“الهند للهندوس فقط”.. القوة الجديدة للهند كما يراها “مودي”

قيس قاسم

يربط الوثائقي الفرنسي “العالَم وفقا لمودي.. القوة الجديدة للهند” (The According to Modi: The new strength of India) بين التوجهات السياسية لرئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي”، وبين قناعاته الفكرية والأيدولوجية التي تَشبَّع بها منذ الصغر.

فما تشهده البلاد من انقسام وشيوع “الشعبوية” السياسية، وما تتعرض له الأقليات والإثنيات -وخاصة المسلمة منها- من عزل واضطهاد، إنما هو نتاج رؤية سياسية يتبناها الزعيم الهندوسي ينشد من خلالها تسيّد “الهندوسيانية” الدينية بالمطلق على المشهد السياسي، لتغدو هي المكوّن الوحيد في الجسم السياسي الهندي. أما بقية المكونات فلا مكان لها في هند “مودي”، وفي أحسن الأحوال لن يكونوا فيها أكثر من مواطنين من الدرجة الثانية.

عبر مراجعة سينمائية طويلة وصبورة، ومن خلال مقابلات مع مؤرخين وعلماء أجناس وصحفيين ساهموا في تحليل شخصية مودي، فإنهم رأوا فيه زعيما “شعبويا” يمثل تيارا قوميا متطرفا يريد الهيمنة المطلقة على بلد شاسع متعدد الأجناس والقوميات ترسخت الديمقراطية فيه تاريخيا، وأضحى من الأمثلة الجيدة على إمكانية تطبيقاتها خارج العالم الغربي.

 

حلم الدولة الهندوسية.. رهان على استعادة زمن غابر

بوجود مودي في دفة الحكم وتياره الشعبوي المندفع بقوة، ينبغي الانتباه إلى التوصيف الخاص بـ”الديمقراطية الهندية”. وللدقة والموضوعية تقترح مخرجة الفيلم “صوفيا ليبو” مراجعته ارتباطا بمتغيرات سياسية واقتصادية كبيرة تعزز خلالها التوجه العسكري للبلد، حيث غدت الهند خلال العقود الأخيرة واحدة من بين أكثر الدول تسليحا في العالم.

وإلى جانب امتلاكها أسلحة نووية، فإن الهند اليوم لديها قوة عسكرية وجيش عديد أفراده أكثر من عدد عناصر الجيش الأمريكي. على تلك القوة يراهن مودي لبسط نفوذه السياسي وتحقيق أحلامه في دولة “هندوسية” تستعيد الزمن الغابر، حيث لم يكن هناك -حسب قراءته التاريخية الخاصة- طوائف أو إثنيات أو ديانات غيرها.

فكرة استرجاع الزمن الماضي تتضح أكثر وأكثر كلما سيطر مودي على الأوضاع السياسية والاقتصادية، وعلى ما تحققه البلد من نجاحات مهمة في الحقل الاقتصادي الذي يحاول التعكز عليه لتمرير أيدولوجيته الدينية عبر حملات دعائية مدروسة بعناية.

الزعيم الهندي مودي يتعبّد في المغارة الواقعة في جبال الهملايا، والتي وُصفت بأنها “خمس نجوم”

 

“المدينة السرية”.. صورة الزعيم الورع

تمضي المخرجة لتأكيد ذلك التوجه من خلال رصدها لتكرار زيارة مودي إلى منطقة “كيدارنات”، أو كما يسميها الوثائقي “المدينة السرية” الواقعة في جبال الهملايا، والتي كلما احتاج مودي إلى دعم شعبي أو خطّط لإعلان قرار سياسي جديد فإنه يزور المنطقة التي تلقّى جانبا من تربيته الدينية في مطلع شبابه فيها، ليظهر أمام العدسات وكأنه رجل دين ورع، لكن سرعنا ما تفضحه عدسات الكاميرا التي تكشف جوانب أخرى أيضا.

يأتي الزعيم السياسي إلى المنطقة بمروحية، وتحيطه الحمايات الشخصية من كل جانب. أما المغارة التي يتعبّد فيها فهي مؤثثة ومريحة، وحسب توصيف صحفي هندي فهي مغارة “خمس نجوم”. ما ينشر عن الزيارة يُظهره أمام الناس كشخص “عادي”، وكزعيم ومرشد روحي (غورو) لكل الهند، ينشد وحدتها ويعمل على رصّ صفوف مكوناتها الإثنية.

تلك هي “الصورة” التي يريد عرضها على الناس، أما في الخفاء فهو يمارس دوره كسياسي لديه برنامج ديني قومي متشدد يريد تحقيقه عبرها.

المُنظّر اليميني المتطرف “سافاكار” هو المعلم الذي تأثر به مودي في سنوات شبابه

 

“سافاكار”.. المُعلّم المُتطرف

إلى ذلك الجانب من شخصيته يحاول الوثائقي الوصول عبر مراجعة لنشأته الهندوسية والأفكار التي تأثر بها. حيث يُوثق تأثره بالمفكر والمُنظّر اليميني المتطرف “سافاكار” أثناء سنوات شبابه، فقد آمن بأفكاره التي تزامنت مع ظهور الفاشية والنازية خلال عشرينيات القرن المنصرم.

استوعب مودي جوهر رسالة مُعلمه التي تتلخص بإقامة أُمّة هندية خالصة، الكلمة المطلقة فيها للهندوس. فما أن حصل على مرامه بالفوز في الانتخابات الأخيرة، حتى شرع بتطبيق أفكار مُعلّمه على الأرض. “كشمير” ستكون إحدى تجاربه، ومنها ينطلق لتحقيق حلمه في تأسيس “أُمّة هندوسية” لا مكان للمسلمين وغيرهم فيها.

صورة لمدينة كشمير التي نزع عنها مودي صفة “الحكم الذاتي”، وسيطر جيشه على مداخل المنطقة ومخارجها

 

غاندي المُعاصر.. انتزاع كشمير

يعود الوثائقي للتذكير بما جرى في كشمير، وذلك عندما أعلن مودي نزع صفة “الحكم الذاتي” عنها بقرار جائر يتعارض مع بنود الدستور التي ضمنت للمنطقة وللأغلبية المسلمة فيها وضعا قانونيا خاصا، حيث سيطر الجيش على مداخل المنطقة ومخارجها، ومنع سكانها من التواصل مع العالم الخارجي، كما طبّق قراره بقوة السلاح، وزجّ بآلاف المعارضين في السجون.

أثار قراره هذا غضب الجارة باكستان، فأعلنت رسميا من على منبر الأمم المتحدة موقفها الرافض لما قام به الجيش الهندي. وعلى الجانب الآخر رحّب القوميون الهندوس بالخطوة، واعتبروها تصبّ في خدمة المشروع القومي الهندوسي الذي يقوده مودي.

أما على المستوى العالمي وفي العام نفسه فقد دعا قادة الدول السبع رئيس الوزراء الهندي إلى اجتماعهم في فرنسا، واستغل مودي بدهاء وجوده في الغرب ليقدم نفسه نصيرا للديمقراطية والسلام. وحسب المحللين الذين استعان الوثائقي بهم فقد حرص على الظهور أمامهم كـ”غاندي” معاصر.

من جانبهم تغاضى الزعماء الغربيون عن ممارساته وتوجهاته المتناقضة مع الديمقراطية، وذلك من أجل مصالح سياسية تريد جعل الهند قوة عسكرية تواجه النفوذ الصيني المتعاظم، ومنافسا اقتصاديا قويا لها.

مودي المُتشبع بالأفكار العنصرية منذ صغره بعد أن انضم لمنظمة “فيلق المتطوعين الوطنيين”

 

فيلق المتطوعين الوطنيين.. طفولة مُتشبعة بالسلاح

لمعرفة الأسباب التي تجعل من مودي زعيما سياسيا رغم شعبويته وتطرفه وشدة رفضه لقبول الآخر، يقبل به الغرب ويسكت عن ممارساته في الداخل؛ يعود الوثائقي إلى نشأته وطفولته، ومن خلالها يمكن بشكل أفضل فهم شخصية مودي والعوامل التاريخية التي أثرت فيها.

يذهب الوثائقي إلى منطقة “فادناغار”، ومنها إلى مدينة “كوجرات” حيث ولد وترعرع مودي وسط عائلة فقيرة من طبقة الـ”كاست” المنبوذة. في طفولته ساعد والده في محله المتواضع لبيع الشاي، وفي الثامنة من عمره ولتحسين وضعه انتمى مبكرا لمنظمة “فيلق المتطوعين الوطنيين”، وهي عبارة عن تنظيم قومي يميني التوجه نصف مسلح، يتلقى الأطفال الهندوس في مدارسه تعاليمهم الدينية والتدريب على السلاح.

سعت المنظمة إلى تلقين المنتمين إليها المبادئ القومية المتطرفة، وضرورة سيطرة الهندوس على البلد بأكمله، وتعكزت على شعارات وطنية تدعو لخروج المحتل البريطاني من البلاد، وذلك لكسب الشباب الهندوس إليها أكثر.

وبعد التخلص من الاستعمار البريطاني، توجهت المنظمة لإضعاف “حزب المؤتمر الهندي”، واتهام قادته بالتخاذل وتقريب الإنجليز إليهم. وفي عام 1965 تطوّع مودي جنديا للحرب ضد باكستان، وبعد زواجه المبكر هجر زوجته، وقام برحلة “روحية” -كما يسميها- في أرجاء البلاد، تلقى خلالها التعليمات من المنظر الهندوسي المتطرف “سادور”. استوعب مودي جيدا دروسه التي تلح على أهمية الربط وعدم الفصل بين الوطنية والهندوسية. بعدها عاد إلى المنظمة، وتبوأ فيها مراكز قيادية.

بدأ مودي نشاطه من خلال حزب “بهارتيا جناتا” في مدينة نيودلهي، وفي انتخابات عام 2002 كُلف بالسفر إلى مدينة كوجرات من أجل ترشيح نفسه هناك.

مودي في دعايته الانتخابية يظهر بمثابة الرجل الساعي لتوحيد البلاد، لكنه في الحقيقة مُنحاز للهندوس ويكره المسلمين

 

مسجد بابري.. حملة دموية لأغراض انتخابية

نشاط مودي السياسي في كوجرات عززه بحملة دموية ضد المسلمين، مستغلا لأغراض الدعاية حادث احتراق قطار وموت معظم ركابه، فقد كان هؤلاء من الهندوس المتوجهين في طريقهم للتجمع أمام مسجد “بابري” الذي يدّعون أن المسلمين قاموا ببنائه على أنقاض معبد قديم لهم في منطقة “أيوديا”.

دون انتظار تحقيق رسمي بالحادث، وُجهت للمسلمين فورا تُهمة ارتكارب المجزرة، لكن المرشح الهندوسي لم يعمل على تخفيف التوتر الحاصل، بل زاده عنفا من خلال ضغطه على رجال الشرطة بعدم التدخل في الأحداث.

في المواجهات المسلحة سقط آلاف المسلمين، في حين ظهر مودي أمام الهندوس كزعيم يؤيد “حقهم” في استعادة أماكنهم المقدسة. وقد زاد موقفه من شعبيته، وحصل على أصوات أهّلته للفوز بالانتخابات المحلية. خلال تلك الفترة وبعد انكشاف دوره في المجازر، منعت الولايات المتحدة دخوله إلى أراضيها.

الزعيم الهندوسي الشعبوي مودي يصافح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يدعمه في مواجهة النفوذ الصيني في القارة الآسيوية

 

نفاق غربي.. تجاهل التطرف مقابل مواجهة الصين

النقد الشديد الذي وُجه لمودي حينها خفّ مع الوقت، ومع اختلاف المصالح الغربية. فالغرب وبعد التأكد من سيطرته على الحزب وفوزه في الانتخابات الأخيرة عمل على وضع الهند في الجبهة الأمامية المواجهة للصين، والاعتماد عليها في الحد من توسع النفوذ الصيني في القارة الآسيوية على وجه التحديد.

وجد مودي في تلك الرغبة ما يُحسّن صورته ويعزز موقعه، حيث ظهر في انتخابات 2014 زعيما ديمقراطيا يدعو للسلام والمحبة، وجسّد ذلك في “يوم اليوغا”، وروّج لنفسه قبل كل شيء من خلال نشره مشروع ممارسة اليوغا على نطاق عالمي واسع بوصفها رياضة روحية جسدية هندية الأصل.

يكشف الوثائقي من خلال متابعة دقيقة لتاريخه الشخصي حُبّه لذاته، ورغبته في تحقيق أمجاده الخاصة من دون اهتمام حقيقي بما يروج له من حرص على تحسين أحوال فقراء البلد وطبقاته المسحوقة. فهو يُجيّر النجاحات الاقتصادية المحققة في العقود الأخيرة لصالحه، ويسعى ليقرنها باسمه الشخصي، متجنبا الإعلان عن الدعم الغربي له، وقبوله للعب دور حيوي في المواجهة الحاصلة بين الغرب والصين.

خلال فترة حكمه، ومع كل الممارسات التعسفية ضد المسلمين؛ فتح الغرب أبوابه أمام جيشه ليصبح واحدا من بين أقوى جيوش العالم.

جرّب مودي استغلال الخلافات التاريخية حول الحدود بين بلده والصين لإثبات ذلك التعاون، وعمل على تقوية الوجود العسكري الهندي على طول الحدود، وحظي بدعم عسكري إسرائيلي سرّي، حصل منها على تقنيات حديثة، من بينها برامج  الحروب السيبرانية التي استطاعت الهند بفضلها خرق الأنظمة الإلكترونية الصينية، وذلك خلال المواجهات المحدودة التي جرت قرب حدود البلدين عام 2020.

صورة تجمع الزعيم الهندوسي الشعبوي “مودي” مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”

 

مودي ونتنياهو.. إعجاب متبادل

لا يُخفي الزعيم الهندوسي الشعبوي المتطرف إعجابه بإسرائيل ورئيس وزرائها “بنيامين نتنياهو”، فحسب محللي الوثائقي فهو الزعيم الهندي الوحيد الذي زار إسرائيل وانحاز لها على حساب العرب.

يستعرض الوثائقي تاريخ السياسة الهندية وصلة قادتها بالعالم العربي، وانتهاج معظمهم سياسة محايدة أو مؤيدة لبعض القضايا العربية. أما الزعيم الجديد فإنه ينطلق من قيم ومواقف أغلبية هندوسية تمجّد إسرائيل وتعتبرها نموذجا ينبغي الاحتذاء به في الهند. فهم يرون فيها قوة مترسخة خارج المحيط الإسلامي، وأنها حققت انتصارات في كل الحروب التي خاضتها ضدهم.

هذا المزاج الشعبي الهندوسي يجد تعبيراته في الموقف الإسرائيلي المؤيد للهند في صراعها مع الجارة المسلمة باكستان.

قوانين جديدة.. حرمان المسلمين من المواطنة

بعد كل ذلك يعود الوثائقي ليُثبت بتسجيلات ووقائع مُصوّرة ما تشهده البلاد اليوم من تمييز ضد المسلمين عبر قوانين ومشاريع تسنّها الحكومة، وترمي من خلالها إلى حرمانهم من حق المواطنة في كشمير وغيرها من المناطق.

يراجع الفيلم تفاصيل قانون الأحوال الشخصية الجديد الذي يربط بين المواطنة والديانة، وذلك في خرق صارخ لدستور البلد وتقاليده العريقة.

كما يشدد المشاركون في الوثائقي على ضرورة اتخاذ الغرب مواقف شجاعة ومُعلنة ضد ما يجري في الهند من عسف وانتهاك لحقوق الأقليات والإثنيات الدينية، وأن لا يكتفي بمواقف خجولة لا تريد إزعاج رجلهم الجديد الذي يريدون تحريكه وفقا لمصالحهم، ويغضون بسببها النظر عن انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان.