“تلاشي”.. محطات في رحلة رجل من النور إلى العمى

أحمد القاسمي

يظل الوثائقي نمطا سينمائيا مزعجا عصيّا على الحد الثابت القارّي، ويظل السبيل إلى إنجازه وتمثله والتفاعل معه موضوع تساؤل مع كل أثر جديد مارق عن المعايير المعهودة، فهل مداره على توثيق الحقيقة العارية الملتزمة بكل تفاصيل الموضوع البعيدة عن كل لباس مُلْبس مزيّف؟

هل هو موقف من الواقع وتصور لشكل الإقامة فيه يجسده المخرج فيسمح لنفسه بهامش من الحرية في التعامل مع موضوعه؟ ما إن يظفر الناقد بإجابة -وقد عهدنا النقاد محافظين ميّالين إلى الحدود الواضحة- حتى يبرز عمل مختلف أو متمرّد، فينسف ما بناه هذا النقد من اطمئنان، ويعيد خلط التصورات والحدود.

يعدّ “تلاشي” واحدا من هذه الأفلام العصيّة، فلست تدري وأنت تتابع الفيلم -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- وتدرك بصمة المخرجين “حمزة بالحاج” و”أمين بوخريص” وفق سيناريو بارع؛ هل يقدم الحقيقة فيحدد صورة الكائن في الزمان والمكان، ويعرض حكاية عمار الذي يعاني من مرض نادر يصيبه في مركز العين ويكافح حتى لا يفقد بصره، أم هو يقدم الواقعية المحتملة فيتجاوز الظاهرة الفردية ليلامس حقيقتنا الكلية، ويسعى عبر عمار إلى تجسيد نموذج للإنسان المتمسك بالأمل حتى تظلّ الحياة ممكنة.

ألم يقل أبو إسماعيل الطغرائي:

أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

ألا يقول اليائس منا كيف لي بالصمود ولا ضوء في الأفق؟ فلا نجد ما نجيبه به ونحن نعلم أن الظلام المقصود مجاز، فكيف بالأمر إذا ما تعلق السؤال بالظلام حقيقة؟ كيف لشاب محب للحياة مقبل عليها بشراهة يمارس المسرح والرقص ويتكلم أكثر من لغة أن يصمد وأن يقاوم وهو يدرك أنه يسير بخطى حثيثة نحو العمى؟

كيف له أن “يسكت في النفس صوت الحياة القوي إذا ما تغنى صداه، وكيف له أن يطبق أجفانه النيرات عن الفجر والفجر عذب ضياه”؟

وهذا الشابي يناديه:

إلى النور فالنور عذب جميل
إلى النور فالنور ظل الإله

 

محنة تلاشي البصر.. ثلاثي البناء الهرمي للفيلم

يخترق السرد جميع أنواع الفنون -وإن بأشكال مختلفة- والأفلام الوثائقية إحداها، ولا عجب فما حياتنا إلا قصة في نهاية المطاف، ولكن فيلم “تلاشي” يذهب بعيدا في اعتماد هذا الأسلوب، فتكشف مقاربته الفنية بجلاء عن معالم سيناريو الفيلم الروائي ذي البناء الهرمي، فلملخصه الموجز أن يكون على النحو التالي:

عمار اللطيفي مسرحي من الوسط التونسي يصاب بمرض نادر، فهل سينجح في سعيه إلى مقاومة تلاشي البصر وتلاشي الكيان؟ ويعتمد البناء الثلاثي الهرمي بين بداية تتولى العرض، ووسط تتأجج فيه المواجهة، ونهاية تكشف مآل الصراع.

يزوّد العرض المتفرّج بالمعلومات الضرورية ليتابع محنة عمار، ويجد المخرجان في عرض عالمه وعوالم الشخصيات المقربة منه طريقة مبتكرة تكفل ذلك، وتنوب عن الأسلوب المباشر الفج في الأفلام الوثائقية الكلاسيكية، فيبدأ الفيلم بالطبيب وهو يسأله عن الاسم وتكشف عملية التشخيص المؤلمة معضلته.

بينما يتولى العرض المسرحي المستلهم من قصته إخبارنا بما يكابد من الشقاء في ملاحقة أمل الشفاء، فيعلمنا بأنه كان يضرب في أصقاع البلاد بحثا عن الأطباء المختصين، ويشرح بشكل هزلي ساخر -يُهمش مأساته ويزرع فيها الشعور بالتفوق عليها- طبيعة مرضه الوراثي الغريب ومعاناته مع الأطباء، ويصطنع السيناريو مع البنت زينب وأمها المنتجة المسرحية ومع الأصدقاء محادثات تقرّب إلى أفهامنا مرضه الغامض، أو يعرض مشاهد من حياة عمار اليومية والعملية لنعاين عبر التجربة معاناته.

إلى عالم البادية يهرب عمّار، حيث مرتع الطفولة والصبا، وحيث الجدة المكلومة التي تعيش مأساة حفيدها

 

رحلة إلى مرابع الصبا.. التجاء لمجد الأجداد الغابر

يمثل الوسط فصل الحركة والفعل، ففيه ينطلق سفر عمار في رحلة تُهمّش الواقع وتتعالى عليه، ويمثل السفر أولى مراتبه، فينتقل من المدينة حيث البنايات المتراكمة المكدسة والتلوث البصري، ومن الشرفة الضيقة التي لا تطلّ على الأفق البعيد إلاّ وهي تكشف عالم الشخصية الضيق، وتجسد شعورها بأسر الخوف والظلام، إلى البادية مرتع الطفولة والصبا، وإلى الأفق الرّحب حيث الدفء العاطفي والنبض الإنساني، وحيث الجدَة الجزعة المكلومة التي تعيش مأساة حفيدها فتتحوّل عند المتفرّج إلى مرآة يُرى فيها جزع عمار وهشاشته اللذان يكابر في إظهارهما.

لم يكن الهروب إلى عالم الجدة سفرا في المكان فحسب بل مثّل رحلة في الزمان تتجلى من خلالها صورة الماضي بصفحاتها المختلفة القريب منها والبعيد، فهي العودة إلى الطفولة وإلى المرح البريء بين التلال وقطيع الأغنام، وإلى العلاقات العفوية بين أحضان الجدة والأخت، وهي أيضا العودة إلى الماضي العريق وإلى أحضان الجد البعيد.

إنها العودة إلى تليل بن نصر بن عبد الرحمان الولي الصالح والجد الأول الذي تنحدر منه القبيلة، وهو من نسل عثمان الخليفة ينتسب إليه على مستوى الجد التاسع عشر ومعلوم انحدار عثمان مع الرسول محمد ﷺ من صلب عبد مناف بن قصي بن كلاب، فهل يكفي مجد الماضي ودفقه العاطفي ليكون بلسما لجراح الحاضر؟

المسرحي عمار اللطيفي يُصاب بمرض نادر ويتكبد شقاء البحث عن أطباء مختصين لعلاج مشكلته

 

إثم قتل الغزال.. عدالة القصاص في الوعي الجمعي

لا يخلو الماضي من لوثة أيضا، كما لا تخلو العودة إلى ربوع الطفولة من ألم، فالذاكرة لا تحتفظ بغير صور للجد والجدة، وغياب الأب والأم بيّن، هل هو نتيجة ليُتْم أو لانفصال أو لإهمال؟ لا يجيبنا الفيلم، ولكنه يجعل لهذه الحلقة المفقودة وطأة ثقيلة، فعمار يصارع قدره وحيدا رغم كثرة المحيطين به المتعاطفين معه.

قتل أحد الأجداد الأصليين غزالا ولا يسلم قاتل الغزلان المتطاول على الجمال من العقاب في الوعي الجمعي فيصاب بالعمى، فكيف بالمرض المتطاول على الشباب والمسرح والموسيقى، وأي عدالة ليؤخذ عمار بعمل طائش من جده؟ لا يملك الشاب إلا أن يذرف دموعا على قبر الجد البعيد سيدي تليل، لعلّ بركاته تغسل آثام أحفاده وترفع عنهم اللعنة.

لقد مثّلت العودة إلى البادية رغم كونها متكلفة تعلة فنية من المخرجين للغوص في تفاصيل حياة عمار وللرحيل إلى الماضي السعيد بحكاياته وأساطيره، ومهربا تلوذ به الشخصية من عالم المدينة المؤذي الأناني، وتلوذ به الروح لتنفلت من عالم العقل والواقع الآسرين.

عمار يزور طبيبا ألمانيا ليشخص مرضه، لكنه في صراع رافض باستماتة أن يعرض نفسه على غير طبيبه التونسي

 

رفض عمار ورغبة الفريق.. حلبة صراع داخلي وخارجي

مثلت ألمانيا الوجهة الثانية لسفر الفيلم وعنوانها المعلن تقديم العرض “تلاشي” للجالية المغاربية احتفالا بذكرى الثورة التونسية، أما العنوان غير المعلن فهو عرض عمار على طبيب ألماني ليشخص حقيقة مرضه، ويبدو جليا أن فريق الإنتاج قد خطّط له من وراء ستار ليكون إضافة فارقة لمحتوى الفيلم، ولكن مفاجأة تفسد على صنّاع الفيلم خططهم وتدفع بالتشنج إلى أقصاه، فيأخذ الصراع اتجاهين:

صراع خارجي طرفاه عمار الرافض باستماتة أن يعرض نفسه على غير طبيبه التونسي، وفريق الإنتاج الراغب في مساعدة عمار والمتعاطف معه إنسانيا بلا شك، والراغب في الدفع بقصة الفيلم إلى آفاق بعيدة، فلنا أن نتخيّل وقع شفاء عمار على المتفرّج وعلى مآل هذا الوثائقي.

أما الصراع الثاني فهو داخلي يفسّر تشنج عمار، فنتائج هذا التشخيص المفاجئ غير مضمونة، وقد تضعه في مواجهة الحقيقة، وما الذي يدفعه إلى تهوّر يمكن أن ينسف أمله في الشفاء وقد فتح له طبيبه التونسي باب الأمل حين أعلن اكتشافه دواء لهذا المرض وبشر بفاعلية لا تظهر إلا على المدى الطويل، ألم يقل الفلاسفة وهْم يحيى خير من حقيقة تميت؟

عمار يحاول توطين نفسه على عوالم يفتقد إليها المبصرون، فيرى نفسه كالشيخ إمام الضرير

 

“البحر بيضحك ليه؟”.. إبحار في عالم العميان العباقرة

يكشف الصراع هشاشة عمّار رغم ما يظهره من الصلابة، فقد غدا طبيبه ملاذا يحتمي به من مواجهة الحقيقة، وبالقدر نفسه يكشف شعورا عميقا لديه بسيره الثابت نحو فقد البصر، ومن هنا كان يوطّن النفس على التلاؤم مع مصيرها الجديد، بدءا من الإعجاب بالمعري وطه حسين وبالكفيف عامة لامتلاكه مواصفات يفتقد إليها المبصرون، وانتهاء بمشاهدة فيلم “الكيت كات” لداود عبد السيد.

كما يتفاعل مع الممثل محمود عبد العزيز وهو يؤدي بإبهار شخصية الشيخ حسني الذي يفقد بصره، ثم يفقد عمله وزوجته ثم منزله، ولكنه يرفض الاعتراف بإعاقته ويستمر في نسق حياته العادي، وشكلت أغنية الشيخ إمام “البحر بيضحك ليه” جسرا يعبر بنا من وسط الفيلم إلى نهايته، فمثّلت عنوانا آخر لهذا العمى الجميل الذي ينتظر عمّار.

“ولسه جوا القلب أمل”

كان آخر فصل الوسط ذروة الاضطراب وفق البناء النمطي للفيلم الروائي، وفي كلمات أحمد فؤاد نجم ذروة الإحباط والتلاشي التي يعيشها عمار وهو يزيّن للنفس نهايتها الحتمية، فالقدر كما البحر تماما “غدار ما بيضحكش” ورغم مسحة الهزل التي بدت عليها الشخصية يشعّ سواد مرّ فـ”أصل الحكاية ما تضحكش.. البحر جرحه ما بيدبلش وجرحنا ولا عمره دبل”.

وتشكل النهاية المنحدر من البناء الهرمي، ففيها يعود عمار إلى البادية من جديد فيرعى الأغنام مع شقيقته ويحرث الأرض، ويقع ذلك كله على أنغام أغنية الشيخ إمام وقد غدت لسان حاله “مساكين بنضحك من البلوة زي الديوك والروح حلوة سارقاها من السكين حموة، ولسة جوا القلب أمل” فتتوافق نهاية المقطع المتغني بالأمل مع تعليق السارد في نهاية الجينيريك (تتر النهاية) وهو يعلمنا بما وقع بعد التصوير قائلا: بعد أشهر من التصوير لا يزال عمار يواصل العلاج مع الطبيب نفسه وحالته الصحية والنفسية في تحسن ملحوظ.

عروض المونودراما التي يقدمها عمّار فيها تفاؤلات كثيرة دعما لحالته النفسية وتشجيعا للغير

 

انسكاب دموع على أنغام صوفية.. اضمحلال الذات قبل البصر

يعاني عمار من تلاشي البصر نتيجة لعجز عينيه عن التقاط الأضواء، وهذا ما يجعل المرئي ضبابيا خاصة من الزاوية المواجهة المناظرة لمركز العين، وليدرك الأشياء بوضوح أكبر لابد أن يدير رأسه لينظر إلى المرئي من زاوية جانبية.

لقد مثل وقع هذا المرض على حياة عمار اللطيفي مركز اهتمام الفيلم، وذلك لما يولّد من صعوبات في مختلف تفاصيل حياته اليومية من أكل وشرب وقيام بالأعباء المنزلية، ولكن خطر فقدان البصر كليا لا يجعل بصره يتلاشى فحسب وإنما ذاته أيضا، ومن معاني التلاشي الاضمحلال والشعور باليأس وانسداد الأفق أمام الحقيقة المفجعة التي تفرض نفسها على العقل الشقي.

وماذا بقي للنفس من سبيل لتصهر ذاتها المضمحلة المتلاشية غير الروح والحلم والجمال، فعبر المسرح تُحقق ضربا من التعالي على المرض والتسامي على العالم المحدود، وعبر سخرية العرض المسرحي تعيد تشكيل الذات المتلاشية، وعبر العلم تترك باب الحلم مفتوحا، وليس العلم هنا قواعد صارمة مضبوطة بقدر ما هو حلم بدواء سحري يعيد بمعجزة إلى عمار بصره الهارب منه.

وعبر تجربة الروح تواجه الذات نفسها وتتخلى عن كبرها الكاذب، فيزور عمار زاوية سيدي تليل الولي الصالح، ويتمسّح على ضريحه على أنغام الأذكار الصوفية والابتهالات والأدعية، وتنسكب دموعه التي ظلّ يخفيها طويلا، فيشتمل الفيلم على حركتين متضادتين؛ مرض يصيب البصر بالتلاشي ويخلّ بتوازن الذات أولا، وحركة ارتدادية سمتها الروح تبحث عن إعادة التوازن لتلك الذات وتصهر أشلاءها.

الفيلم يقدم حقيقة المرض الغريب النادر الذي ينغّص على عمار حياته، ويبرز شجاعته وحسن بلائه في مواجهته

 

“تلاشي”.. خروج عن المألوف الوثائقي

يحرص الفيلم على تقديم حقيقة المرض الغريب النادر الذي ينغّص على عمار حياته، ويبرز شجاعته وحسن بلائه في مواجهته، ولكنّه يخرج عن معهود الإنشاء في السينما الوثائقية الكلاسيكية، فمعالجته لمادته تمت من خلال رؤية جمالية تدسّ روح المغامرة المثيرة لفضول المتفرّج والمولدة للتشويق بين بداية تعرض معركة عمار، ووسط يجسدها ضد الخصم العنيد، ونهاية تعلمنا بمآل هذه المعركة، فطي المادة التوثيقية وتحوّل مواجهته لمرضه إلى فعل مقاومة دفاعا عن إنسانية الإنسان وقيمه أمام الجشع واختزال العالم في الربح المالي، وبالموازاة تعمل على سبر أغوار عالم الشخصية النفسي فتجمع بين فضيلتي التوثيق والسرد.

ومما يدعم المنحى الروائي للفيلم عملية التصوير، ففي الوثائقي عامة تلاحق الكاميرا الشخصية وتتبع خطاها غير عالمة بما ستلتقط، أما في الفيلم الروائي فتكون جاهزة ضابطة للتقطيع الفني ولأنواع اللقطات ولزوايا التصوير، وعارفة بمسار الشخصية التي تتحرك وفق سيناريو مرتب مسبقا، فتستبقها إلى الفضاء حتى كأن الشخصية هي من تلاحق الكاميرا.

عمار استطاع عبر سخرية العرض المسرحي أن يُعيد تشيكل الذات المتلاشية مستخدما إياه كشكل من أشكال المقاومة

 

مراعاة حدود المنطق في القصة.. حياكة الكاميرا للأحداث

لا نستطيع في فيلم “تلاشي” أن نتخلّص من الانطباع بأن الكاميرا عارفة بما ينوي عمار فعله مسبقا من ذهاب إلى البادية أو خروج للعرض في ألمانيا، وأن ردود الشخصية تحدّد بتدبير مسبق أعده السيناريو كما في الأفلام الروائية، فيكون للافتعال دور بارز في تشكيل الحكاية، ولا يضير هذا الاختيار الجمالي بالأفلام الوثائقية في شيء، بشرط أن لا يكون مفضوحا متكلّفا، بل إنه على العكس من ذلك يمثّل إضافة فنية معتبرة لها ناجمة عن بحث يقطع مع النّمطية والتكرار، ويعي بأن الوثائقي مهما سعى إلى الأمانة لا يقدم الحقيقة، وأنى لنا أن ندركها؟

فكل ما نراه هو تصورنا للأشياء المرهون بأبعادنا الذاتية والنفسية وبتجاربنا الشخصية وخلفياتنا الفكرية والجمالية، ولعلّ ما نعتقد أنه الحقيقة يمثل عند غيرنا وهما أو زيفا أو كذبا، ومن هذا المنطلق كان الفيلم يبني من خلال شخصية عمار نموذجا إنسانيا فريدا يتعالى على المصاعب والأمراض.

كان الفيلم يقدم صورة من المحتمل المنشود في أحلامنا أكثر مما كان يقدّم صورة لما هو كائن موجود أمامنا، لذلك غلبت عليه اللقطة المتوسطة التي تجسد حركة رجل يقاوم قدره ويتحداه، وحلّت محلّ اللقطة الكبيرة التي تعرض ملامح الوجه وتلتقط المشهد المؤثر لرجل يتألّم ويخضع ويستسلم، فينبع عمقه الإنساني من الارتكان إلى الحلم انتصارا على الواقع، ومن اعتماد الروح انتصارا على صحراء العقل وحدوده، ومن التعويل على القيم مقاومة للتشيؤ والاستسلام للمادة، ومن توسل الأمل مواجهة لليأس والقنوط.

عمار يروي لنا رحلة معاناته كمسرحي من النور إلى العمى

 

صراع الإنسان المفتعل.. إحساس التلاعب بعقل المتفرج

يُبنى الفيلم عامة من خلال حكاية عارضة صراع الإنسان مطلقا في سبيل الوجود ضد ما يتهدده من فناء وما يحيط به من عدم، وعلى هذا النحو ينخرط فيلم “تلاشي” ضمن اتجاه بتنا نرى له نظائر في السينما الوثائقية العربية هذه الأيام، فأسلوبه يتقاطع مع الوثائقيات الفقيرة بصريا التي تكتفي وهي تطرح أعقد القضايا بجمع شهادات الشخصيات الثابتة في الفضاء وعرض فيديوهات أو صور مصاحبة لها، فيدمجنا في عمق القصّة لنعايش القضية بدل أن نسمع عنها، وقديما قالت العرب “ليس الخبر كالعيان”.

ورغم كل هذه النقاط الناصعة في الفيلم لا يسلم المتفرّج من شعور مزعج بتأثير المخرجين في مسار الأحداث وافتعالها افتعالا، كأن يكونا هما من رتّبا زيارة عمار إلى أهله في البادية، أو سهّلا عرض مسرحيته في ألمانيا، أو دفعا الفتاة زينب لتسأله حول مرضه، مما يحمله في البداية على براءة الطفولة وعفويتها.

ومتى انتبه المتفرج إلى الافتعال هذا تحوّل من التفاعل الإيجابي مع الفيلم إلى مقاومة ما يراه تلاعبا بعقله لجعله يرى الأشياء على نحو مدبّر سلفا، ثم مال إلى مقاومته، مما يشكل حاجزا يحول دون تبليغ الفيلم لرسالته، وما الوثائقي إن لم يكن مغزى ووجهة نظر ورسالة في نهاية المطاف؟