“الحد”.. الاغتراب والهوية المفقودة في عالم غير عالمنا

خالد عبد العزيز 

 

تينا (إيفا مليندر) التي تعمل ضابطا في جمارك إحدى الموانئ البحرية وفوري (إيرو ملينوف) الذي تصادف أنه يشبهها في شكله، نشأت بينهما صداقة ستُبدل مصير تينا

 

كانت تدرك لحظة أن رأت “فوري” أنه يخفي شيئاً ما، وفي هذه اللحظة كانت أيضا تعرف ما هو.. فلم يكن سوى طفلهما، هذه كانت نهاية قصة “الحد” التي قدمها الكاتب السويدي “جان آجويد ليندكفيست” عام 2005 في مجموعته القصصية “دع الأحلام القديمة تموت”، ليلتقطها المخرج الدانماركي من أصل إيراني “علي عباسي” ويُقرر تحوليها للسينما مُستلهماً عوالمها الغرائبية العابرة للحد الفاصل بين الواقعي والمتخيّل وشخصياتها التي تبدو لا تنتمي لعالمنا في التعبير عن رؤيته للعالم.

فقصة فيلم “الحد” (2018) تدور حول تينا (إيفا مليندر) التي تعمل ضابطا في جمارك إحدى الموانئ البحرية، تتسم ببنية جسمانية عجيبة وشكل قبيح مُنفر، كما أن لديها قدرة خارقة على التقاط الخارجين عن القانون أو المُذنبين بصفة عامة عبر حاسة الشم. تلتقي تينا بفوري (إيرو ملينوف) الذي تصادف أنه يشبهها في هيئته أو شكله، لتنشأ بينهما صداقة، تُبدل مصير تينا.

 وبذلك تتضح الفكرة الرئيسية للفيلم والتي تدور حول رؤية الإنسان للآخر المُختلف عنه، لينطلق لأرضية أرحب، وهي قضية الاختلاف والتواصل الإنساني بشكل أعمق، فهذا العالم يحوي العادي وغير المألوف الذي لا نُدرك عنه شيئاً، وإن أطللنا برؤسنا عليه هل سنتقبل وجوده، أم ستتوقف قدرتنا عند حدود مُعينة قد لا نستطيع عبورها؟ هذه بعض من الأفكار التي حاول السيناريو -الذي كتبه علي عباسي بالاشتراك مع إيزابيلا آكلوف وكاتب القصة جان آجويد ليندكفيست– تقديمها في قالب غرائبي يتسم بالمخيلة اللامحدودة، ولا يخلو من الإثارة.

على حافة الوجود

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “تينا” وهي تقف أمام إحدى السفن الراسية أمام الشاطئ، ثم تنحني على الأرض وتلتقط بأصابعها إحدى الحشرات تتأملها بحنوّ، فقد اختار السيناريو أن تكون بدايته من محل عمل تينا وهو جمارك الميناء البحري، أي على الحدود، لتُصبح البداية ليست فقط مدخلا للفيلم، لكنها أيضاً بداية ومُفتتح للعديد من الرموز التي حفل بها الفيلم وتَقبل التأويل.

ومثل موقع عمل تينا جاء مكان إقامتها هو الآخر على الهامش، فالمنزل الذي يقع في إحدى الضواحي البعيدة بجوار النهر وفي حضن الغابة، لا يبدو هو الآخر صدفة بأي حال. تينا تقبع على حافة العالم، بعيداً عن المركز، في إشارة إلى التهميش، فابتعادها رغم أنه قد يبدو قسرياً فإنه يحوي في طياته رغبة داخلية منها في العزلة، فالمنزل مؤثث بأقل الإمكانيات، وبالكاد يكفي للعيش.

بتأمل شخصية “تينا” سنجد أننا أمام شخصية مُركبة ومُثيرة للتأمل، فقد رسم السيناريو الشخصية على أنها تُعاني من التهميش بسبب هيئتها الغريبة، إذ إن بنيانها الجسماني المُحيّر لا ينتمي إلى الأنثى، وفي الوقت نفسه بعيد كل البعد عن الرجولة، بالإضافة إلى ملامحها التي تحوي من الغِلظة والتشوه أكثر مما تحوي من البراءة.

 على الرغم من أن نفس تينا مُمتلئة خيرا، فإن علاقتها مع الطبيعة استثنائية، تتوحد معها ولا تتآلف مع سواها، تنتمي إليها وتشعر معها بالأمان، ففي أحد المشاهد نراها وهي تترك صديقها رولاند يُشاهد إحدى برامج المسابقات على التلفاز وتتجه للخارج، تقف في الهواء لا تدري لماذا، يبدو أن هاتفاً ما ألح عليها بالخروج، لتتفاجأ بوقوف ظَبي هائل الحجم بجوارها دون أن يُبادر إلى الهرب، ليقف مُستكينا هادئا فتُداعبه تينا بحنو، كما أن لديها الميزة الأهم وهي حاسة الشم، لتُصبح أشبه بالكلب، فمن خلالها تتمكن من الإيقاع بالمُذنبين سواء ارتكبوا جرائم أو على وشك أن يفعلوا، وكأنها تُدرك ما يَعتمل في نفوسهم.

لا نَعرف الكثير عن حياة تينا وماضيها، فقد لجأ السيناريو لحيلة التقطير في إلقاء المعلومات، لا يُلقي بها عن حياة الشخصية دفعة واحدة، بل يُقدمها للمُتفرج على مهل، مما يضمن ولاءه حتى النهاية.

ينهض السيناريو ويدور حول تينا، حَوْلها يدور الخيط الرئيسي للسرد والخيوط الفرعية، كلها تنطلق من محور واحد وهو تينا، فنراها تقوم بزيارات مُتباعدة لوالدها في دار المُسنين، يتبادلان الحديث المُقتضب عن حياتها التي تَبدو مُغلّفة بستار مُحكم من السرية، ينزاح شيئاً فشيئاً مع توالي المشاهد وتدفق السرد.

بتأمل شخصية “تينا” سنجد أننا أمام شخصية مُركبة ومُثيرة للتأمل، فقد رسم السيناريو الشخصية على أنها تُعاني من التهميش بسبب هيئتها الغريبة

عالم غرائبي

يمر فوري بجوار تينا أثناء عبوره نقطة التفتيش التي تتولى حراستها، لتلتقط حاسة الشم لديها أن بحوزته شيئاً ما يُخفيه، كما أن هيئتهما مُتشابهة، نفس الملامح تقريباً، يقف أمامها غير مُبالٍ، تُفتش حقيبته وتعثر على بعض اليرقات، لتشعر بالارتباك المشوب بالإثارة.

سيتكرر هذا اللقاء لتتوطد علاقتهما، فكلاهما ينتمي لنفس الجنس، تشعر تينا بالاندماج معه، وأن بينهما شيئاً ما يربطهما غير التشابه الشكلي، لتُصبح علاقتها به كحجر ألُقي في مياه راكدة يدفع الأحداث للأمام حتى تصل للذروة. تتأثر تينا به، مما يجعلها تسأل نفسها عن هويتها وماضيها، من هي؟ ولماذا ولدت بهذه الملامح الهجينة بين الإنسان والحيوان وكأنها كائن خرافي خارج لتوه من حواديت ألف ليلة وليلة؟ فقد خَلق السيناريو عالمين، عالَما عاديا طبيعيا يحوي الإنسان الذي تسير حياته بمنوال طبيعي، وعالما آخر مجهولا لا نعرف عنه شيئاً، يحوي من الغرائب ما لا نتوقع وجوده على الإطلاق.

ومن هنا خلق السيناريو نقطة مركزية ينطلق منها الصراع، فالصراع مُتدرج ينشأ تدريجياً من تسلسل الدراما وتدفقها. فبعد استئجار فوري لإحدى غرف منزل تينا، تُصبح علاقتها بصديقها رولاند على المحك، تبتعد عنه تلقائياً، تقترب أكثر وأكثر من فوري وفي نفس الوقت تسعى لفهم ذاتها، تُدرك أن وجودها في العالم الإنساني خطأ غير مقصود، فهي أفضل وأقوى من الإنسان، في مرتبة أعلى، لتتضح معالم الصراع أكثر وأكثر ويصبح جلياً، عالم عجائبي على الحافة في مواجهة عالم طبيعي مُستأنس تماماً.

ففي إحدى المشاهد نرى تينا وفوري وهما يتناولان عشاءهما برفقة رولاند الذي يجلس في المنتصف بينهما، يُحيطان به ويُسيطران عليه، وكأنهما يُرسلان له إشارة بأن جنسهما هو الأقوى، كما يُخبر فوري تينا بأن سلالتهما أفضل من الإنسان وأقوى منه، فالإنسان وفق رؤية فوري كائن شرير أباد سلالتهما، لذا فوري وتينا هما الأحق والأجدر بأن يرثا قيادة هذا العالم بديلاً عن الإنسان.

ففي مشهد من أعذب وأشرس المشاهد في آن، تكتشف تينا هويتها الجنسية، ليركضا بعد ذلك في سعادة بين أشجار الغابات، وكأنهما آدم وحواء سقطا من الجنة لتتلقفهما الأرض في حنو.

يُخبر فوري تينا بأن سلالتهما أفضل من الإنسان وأقوى منه، فالإنسان وفق رؤية فوري كائن شرير أباد سلالتهما

رموز ودلالات

يعرض فوري على تينا أن ترافقه إلى فنلندا حيث يتواجد مجموعة من سلالتهما النادرة ويأمل في الوصول إليهم، فهي تَشعر بالإغتراب مثله، فهذا العالم لا يُلائمهما ولا ينتميان إليه، عالمهما هناك في الأعلى. وقد اختار السرد أن تقع سلالتهما في فنلندا التي تقع في شمال الكرة الأرضية، ليصبح المكان إشارة لتفوق سلالتهما على الإنسان الذي يقع في درجة أدنى، هكذا يُشير فوري لتينا، لتتحول الشخصية إلى النقيض، تلفظ صداقة رولاند وتطرده من منزلها، لتبدأ حياة جديدة لكنها لن تخلو من متاعب.

تَعثر تينا على طفل داخل ثلاجة فوري ينتمي لنفس سلالتهما، لينكشف الجانب الآخر لشخصية فوري وخطته لينتقم من الإنسان. فوري الذي يحوي نصف ذكر ونصف أنثى يلد أطفالاً يشبهونه كالشخصيات الأسطورية، وكأنه نابع من إحدى الميثولوجيات القديمة، لتصبح هؤلاء الأطفال رمزاً للتطور وتحوي أيضاً سخرية كامنة من الإنسان.

تينا هي المُعادل الذكوري للعلاقة، أما فوري فهو الذي يضع الأطفال ولديه عضو أنثوي على عكس المرأة الطبيعية، ففي المشهد الأخير من الفيلم نرى تينا وهو تفتح طرداً مُرسلاً من فوري يحوي طفلاً من سلالتهما، لُيخبرها بوصوله لأرض الميعاد، وكأن هذا الطفل هو يسوعها المبعوث إليها.

إيفا مليندر في شخصية تينا قدمت أداء جادا رصينا لا يشوبه أدنى افتعال، تَلبست تماماً روح الشخصية، وجَعلت المتفرج يتماس ويتوحد مع أدائها الذي شَكل مع إيرو ملينوف توليفة مُشبعة من التمثيل الصادق.

يقول مخرج الفيلم علي عباسي “يسألني الناس إن كان للفيلم علاقة بخلفيتي وبكوني غريباً، لكنني ولسبب ما كان لدي دائماً شغف بالشخصيات التي على هامش المجتمع لدرجة أنهم على وشك السقوط من حافة الحضارة”، فقد نجح عباسي في تقديم فيلم مُتميز فنياً يَمزج الرومانسية بالإثارة، لكنه مع ذلك لا يخلو من طَرق دروب غير مأهولة من التسأولات عن الإنسان ورؤيته تجاه الآخر.