“الجدار” حرب أمريكا العبثية في العراق

أمير العمري

يعتمد الفيلم على ممثلين اثنين فواحد

الفيلم الأميركي الجديد “الجدار” The Wall للمخرج دوغ ليمان، هو عمل أقرب إلى التجريبية أو ما يعرف بـ”المنياتير” في الفن. فهو يقوم على ممثلين اثنين فقط، سرعان ما يختفي أولهما، ليبقى الممثل الثاني وحيدا منفردا، وكأننا أمام مونودراما من فصل واحد ممتد على مدار 90 دقيقة. المسرح هو صحراء العراق 2007 بعدما أعلن الرئيس جورج بوش الابن- كما تقول لنا الكلمات التي تظهر على الشاشة- نهاية الحرب في العراق.

الحرب رغم إعلان بوش يبدو أنها تستمر على صعيد آخر، أقل حدة ولكن أشد وطأة على نفسية اثنين من الجنود الأمريكيين الذين طلب منهم تفقد منطقة بالقرب من محطة وخطوط أنابيب للمياه، قُتل جميع الأفراد الذين كانوا يقومون بالعمل فيها، أو بالأحرى، تم اصطيادهم بواسطة قناص خفي، واحدا بعد الآخر، وتناثرت جثثهم في أرجاء المكان.

وراء جدار هزيل عبارة عن صفوف متراصة من الطوب فوق بعضها البعض يمكن أن تنهار في أي لحظة، يراقب الجندي “ماتيو”، ويفحص كل أرجاء المكان. وبعد أن يطمئن من خلو الموقع من أي عنصر بشري على قيد الحياة، يقرر الخروج من وراء الجدار لفحص الشاحنة القريبة المهجورة، ومعرفة كيف قتل الرجال السبعة، وكيف أصابتهم الرصاصات، ثم يخاطب زميله القابع وراء الجدار “أيزاك”- عبر جهاز اللاسلكي- يطلعه على الوضع، وفجأة تنطلق رصاصات تصيبه مباشرة فيسقط مضرجا في دمائه على الأرض، ويزحف زميله لإنقاذه وانتشال جهاز اللاسلكي الموجود في حوزته، لكنه يصاب بدوره برصاصة في ركبته فيتحامل على نفسه وينجح في العودة والاحتماء خلف الجدار.

بقى الممثل الثاني وحيدا منفردا، وكأننا أمام مونودراما من فصل واحد ممتد على مدار 90 دقيقة

جهاز الإرسال أصيب وأصبح بالتالي معطوبا بعد أن تعرض للإصابة برصاصة القناص الذي يختبئ في مكان مجهول. وعندما يستخدم أيزاك هاتفه المحمول في التخاطب مع قيادته لطلب النجدة يجيبه صوت سرعان ما يكتشف أنه صوت مشوب بلكنة عراقية. المتحدث على الطرف الثاني يعترف له بأنه عراقي ويحذره وينذره بأنه لن يغادر هذا المكان حيا. ماذا يريد هذا الشخص الغامض من أيزاك الذي بدأ يشعر بالإعياء الشديد جراء إصابته، ووجوده وحيدا معزولا تحت حرارة الشمس وبعد نفاد زجاجة الماء التي كانت معه. إنه يريد فقط التحادث مع أيزاك.. يريد أن يعرف من هو وما البلد الذي ينتمي إليه في أميركا، وهل حصل على قسط من التعليم أم لا، وهل لديه عائلة، ولماذا جاء إلى هذا المكان. في البداية يستنكر أيزاك ويرفض الإدلاء بأي معلومات عن نفسه إلى “العدو”ـ لكنه يجد نفسه تدريجيا، متورطا في هذه “اللعبة” التي تعتمد على مدى التحكم في الأعصاب كلعبة “الشطرنج”، ثم يحاول تحديد موقع الطرف الآخر من خلال الاستمرار في المحادثة العبثية. هناك كومة ضخمة من القمامة على التل القريب بجوار محطة المياه، يستنتج أيزاك أن القناص العراقي لابد أن يكون مختبئا في داخلها.

يعتمد الفيلم على خلق التوتر ليس من خلال القتال كما في الأفلام الحربية المعتادة من هذا النوع، بل من خلال لعبة الشد والجذب، كيف يتلاعب العراقي بصوته فقط بالأميركي، فهو لا يظهر بصورته أبدا، مذكرا إياه بأنه الغريب الذي جاء إلى بلد آخر لكي يقتل ويدمر، بينما يتذرع أيزاك بأن من قتلهم العراقي كانوا يريدون تزويد بلاده بالمياه والكهرباء وبالتالي إعادة الحياة إليها. لقد كانوا “مقاولين” لا شأن لهم بالقتال. في لحظة ما يتصور أيزاك أن بإمكانه أن يزحف لمساعدة زميله الجريح الذي لمح جسده يتحرك، لكنه يضطر للعودة خلف الجدار بعد أن ينهمر الرصاص عليه مجددا وعلى زميله. هذه المرة يفقد زميله “ماتيو” حياته. وتزداد حدة الشعور بالهلع لدى أيزاك، ويصبح مطلوبا أن يصمد في الحديث ويضلل محادثه إلى أن ينجح في اصطياده. لقد تمكن من جذب بندقية زميله القتيل وأصبح يتسلح بها. ولكن هل يمكن لفرد غريب عن هذه الصحراء الشاسعة المخيفة، لا يعرف شيئا عن طبيعة المكان ولا يبدو أنه يعرف شيئا عن الطرف الآخر الذي يقاتله، أن يتفوق وينتصر؟

أداء الممثل آرون تايلور جونسون في دور أيزاك، الذي يحمل الفيلم على كتفه كان مميزا

الفيلم أشبه ما يكون بمباراة تعتمد على العقل وحده وعلى القدرة على الصمود أمام التحدي. ورغم تكثيف الصور إلا أن الحوار كثير ومستمر.. الطرف العراقي يبدو في حالة مزاجية تسمح له بالسخرية والاستهزاء والتهكم من خصمه، بل وجره للحديث عما يعرف. إنه يحدثه عن إدغار آلان بو ورواياته، بينما لا يفتأ أيزاك يكرر الإشارة إلى شكسبير، ويسخر من فكرة أن يكون شكسبير أيضا عراقيا. وربما يعرف كاتب السيناريو دوين ووريل (في أول سيناريو يكتبه للسينما) شيئا عما زعمه القذافي ذات مرة من أن شكسبير أصله عربي، واسمه الأصلي الشيخ زبير!

المخرج “دوغ ليمان” بارع دون شك في استخدام تفاصيل المكان الذي أعاد مصمم المناظر جيف مان توزيع كل ما يجعله واقعيا (في بقعة محدودة من صحراء كاليفورنيا) كما يركز في لقطات قريبة على وجه أيزاك، ركبته الجريحة، زجاجة الماء الفارغة التي يلقيها في غضب، هبوب عاصفة خفيفة في الصحراء، ارتفاع درجة الحرارة والشمس في منتصف السماء. أما العنصر الأهم في الفيلم فهو أداء الممثل آرون تايلور جونسون في دور أيزاك، الذي يحمل الفيلم على كتفه، فهو الوحيد الذي نراه في الصورة طوال الوقت، يتحرك، ينفعل، يهدأ قليلا ثم تخور قواه فيسترخي ويتمدد على الأرض، يحاول الاحتماء من حرارة الشمس، يصنع فتحة في الجدار لكي يراقب الجانب الآخر لعله يكتشف مكان ذلك القناص الواثق من نفسه. يرتفع صوته وينخفض طبقا لاختلاف حالته النفسية، من الغضب إلى الرعب، ثم محاولة تشغيل جهاز اللاسلكي ومخاطبة القيادة، وفي الوقت نفسه، إشغال خصمه بالحديث بل والتحول لكي يسأله هو عن نفسه، كما لو كان هذا الأمر يهمه أصلا.

ورغم مفاجأة النهاية التي قد لا يتوقعها المشاهد في فيلم أميركي، يظل الفيلم عملا محدود القيمة، رغم وضوح رسالته في إدانة الحرب الأميركية ما دفع الكثير من النقاد إلى اعتباره الرد السينمائي الأميركي على فيلم كلينت إيستوود “قناص أميركي”.