السينما النفسية.. هكذا يرسم المخرجون أعماق النفس البشرية للجمهور

بلال المازني

في العام 2016 نشرت دورية “علم النفس” (Psychological Science) الأمريكية دراسة بُنيت على سؤال: لماذا يقود الفضول الأشخاص إلى اكتشاف صور أو مشاهد أو اختبار أحاسيس قد تؤلمهم؟

استخلصت تلك الدراسة أن الحاجة إلى الاكتشاف تكون مُلحّة لدى الإنسان، حيث يسعى إلى إطفاء تلك الرغبة، حتى لو قاده ذلك إلى تجربة مؤلمة. تلك إذن هي الحاجة التي تقود الأشخاص إلى فضول حد الهوس باكتشاف حكايات مؤلمة مدفونة في ملفات عيادات الأطباء النفسيين، أو في رفوف مستشفيات الأمراض العقلية، وهي الحاجة ذاتها التي تجعل المشاهد متسمرا بلذة كبيرة أمام شاشة تعرض فيلما يروي قصة مجنون، أو مريض نفسي، أو مضطرب مهووس.

لقد فتحت السينما أبواب العيادات النفسية على مصراعيها، وتصفحت ملفات المجانين المدفونة في غرف مخفية في غياهب مستشفيات الأمراض النفسية، حيث صوّرت السينما عالم المجانين بعبقرية، وصنعت متناقضات غريبة بين الفن والجريمة، والجمال والقبح، واللذة والألم، والظاهر والباطن.

فما الذي جعل صُنّاع الأفلام ينجذبون للقصص النفسية؟ وكيف قدمت السينما تلك القصص للجمهور؟ وهل اختبأت قصص المخرجين وراء قصص أبطالهم؟

 

“أفضل الأفلام أبطالها يعانون من مرض نفسي”

يقول الفيلسوف البريطاني “ديفيد هيوم” في مقالة “عن التراجيديا” نشرت ضمن أربع مقالات بعنوان “أطروحات أربعة”: يبدو أنه لا يمكن تفسير المتعة حين يستقبل جمهور من خلال مأساة كتبت ببراعة الألم والهلع والقلق، ومجموعة من الأحاسيس الأخرى التي هي في حد ذاتها سيئة وغير مريحة.

يبدو هنا أن مخرجي الأفلام واعون بشكل أو بآخر بأن شغف الجمهور باختبار تجربة ألم أو رعب يجب أن تعزز بفن جديد نشأ وترعرع في خمسينيات القرن الماضي، وهو ما اصطلح عليه بالسينما النفسية.

يذكر الطبيب المتخصص في علم النفس السريري ” أوتو وال” في كتابه “جنون وسائل الإعلام.. الصور العامة للمرض النفسي” أنه عُرض أكثر من 400 فيلم روائي صُنّفت صراحة بأنها أفلام عن الأمراض النفسية وقدمت للجمهور، حتى أن قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما تضمنت أفلاما أبطالها يعانون من مرض نفسي.

وبالبحث في قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما، نجد الأفلام النفسية تتربع على الحيزالأكبر، مثل فيلم “مريض نفسي” (Psycho) للمخرج “ألفريد هيتشكوك”، وفيلم “أحدهم طار فوق عش المجانين” (One Flew Over the Cuckoo’s Nest) للمخرج التشيكي “ميلوس فورمان”، وفيلم “صمت الخرفان” (The Silence of the Lambs) لـ”جوناثان ديم”.

 

جذب الجمهور.. دراسات نفسية طي الكتمان

لا يمكن أن يتنبأ المخرج أو المنتج السينمائي بما ستحصده أفلامه، وما ستجود به شبابيك التذاكر، غير أنه من الواضح جدا أن منتجي الأفلام كانوا واعين بميول الجمهور، وعلى علم بدواخل نفوسهم وما يغري فضولهم.

يقول المتخصص في علم النفس “سكيب داين يونغ” في كتابه “علم النفس في الأفلام” إن أحكاما مختلفة في صناعة الأفلام تجذب الجمهور، وهي أحكام لا يمكن التنبؤ بها، لذلك يلجأ منتجو الأفلام في هوليود إلى تمويل دراسات لمعرفة اتجاه بوصلة الجمهور، وذلك من خلال فتح نقاشات من أجل تطوير الأفلام التي ينتجونها، بيد أن بعض تلك الأبحاث يظل أغلبها محفوظا طي الكتمان بهدف الحصول على أفضلية في المنافسة.

وبالاعتماد على تقييم الجمهور في موقع “آي أم دي بي” (IMDb) الشهير، فقد لاحظ “يونغ” أن أغلب أفلام الحركة الخفيفة والأفلام الكوميدية أو الرومنسية إضافة إلى الأفلام الموسيقية؛ لا تحظى بإعجاب جزء كبير من الجمهور، في حين احتوت قائمة أفلامهم المفضلة على أفلام رعب وأفلام جريمة ودراما عنيفة، ونجد في تلك القائمة فيلم “مريض نفسي” (Psycho) وفيلم “سائق سيارة الأجرة” (Taxi Driver)، وهي أفلام ذات محتوى نفسي.

ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك بالقول إن القائمة التي تنضوي تحت تصنيف الكوميديا هي بدورها خليط من الهزل والدراما النفسية، لذلك نجحت الأفلام المُصنفة كوميديا بأن تكون في قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما، من قبيل فيلم “دكتور سترنجلوف” (Dr. Strangelove) الذي أخرجه “ستانلي كوبريك”، وفيلم “جمال أمريكي” (American Beauty) للمخرج “سامويل مانديز”.

 

“الجمعة 13”.. تأثير المضطربين يخطف أنفاس الجمهور

في العام 2020، نشرت منظمة الصحة العالمية أرقاما مفزعة عن عدد السكان المصابين باضطرابات نفسية في العالم، ويقدر عددهم بما يقارب مليار شخص، وترجح دراسات أن رُبع سكان العالم يُصابون بمرض نفسي في مرحلة ما من العمر، في حين تُشير أرقام أخرى إلى أن عدد المصابين بالاكتئاب والقلق ارتفع بنسبة 50% في ظرف عشرين عاما. لذلك لا يمكن أن لا تكون الأفلام مرآة لهذا الواقع النفسي المخيف، وأن لا تكون السينما عيادة نفسية كبيرة ومفتوحة، حتى إن البعض يمكن أن يبحث عن بعض تفاصيله الدفينة داخله في شخصيات سينمائية، حتى وإن كانت مجنونة أو مهووسة بالقتل.

إن شخصية “جايسون فورهيز” المضطرب النفسي الذي يقتل ضحاياه بسادية كبيرة في فيلم الرعب “الجمعة الـ13” (Friday the 13th)؛ تثير إعجاب جزء من الجمهور. يقول المتخصص في علم النفس “سكيب داين يونغ”: إن عشاق شخصيات “هالووين” أو “الجمعة الـ13” تجذب فئة كبيرة من الشباب ممن هم دون 25 عاما، وما يجذب هذه الفئة من الجمهور هي الخصائص المرضية، مثل الشر الخالص، أو المشاكل النفسية الخطيرة لشخصيات الفيلم.

ويبرر يونغ هذا الإعجاب بالقول: يبدو أن هذا يعود جزئيا إلى تأثير التعرض (Exposition)، فالقتلة المتعطشون للدماء في الأفلام كان لهم حضور متزايد في العقود الأخيرة.

لا يمكن أن يغفل مخرجو الأفلام والمنتجون السينمائيون عما تنشره الدراسات بخصوص ميولات الجمهور التي بدا أنها تميل إلى القصص المؤلمة لأشخاص مجانين، أو إلى مشاهد القتل السادية، لذلك اتجهوا إلى الغوص في فرع السينما النفسية الذي كان قد اتصل بأفلام الرعب والإثارة والجوانب المظلمة من النفس البشرية، شأنها في ذلك شأن أفلام الأبطال الخارقين، أو أفلام الغرب الأمريكي.

وكان من المحتم على صانعي الأفلام أن يتقاطعوا أولا مع ميول الجمهور الشغوف والمتلذذ بالتجارب المرضية التي تصورها الأفلام، وثانيا أن يغوصوا في المواضيع النفسية حتى يتمكنوا من خلق بنيات سردية جديدة مختلفة عن السردية التقليدية، حينها كان لا بد من دفن الشخوص الخيالية الكلاسيكية كالوحش والمخلوقات الخارقة في أفلام الرعب والإثارة التقليدية، ويخلقوا وحشا جديدا يجسده إنسان مضطرب نفسيا يحصد الإعجاب والكره في آن واحد.

 

وحشية المريض النفسي.. صورة نمطية روّجتها السينما

ماذا يمنع شخصا يعاني من ازدواجية الشخصية أو من مرض الفصام، من أن توسوس له هلوساته بالانتحار أو إيذاء نفسه أو غيره مثلما فعل “نورمان بيتس” في فيلم “مريض نفسي” (Psycho)، أو الدكتور “جون ناش” في فيلم “عقل جميل” (A Beautiful Mind)؟

الشيء المطمئن هو أن الدكتور “أوتو وال” في كتابه “جنون وسائل الإعلام.. الصور العامة للمرض النفسي”؛ سخر من الصورة النمطية للمرضى النفسيين وللأطباء المتخصصين في هذا المرض، بل وصل حد الخوف من تأثير تلك الصورة في الجمهور، ويقول “وال”: إن السينما روّجت لصورة جعلت المريض النفسي في الواقع عُرضة للسخرية، أو النفور والخوف منه باعتباره مصدر خطر واختلاف عن بقية الأشخاص.

تبدو السينما فعّالة في استيعابها لصورة المضطرب عقليا، أو بصفة أشمل للمريض النفسي، ورغم أن تلك الفعالية يمكن أن تكون ذات تأثير جيد في الجمهور، خاصة أنها فتحت نوافذ وأبوابا سرية لاكتشاف معاناة مرضى يحجمون عن البوح بآلامهم؛ فإنها يمكن أن تصبح أداة للتضليل، فيختلط الحقيقي بالخيالي في ذهن المشاهد.

إن أبطال فيلم “صيحة” (Scream) أو “الجمعة الـ13” أو “مريض نفسي” ليسوا مخلوقات خيالية ذات ملامح خرافية، بل هم أشخاص شخّصوا أساسا على أنهم مضطربون عقليا، واقترنت تلك الصورة بجرائم قتل وحشية ارتكبها هؤلاء، وهو ما يقدم صورة نمطية سيئة للمريض النفسي في السينما.

الممثل روبرت دي نيرو بدور ترافس في فيلم “سائق التاكسي”، حيث يعاني من مشاكل نفسية تدفعه إلى ارتكاب جرائم قتل بواسطة سلاح

 

تهويل السينما.. ظواهر تتسلل إلى كراسي طلاب الجامعة

يسرد الأخصائي النفسي “سكيب داين يونغ” تجربته مع طلابه الذين ربطوا -وهم طلاب علم النفس- بين المرض النفسي والقتل الوحشي، ويقول: لقد لمست بنفسي مواقف الجمهور تجاه المرض النفسي من خلال تعاملي مع طلابي في الجامعة، فرغم أن معظمهم يملك من الفطنة ما يكفي لإدراك أن الأفلام -خاصة النفسية- تبالغ في تجسيد الأعراض المرضية، فإن اهتمامهم بظواهر معينة قد تضاعف بالتأكيد من خلال متابعتهم لتغطيات الإعلام.

ويوجه طلاب الدكتور “يونغ” فضولهم عند دراسة مرض الفصام والذهان مثلا إلى علاقة القتلة السفاحين بالاضطرابات النفسية، فهم يربطون بين الفصام وبين الجرائم الفظيعة، وهي صورة نمطية روّجت لها الأفلام، فيصدم الطلاب حين يعلمون من أستاذهم أن عددا كبيرا من المصابين بالفصام يعيشون حياة طبيعية جدا، ولا يحملون سكاكين أو سيوفا ليقطعوا بها الرؤوس، وليقصوا أوصال شخص ينتظر الحافلة في وقت متأخر من الليل.

في فيلم “سائق سيارة الأجرة” (1976) للمخرج “مارتن سكورسيزي”، يبدو “ترافس” بطل الفيلم (الممثل روبرت دي نيرو) بطلا يستحق الاحترام، فهو سائق سيارة أجرة يعمل ليلا، يعاني من مشاكل نفسية تدفعه إلى ارتكاب جرائم قتل بواسطة سلاح، لكن يغفر له الجمهور ومن ورائه المخرج جرائمه لأنه ارتكبها بدافع الخير، كما أنه ضابط سابق في البحرية الأمريكية يتصف بالشجاعة والقوة، وهو ما يجعله رجلا مقبولا لدى الجمهور.

 

“الجوكر”.. مهرج يرتكب جرائم قتل جماعي بدم بارد

لم يكن “ترافس” الشخصية الوحيدة في الأفلام التي تعاني من اضطرابات نفسية تقودها إلى ارتكاب جرائم سادية، فشخصية الجوكر في سلسلة أفلام “باتمان” (Batman) التي أداها ممثلون أبدعوا في إظهار الشر والسوء الذي يسكنهم؛ هم شخصيات سوقت للجمهور على أنها مصابة بالفصام، ويصف الممثل الراحل “هيث ليدجر” شخصية الجوكر التي تقمصها في فيلم “فارس الظلام” (The Dark Knight) الذي عرض في العام 2008، بأنه “مجرد مريض نفسي، مهرج ذو دم بارد يرتكب جرائم قتل جماعي، وهو أمر ممتع، لأنه لا توجد حدود حقيقية لما سيقوله الجوكر أو يفعله، لا شيء يخيفه، وكل شيء مزحة كبيرة”.

لكن “سكيب داين يونغ” المتخصص في علم النفس يسخر من شخصية الجوكر باعتبارها محاولة لتشخيص مرضى الفصام، ويقول: أنا لم أر ولم أسمع قط عن مريض واحد مثله، وعلى قناعة كاملة بأنه لا يوجد في كتب علم النفس حالة واحدة لزعيم عصابة يرتدي زيّ مهرج ليدير أعماله.

ويمضي إلى أبعد من ذلك حين انتقد أحد أيقونات الأفلام النفسية في السينما، وهو فيلم “مريض نفسي” الذي صوّر فيه “هيتشكوك” أسوأ ما يمكن أن يأتيه إنسان، وربط فظاعات “نورمان بيتس” (الممثل أنتوني بيركنز) بإصابته بمرض تعدد اضطراب الهوية الانفصامية، أو ما يعرف باضطراب تعدد الشخصيات.

يجزم “سكيب داين يونغ” أن “هيتشكوك” وقع في فخ التضخيم الدرامي، وهو على كل حال أحد مهام مخرج فيلم الرعب والإثارة، فظهر بطله مسكونا بشخصيتين تتحاوران فيما بينهما، وهما شخصيته وشخصية أمه التي قتلها ثم احتفظ بجثتها.

وحسب علم النفس، فإن الشخصيات التي تسكن المصاب باضطراب الهوية الانفصامية لا تتقاطع ولا تتحاور فيما بينها أبدا، كما أنهما شخصيتان منفصلتان تظهر إحداهما حين تغيب الأخرى.

الممثلة ناتالي بورتمان بدور “نينا” في فيلم “البجعة السوداء”، وهي تعاني من اضطراب نفسي لكنها موهوبة ومختلفة عن الآخرين

 

“لا أحد يضمن تأثير صورة الأمراض النفسية التي سوقتها الأفلام للجمهور”

تقول دراسة أمريكية بعنوان “تصوير الشاشة للأمراض العقلية.. الأبعاد والطبيعة والتأثيرات”: إن الصور التي تظهر على الشاشة متكررة وسلبية بشكل عام، ولها تأثير تراكمي على تصور الجمهور للأشخاص المصابين بمرض عقلي، وعلى احتمال تراجع استعداد الأشخاص المصابين بمرض عقلي لطلب المساعدة المناسبة.

وفي السينما تظهر الشخصيات المصابة باضطراب نفسي في ثلاث صور، إما القاتل العنيف الذي يعاني من ازدواجية الشخصيات مثل “ديفيد”، أو “شارلي” (الممثل روبرت دي نيرو) في فيلم “لعبة الاختباء” (Hide and Seek)، أو الشخصية التي تثير السخرية، وقد صورها فيلم “أنا ونفسي وآيرين” (Me, Myself and Irene)، أو الشخصية التي تعاني من اضطراب نفسي، لكنها مختلفة عن الآخرين وموهوبة، مثلما ظهرت “نينا” (الممثلة ناتالي بورتمان) في فيلم “البجعة السوداء” (Black Swan).

يلجأ مخرجو الأفلام إلى تصوير غير محدود لسلوك الشخصيات التي تعاني من اضطراب عقلي، وهي ضرورة درامية تحتمها تطلعات الجمهور، غير أن الجمهور يستهلك تلك الصورة باعتبارها حقيقة، فالغموض المحيط بعالم الذين يعانون من اضطرابات نفسية يتيح صورة واحدة لرسم ملامحهم تقدمها السينما.

وتقول الباحثة نادين إيهاب في كتابها “أفلام الدراما النفسية والباراسيكولوجي”: إن التنافس على شبابيك التذاكر قد أدى إلى التلاعب الدرامي بملامح الشخصية المضطربة نفسيا، وفي المقابل لا أحد يضمن تأثير صورة الأمراض النفسية التي سوقتها الأفلام للجمهور.

 

“قتلة بالفطرة” و”الجوكر”.. تماهي المُشاهد يهدد أمن الدول

تحكم علاقة الجمهور بالأفلام أحكام نفسية متعددة، لعل أخطرها التماهي، وهو مصطلح نفسي يحيل إلى تقمص المُشاهد شخصية ما، أو تماهيه مع مشهد معين في الفيلم، فيعيش الأحداث داخل الفيلم لا خارجه، وقد يصل هذا التماهي الحد الذي تسكن فيه شخصية الفيلم، فيتلبسها المشاهد ويقلّد أفعالها.

ولعل أبرز مثال على ذلك هو الجدل الذي رافق فيلم “قتلة بالفطرة” (Natural Born Killers) الذي عرض في العام 1994، وقد مُنع من العرض في دول مثل أيرلندا، ووجهت له تهم بالتأثير في أشخاص ارتكبوا جرائم، مثل المذبحة التي حصلت في ثانوية كولومبيان في كولورادو، وحادثة إطلاق نار في مدرسة هيث في كنتاكي، ومذبحة عائلة “ريتشاردسون” في كندا، ومنعت بريطانيا عرض الفيلم بعد حادثة مدرسة دنبلاين في أسكتلندا.

يروي فيلم “قتلة بالفطرة” قصة شخصين عانيا من طفولة مؤلمة أثر في نفسيتهما فامتهنا القتل الجماعي، أما فيلم “الجوكر” فقد أثار مخاوف وزارة الدفاع الأمريكية قبل عرضه في قاعات السينما في العام 2019 خوفا من حدوث مجزرة أثناء العرض، مثلما حصل في العام 2012 حين قتل رجل 12 شخصا، وجرح سبعين آخرين أثناء عرض فيلم “باتمان يعود” (Batman Returns) في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هذه الجريمة استحضارا لشخصية الجوكر المهرج المجنون الذي يتلذذ بالقتل الجماعي.

قد تثير تجربة الدكتور “سكيب يونغ” التي استحضرها عند مشاهدته فيلم “البريق” (The Shining) للمخرج “ستانلي كوبريك” الاستغراب، فقد انجذب بشدة إلى الفيلم الذي يروي قصة “جاك” حارس الفندق السفاح الذي جسّد شخصيته الممثل “جاك نيكلسون” أحد أبرع من تماهوا مع الشخصيات المعقدة، وبالرجوع إلى التحليل النفسي لشدة تفاعله مع الفيلم؛ يقدم “يونغ” تفسيرا مرعبا فيقول: فيلم “البريق” يستثير عبر إشارات تلميحية ورموز خفية ذلك الدافع المنتشر في الذكورية الغربية تجاه الإبادة الجماعية، إذ يذهب “فرويد” إلى أن غريزة القتل موجودة لدى الناس جميعا.

الدنماركي “لارس فون تريير” مخرج فيلم “سوداوية” الذي يعتبر أحد أهم الأفلام التي صوّرت مرض الاكتئاب السوداوي

 

“لارس فون تريير”.. اضطرابات نفسية تنعكس على الشاشة الكبيرة

هل كانت الأفلام النفسية وشخصياتها المضطربة انعكاسا لشخصية مخرجها؟ هل يملك بعضهم الجرأة على تصوير ذواتهم في الأفلام النفسية والجزم أنها تمثلهم؟

الإجابة هي نعم، تعكس أفلام كثيرة جانبا مظلما من شخصية مخرجيها، ولكن لا يملك أغلبهم الجرأة للجزم بذلك. تمثل الأفلام مرآة عاكسة لشيء من أعماق المخرج، فأفلام كثيرة تمثل انعكاسا ضبابيا لمخرجيها، قد لا يكتشفها إلا المتمعن حقا، وهو لا يضيّق من حدوده الإبداعية على كل حال.

في العام 2011 أخرج المخرج الدنماركي الشهير “لارس فون تريير” فيلمه “سوداوية” (Melancholia)، وهو أحد أبرز الأفلام التي صوّرت مرض الاكتئاب السوداوي. يروي الفيلم نهاية حياة شخصيات في الأجزاء الثلاثة -التي تكوّن الفيلم- بسبب اضطرابات نفسية أدت إلى القضاء على الحياة العاطفية والاجتماعية والمهنية لإحدى الشخصيات.

ويبدو أن هذا الفيلم هو بعض من انعكاس تجربة المخرج الشخصية، فقد عانى مرات كثيرة من نوبات اكتئاب حاد، مما تطلب دخوله إلى مصحة نفسية للعلاج.

المخرج “ألفريد هيتشكوك” الذي بالغ في إخفاء آثار حياته، ليظهر بصورة بسيطة كشخص مرح يحب صناعة الأفلام

 

“ألفريد هيشتكوك”.. ملاحظات يومية لرجل يخفي سرا غامضا

لا يمكن أن يتغاضى المشاهد الوفي لأفلام “هيتشكوك” عن كل ذلك القلق الذي يسكن أفلامه، فلا بدّ أن أفلامه مسكونة بهواجسه، وربما بأمراضه التي يخفيها، وهذا ما يؤكده “دونالد سبوتو” كاتب سيرته الذاتية “الجانب المظلم للعبقرية”، إذ يقول إن هناك رابطا قويا بين عُقد هذا المخرج العبقري وبين أفلامه، ويقول “سبوتو”: إن أفلام “هيتشكوك” هي دفاتر ملاحظات ويوميات، كان تكتّمه الذي يشارف حد الهوس وسيلة متعمّدة لصرف الأنظار بعيدا عن حقيقة تلك الأفلام، فهي وثائق شخصية على نحو مذهل.

كان “هيتشكوك” يبالغ في إخفاء آثار حياته، فيتعمد إخفاء تفاصيلها، ليظهر بصورة بسيطة كشخص مرح يحب صناعة الأفلام، وقد نفى في إحدى المرات كونه يعاني من اضطراب نفسي، لكن أفلامه تنبه إلى تناقض مع الصورة التي يريد تثبيتها في أذهان جمهوره ونقاده، فاعترف مرة مازحا أن أباه عاقبه على خطأ صغير حين كان طفلا بأن طلب من صديقه الشرطي سجنه لمدة يوم، لذلك أصبح يخاف السجن والشرطة كثيرا، وهو ما قد يولد حقدا دفينا على أبيه، لكن صورة الأم التي ينتقم منها في أفلامه تثير الاستغراب والتساؤل بخصوص علاقة “هيتشكوك” بأمه، فلم تظهر الأم في أفلامه بصورة الأم الكلاسيكية الحنونة، بل صوّرها بشخصية صارمة وجافة، حتى أنه عاقبها بسادية كبيرة في فيلمه “مريض نفسي”.

الغريب أنه بعد ما يقارب نصف قرن من خروج السينما النفسية إلى النور، بقيت أسئلة جدلية تصارع لوجود إجابة، هل خرج المرض النفسي من أقبية مستشفى المجانين لتحتل مكانه السينما؟