“حياة خفية”.. ضريبة أن تكون إنسانيا في عصر “هتلر”

خالد عبد العزيز

فنان السينما المخرج الروسي “أندريه تاركوفسكي” يقول عن العلاقة بين الفن والتعبير عن الذات، إن “الفن يولد ويرسخ حيثما يكون هناك توق نهم أزلي إلى ما هو روحي، ذلك التوق الذي يجذب الناس إلى الفن، والفن الحديث قد اتخذ اتجاها خاطئا عندما تخلّى عن البحث عن معنى الوجود في سبيل توكيد قيمة الفرد لمصلحته الخاصة”.

وبالنظر إلى هذه المقولة نجدها تتوافق مع المخرج الأمريكي “تيرانس ماليك” وأفلامه التي تُشكل معا وحدة واحدة يجمعها همّ ما ورؤية فلسفية للوجود، والأهم تلك الرؤية الثاقبة والنافذة للنفس الإنسانية، ومحاولة سبر أغوارها واكتشافها والسير في دروبها الموغلة في الظلام، محاولا تعرية ما يعتمل داخل نفس الإنسان، ليس بغرض كشفها وانتقادها، بل لفهم ومعالجة كوامن ضعفها وإدراك دوافعها.

 

رفض الولاء لهتلر.. صفحة من الحرب العالمية الثانية

في فيلم “حياة خفية” (A Hidden Life) إنتاج عام 2019 يتخذ المخرج “تيرانس ماليك” من التاريخ أرضا للانطلاق بأفكاره نحو آفاق أعمق وأكثر جموحا، إذ يتناول فكرة العذاب والخلاص الإنساني واختيار الفرد لمسار حياته، وكيف تتحول المبادئ والأفكار التي يؤمن بها الإنسان من مبادئ يقينية هدفها راحة الفرد، إلى طوق خانق يُعبّد ويُمهّد طريق حياته نحو نهايتها.

يقتحم الفيلم النفس البشرية ويشرحها بكامل وعيها، ويكشف عنها ستار الغموض المحيط بها، ذلك الستار الكامن خلفه فلسفة الفرد الشحصية التي تصبغ حياته بأسلوبها ومذاقها، وحينما ينحاز بعيدا عنها؛ يشعر بالغربة ولا تتسق نفسه مع مكنونها.

“فرانز جاجرشتاير” مزارع نمساوي وأب لثلاثة أطفال، يمارس حياته بهدوء بين أسرته في سعادة، لكن حياته تنقلب بعد اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية، إذ يستدعى لأداء الخدمة العسكرية بعد احتلال ألمانيا للنمسا وضمها للرايخ الألماني، لكنه يرفض أداء يمين الولاء للزعيم الألماني “هتلر”، ويرفض تأدية الخدمة العسكرية، وذلك لكونها منافية لأفكاره الدينية عن حرمة القتل.

هكذا ينسج الفيلم خيوط حكايته من خلال هذه القصة الحقيقية التي لا يعرف الكثير عنها شيئا، لكن “تيرانس ماليك” يقتنصها من أضابير التاريخ، ليخلق منها عالما يشبه عوالمه التي يُدرك جيدا كيف يُغرّد فيها.

فرانز مع زوجته “فاني” في المرعى الأخضر في النمسا، حيث تحاول إقناعه بالعدول عن موقفه تجاه أداء يمين الولاء لـ”هتلر”

 

حدائق الملائكة ومعسكرات الشياطين.. عالمان منفصلان متصلان

تبدأ أحداث الفيلم في النمسا عام 1939 بمشهد نرى فيه “فرانز” (الممثل أوغست ديل) وهو يحرث المرعى الأخضر الشاسع الذي يعمل فيه مع زوجته “فاني” (الممثلة فاليري باخنر)، تلتقط الكاميرا في لقطة تأسيسية طويلة معالم البيئة التي يقطنها “فرانز” وأسرته، حيث تتميز بجاذبية مناظرها الطبيعية الخلابة.

فقد قسّم السيناريو الأحداث لتسير بين عالمين منفصلين متصلين لكل منهما سماته وشخوصه، حتى وإن تداخلت العوالم معا في وحدة واحدة مع مرور السرد واندفاعه للأمام، فالعالم الأول هو القرية التي يعيش فيها “فرانز” مع أسرته الهادئة، حيث الحقول الخضراء تمتد في الأفق دون نهاية، نرى “فرانز” يمارس عمله في الزراعة برفقة جيرانه من القرية، حياة رغدة وكأنها قطعة من الجنة وبشرها ملائكة، وهنا تتضح الدلالة المكانية لمنزل “فرانز”، من حيث وقوعه على ربوة عالية بين أعناق الجبال، وكأنه في مكانة أعلى، سواء من الناحية المكانية أو الرمزية مقارنة بالعالم الآخر.

أما العالم الثاني فهو معسكرات النازيين، حيث تدور أحداث الشق الثاني من الفيلم، بعد رفض “فرانز” أداء يمين الولاء لـ”هتلر”، وفي هذا العالم نرى الجنود والضباط قساة قلوبهم لا ترحم، تلتقطهم الكاميرا من زوايا مقربة، حيث تبدو وجوههم متجهمة وغاضبة على الدوام، لا شبح ابتسامة يهفو عليها وكأنهم شياطين، تتضح سمات هذا العالم الموازي أكثر فأكثر كلما توغلنا في السرد، وبعد إيداع “فرانز” في السجن يصطدم بهم، وتحرقه نارهم دون شفقة.

 

أحداث الفيلم التصاعدية.. سيناريو محبوك كمقطوعة موسيقية

استلهم بناء السيناريو المحبوك بدقة متناهية -رغم طول الفيلم البالغ نحو ثلاث ساعات- نفس بناء المقطوعة الموسيقية، وذلك بما يتناسب مع شاعرية الفيلم ككل، حيث تتكون المقطوعة من مقدمة وثلاث حركات، وقد جاء السرد يسير وفق هذه المنهجية، رغم أسلوب الحكاية التقليدية، فمقدمة الفيلم نرى فيها عذوبة الحياة التي يحياها “فرانز” مع زوجته وأطفاله الثلاثة.

ثم ينتقل السرد للحركة الأولى، ويصور السيناريو بداية شعور “فرانز” بالغربة مع من حوله بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانقسام البلد إلى نصفين أغلبه يقف وراء “هتلر”، والبقية التي لا تُرى بالعين المجردة تناهض النازية ولو بأضعف الإيمان وبسلاح القلب.

وفي الحركة الثانية يتطور الأمر ونصل للذروة مع جلاء ووضوح موقف “فرانز” ومعاداة الجميع له ووقوفهم ضده، ورفضه أداء يمين الولاء لـ”هتلر”.

أما في الحركة الثالثة فيستمر السرد في التصاعد ويتخذ شكلا أكثر حدة وبلاغة وشاعرية في الوقت نفسه، حيث نرى استمرار “فرانز” وإصراره على موقفه، مع ارتواء مشاعره الدينية بالإيمان، ومناجاته لربه طالبا المساعدة وخلاصه الروحي.

لقطة لمشاهد الطبيعة وجداول المياه التي تبين عظمة الخالق عز وجل في الفيلم

 

“أيمكنك فعل هذا يا إلهي؟”.. مُناجاة روحانية

تتميز أفلام “تيرانس ماليك” بصبغتها الفلسفية وبحثها العميق في دروب النفس البشرية، ورؤيتها وتتبعها للمصير الإنساني، وفي هذا الفيلم تتضح تلك اللمسات بصورة كبيرة، وبأسلوب شاعري عذب يدخل إلى قلب المتفرج دون استئذان.

نرى “فرانز” أثناء قضائه فترة التدريب العسكري، أو بعد ذلك في السجن يتبادل الرسائل مع زوجته “فاني”، كل منهما يُلقي الرسالة على الآخر بصوته، بمصاحبة موسيقى الموسيقار الأمريكي “جيمس نيوتون هوارد” بحسّها الكلاسيكي، لكن ذروة هذا الجمال نصل إليها حينما تبدأ رسائل المناجاة التي يبعثها “فرانز” أو “فاني” إلى الله، لتصبح الموسيقى أكثر قوة وأشد تأثيرا، وتبعث على الرهبة بصورة تقشعر لها الأبدان من فرط عذوبتها.

في أحد المشاهد نرى “فاني” وهي تُخبر “فرانز” قائلة له “ربما صلواتنا لا تُستجاب، لو كنا مخلصين لله سيكون مخلصا لنا”، ثم تقطع الكاميرا على عدة مشاهد من الطبيعة كالجبال وجداول الماء وغيرها من المشاهد التي تصور عظمة الخالق عز وجل.

وفي مشهد آخر نرى “فرانز” وهو يتوجه بالسؤال إلى الله قائلا “أيمكنك فعل هذا يا إلهي؟ تريدنا أن نحظى بالسلام والسعادة، وليس جلب المعاناة لأنفسنا، علينا أن ندافع عنك يا الله”.

ومن هذا النسيج المتبادل بين “فرانز” وفاني” من جهة، أو بين أحدهما وبين الله من جهة أخرى؛ تنشأ شاعرية الفيلم التي تستمر طوال الأحداث، ولا نشعر بفقدان مذاقها حتى مع تحوّل دفة السرد إلى الميلودراما، بل تتزايد هذه اللمسة الشاعرية طرديا مع تقدم الأحداث وتدفقها.

فرانز وسط الجنود ممتعض من مشاهد القتل والدمار

 

رفض الانسياق مع القطيع.. صراع داخلي وآخر خارجي

يُعاني “فرانز” صراعا داخليا شرسا يسعى لمواجهته وحيدا، فهل يقبل سلطة “هتلر” ويقسم بالولاء له، أم يستمر في رفضه لما يحدث حوله؟

ثمة معضلة تُمسك بتلابيب روحه لا يجد فكاكا منها، نفسه التي تأبى الانسياق وراء القطيع ترفض التسليم، وبالتالي تتضح معالم الصراع الدرامي بمستواه الداخلي أثناء فترة التدريب العسكري التي خاضها “فرانز” بعد احتلال ألمانيا النازية للنمسا، تُعرض عليه مشاهد تبرز القتل والتدمير التي قامت بها القوات النازية، فلا يسع “فرانز” سوى التجهم وإبعاد وجهه عن الشاشة، وهنا نصل لبداية أزمة “فرانز”، ألا وهي رفضه للقتال وإصراره على أن لا تتلوث يداه بدماء الأبرياء.

يرصد الفيلم هذه النقطة بحساسية شديدة، ويدفعنا للتساؤل والتفكير فيما فعله “فرانز”، وهل رفضه حلف اليمين لـ”هتلر” يُعتبر خيانة؟

ثم ينطلق السيناريو في استعراض الصراع بمستواه الخارجي، من خلال المشاهد التي تُبرز تبدل العلاقة وتغيرها بين “فرانز” وأهل القرية، حيث نرى جيران “فرانز” يعاملونه بشكل يفتقد للياقة، فيتعمدون إيذاءه هو وزوجته والتعرض لهم بسوء اللفظ ونعته بالخائن من ناحية، وعبر تعقد العلاقة بينه وبين المؤسسة النازية ومعاناته ضدها من ناحية أخرى، ليبرز الصدام بين الفرد والسلطة، ومجابهة كل منهما للآخر، وبالتالي يتكامل الصراع الدرامي بمستواه الداخلي والخارجي، مع توالي السرد، بحيث تصبح معاناة “فرانز” الداخلية ما هي إلا تعبير عن الواقع الخارجي.

القاضي العسكري الممثل السويسري “برونو جانز” الذي يحاول إقناع “فرانز” بالتراجع عن موقفه من أداء يمين الولاء لهتر

 

تقلب الشعوب في الأزمات.. غربة تدعو إلى التقوقع على الذات

يرصد السيناريو تبدل حال الشعوب وقت الأزمات وتعاملهم مع بعضهم، والأهم تعاملهم مع المختلف عنهم، ففي أحد المشاهد نرى “فرانز” أثناء حديثه مع عمدة القرية يحاول نصيحته بقبول الوضع كما هو، وأمام إصرار “فرانز” ينفعل العمدة قائلا له “يا خائن”.

وفي مشهد آخر نرى “فرانز” يقف أمام تاجر متجول يعرض عليه لوحة فنية مسروقة من أحد المتاحف، ينظر للوحة بازدراء بعد إدراكه تفشي الجريمة، وتبدل حال المجتمع بعد صعود النازية.

فالتاريخ يُخبرنا عن ما جرى بعد وصول النازيين للحكم، وما جرى خلال تلك الفترة من تكميم متعمد للأفواه المعارضة لـ”هتلر”، والاعتماد الكامل على حشد الجماهير من أجل قضية ليست عادلة بكل تأكيد، وبالتالي تبدلت معالم المجتمع بصورة مخيفة.

هذا ما عبر عنه السيناريو، إذ نرى في أحد المشاهد “فرانز” وهو يسأل زوجته “ما الذي جرى لبلادنا؟”، كما نرى مشاهد عدة لهتاف أهل القرية لهتلر، ونبذهم لـ”فرانز” وأسرته بعد تضامنه الإنساني مع ما يجري في العالم جراء هذه السياسة، مما يزيد شعور “فرانز” بغربته الداخلية عن ما حوله بشكل يدفعه للتقوقع داخل نفسه.

صورة تجمع فرانز مع القِسَ الذي يحاول إقناعه بالخدمة في قوات هتلر، في حين فرانز يرفض

 

شخصية “فرانز”.. عناد المسيح المُخلّص

رسم السيناريو شخصية “فرانز” بأسلوب لا يخلو من عذوبة تتماهى مع أسلوب الفيلم، إذ تتميز الشخصية برهافة وحسّ إنساني ولمسة إيمانية عميقة، فهو يخدم في الكنيسة ويؤدي صلواته على الدوام، لكن حينما تتعارض الأجواء العامة مع فلسفته الدينية يُصاب بالحيرة، ويسعى للمرور منها مرور الكرام، لكن تلك الحيرة تستولي على نفسه، وتتحول لسلسلة متصلة من العذابات التي لا تنتهي، وتدفعه للتساؤل عن مصيره رغم إدراكه حتميته ونهايته المتوقعة.

يسأله أحد زملائه في السجن عن ماهية موقفه المناهض للحرب، ويقول له هل تظن أنك المسيح؟ وهنا ندرك سمات شخصية “فرانز”، فهو يرى نفسه وكأنه المخلص من كل ما يجرى من دمار حوله، وبالتالي رحلة عذابه التي يُعاني خلالها ما هي إلا رحلة خلاصه الشخصي، وكأن روح “فرانز” قربان يُضحى به من أجل وقف سيل الدماء المنهمر دون توقف.

شخصية كهذه لا بد أن تتميز بالعناد والتمسك برأيها والثبات على موقفها حتى وإن كانت عواقب هذا الموقف انتفاء الحياة من بين يدي صاحبها، فقد جعل السيناريو الشخصية تتسم بالعناد، وكلما ازدادت عذاباته ازداد إصراره على موقفه، حتى توسلات زوجته بأن يوقّع على ورقة التخلي عن موقفه تُقابل بالرفض من جانبه.

يستمر هذا الرفض حتى بعد محاولات القِسّ دفعه للتخلي عنه، وأيضا بعد مثوله بين يدي القاضي العسكري (الممثل السويسري برونو جانز) المتعاطف معه، يرفض العدول عن قراره، فدافعه للمضي في قراره ما هو إلا رغبة داخلية للتناسق مع ذاته الرافضة لمبدأ الحرب، والتي ترى في إراقة الدماء جرما وخطيئة لا تُغتفر، ولا يقدر هو على ارتكابها أو التسامح معها.

فرانز يرفض أداء يمين الولاء لهتلر ويرفض تأدية الخدمة العسكرية لكونها منافية لأفكاره الدينية عن حرمة القتل

 

عاقبة الرفض المأساوية.. إبداع التمثيل وشاعرية التصوير

يرى الناقد والمُنظّر الفرنسي “رولان بارت” “أن الفن لا شيء سوى الكمال في تقليد الواقع، وهذا يدفعنا للنظر إلى فيلمنا باعتباره نموذجا للكمال الفني في تصوير الواقع، وتعبيرا عن معاناة الإنسان وحيرته، وذلك عبر أسلوب “تيرانس ماليك” الذي يتسم بالحساسية الشديدة، حيث يتوالد الشعر من ثنايا حركة الكاميرا التي تنتقل بحرية حين تقترب وتبتعد وتعلو وتهبط.

كل هذه الحركات لا تجري بشكل عشوائي، بل وفق رؤية ذاتية تنبع من الداخل، ويتكامل نسيجها بفعل المونتاج وقطعاته السلسة، وتوليفه للقطات بأسلوب شديد الجاذبية والعذوبة ويخلو من منطق الدراما رغم شاعرية البناء.

تمتد العذوبة والشاعرية اللتان غلفتا إطار الفيلم إلى الأداء التمثيلي والإخراج، فقد اتسم أداء “أوغست ديل” في دور (فرانز) بالتلقائية والقدرة العالية على تقمص الشخصية وإتقانها إلى حد التلبس، ففي مشهد وصول “فرانز” إلى صالة الإعدام حيث ينتظره قدره؛ نراه يقف بوجه مُتجهم يميل لونه نحو الشحوب، حيث يرتعش جسده ولا يقوى على التحكم فيه، وعندما يلج إلى غرفة المقصلة تقطع الكاميرا على مشهد “فرانز” وهو يقود دراجة بخارية، وكأنه انتقل للعالم الآخر، فطبيعة الفيلم ذات الميل الشاعري تأبى أن تجرح عيون المتفرج بمشهد قاسٍ كالموت، وتماهيا مع رفض “فرانز” لإسالة الدماء.

قد يبدو الفيلم وكأنه ينتمي لأفلام الحروب، لكننا لا نرى أي مشاهد للمعارك -اللهم إلا بعض المشاهد الأرشيفية-، فقط أثرها هو ما يطفو على سطح الأحداث، وبالتالي لا يتخلى السرد عن أجوائه الشاعرية، ويصبح الفيلم من أجمل أفلام مخرجه وأنضجها، نظرا لجمعها بين الدراما التقليدية من ناحية، وانسيابية البناء الشعري البصري من ناحية أخرى، والأهم قدرته على طرح التساؤلات العميقة عن مصير الإنسان وحيرته وبحثه عن الخلاص في ظل عالم لا يُدرك مغزى الروح.