلة” كي تنمو “تل أبيب” في أكبر عملية سطو في التاريخ.
ومع ذلك لا يغرقنا الفيلم في بركة من اليأس والحسرة بل يتأمل إمكانية تشكل مدينة جديدة في حيفا التي يبلغ عدد سكانها 40 الف نسمة. وهو هنا أمل مركب مصدرة نمو مظاهرة مدنية في مدن جديدة في فلسطين 1948  وان كانت مشوهة وغير مكتملة، وأمل من ضرورة العمل على استعادة تلك المدنية.
حكاية الفيلم التي قدمت بتمكن فني واقتدار كانت شبه متكاملة، فالبحث الوثائقي كان له قصب السبق في هذا النجاح، إنه بحث جاد سمح لنا رؤية فيلم وثائقي يستحق المشاهدة مرارا من دون أن يغفل المخرج عن مسألة تشويق المشاهد عبر مونتاج وقطع متوازن في سرد القصص داخل بنية شريطه.
أما الموسيقى التصويرية للمؤلف كارم مطر فتستحق إشادة، إنها موسيقى جديدة، لا تناسب المضمون والموقع الذي تسقط عليه بل ترسل رسالتها الخاصة المضافة إلى رسالة الفيلم.
أخيرا أرى أن رسائل هذا الفيلم تتجاوز الفلسطيني في فلسطين التاريخية إنه فيلم يستحق أن يشاهده كل من تعاطف مع فلسطين وقضيتها العادلة من منطلق الظلم والحرب والتدمير الذي تعرضت له وما زلت.. من منطلق مشاهد الأشلاء والدم والدموع، إنه فيلم يجعل من التعاطف معنا تعاطفا قائما على الحب.. حب المدينة التي كانت لدينا ذات خسارة تستحق ان نموت من أجل حلم استعادتها. و”اغتيال المدينة” والمدعمة بـ الــ التعريف في كلمة “المدينة” يفعل لبنة أولى في سبيل ذلك.. ألا وهي تقريب الفلسطيني من تاريخه الجميل.. والجميل جدا.