“ربيع آخر”.. عن الجُدري الذي حصد الأرواح وأرعب البشر

قيس قاسم

يعيد الوثائقي الصربي “ربيع آخر” (Another Spring) سرد الوقائع التاريخية التي صاحبت ظهور وباء “الجُدري” قبل نصف قرن في يوغسلافيا.

يتتبع الفيلم تلك الوقائع من خلال شهادة طبيب عاش التجربة وكتب عنها، واليوم يسهم في سرد تفاصيلها الدقيقة عبر مشاركته كشاهد وراوٍ بارع يسرد تفاصيل التجربة بصوته وبأسلوبه الشاعري المصاحب للتسجيلات الفيلمية القديمة التي تضفي على المنجز السينمائي عمقا ومصداقية، وتجعل منه مادة تاريخية وتعليمية عن الأوبئة، وكيف أسهم العلماء والأطباء في الحد من انتشارها.

وفي الوقت نفسه يقدم نموذجا للفيلم الوثائقي الأرشيفي القادر على خلق حالة من التشويق والفضول عند المُشاهد رغم ثقل مادته العلمية، وقساوة بعض مشاهَدِه الملازمة لوباء خطير أشاع رعبا في نفوس البشرية خلال مراحل تاريخية طويلة حصد خلالها أرواح ملايين الأشخاص.

 

من يوغسلافيا إلى الهند.. مغامرة الطبيب الشخصية

يبدأ الوثائقي الصربي القطري الإنتاج -والمعروض لأهميته ضمن مسابقة قسم “الآتي” في الدورة الـ56 من مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي- بصوت الطبيب البروفيسور “زوران رادوفانوفيتش”، وهو الاسم اللامع في مكافحة الأوبئة، والذي كان له الدور الأكبر في الحد من انتشار الجدري في يوغسلافيا.

يسرد زوران ذكرياته عن رحلته الشخصية التي قام بها إلى الهند عام 1969، أي قبل ثلاث سنوات من انتشار الوباء في بلده.

لقد أراد في مغامرته قطع الطريق بين يوغسلافيا والهند بسيارة صغيرة، وتطلب منه ذلك أخذ جرعات من لقاحات ضد الأوبئة المنتشرة وقتها في الهند، ومن بينها لقاح “الجُدري”.

ينقل الوثائقي جانبا من مشاهداته للفرق الطبية الهندية وهي تقوم بزيارة البيوت التي يُشتبه في إصابة أهلها بأوبئة معدية، ثم يعود في المقطع الثاني لعرض مَشاهِد مصورة قصيرة عن مراسم الحج في مكة.

 

حجاج يوغسلاف.. من مكة إلى بغداد ليحملوا معهم الهدايا والجدري

الربط بين المشهدين يفسره التعليق المصاحب لهما، والذي يشير فيه الراوي إلى حدث جانبي شديد الصلة بانتشار الوباء. فعلى غير المخطط قررت مجموعة من الحجاج التوقف في بغداد خلال رحلة العودة، وزيارة بعض جوامعها، وأيضا التسوق في أشهر أسواقها.

التشخيص المختبري يساعد على كشف الفيروس المسبب للوباء

 

من بين الحجاج رجل اسمه إبراهيم هوتي، الذي دخل السوق واشترى منه هدايا لأهله ومعارفه، وبعدها واصل الباص رحلته ووصل الحجاج إلى يوغسلافيا في أوائل شهر مارس/ آذار من عام 1972.

وفي اليوم التالي شعر الرجل بوعكة صحية صاحبها ارتفاع في درجة الحرارة، وقد رجّح البروفيسور زوران ومن بعده الهيئات الطبية أن إبراهيم مصاب بمرض الجُدري في بغداد، ونقله معه إلى يوغسلافيا دون أن يدري، لأن الجهات الطبية في العراق لم تعلن رسميا عن انتشار الوباء فيها.

في كوسوفو.. أول وفاة تدق ناقوس الخطر

يتابع البروفيسور ومعه الوثائقي حركة إبراهيم الذي لم يأبه في بادِئ الأمر لمرضه الذي ظنه مجرد حمى مؤقتة تزول بأخذ أقراص مخفضة لها، فقد خرج من منزله وزار ثلاث مناطق في كوسوفو، قابل خلالها مجموعة من الأصدقاء والمعارف، وكان من بينهم شخص اسمه “لطيف”.

وبعد أيام ظهرت على “لطيف” الأعراض نفسها التي ظهرت على صديقه من قبل، وعلى أثرها قرر زيارة المشفى المحلي، وهناك أعطاه الطبيب جرعة من مضاد حيوي (بنسلين)، لكن وضعه استمر بالتدهور. وفي غضون أيام بدأت البثور الحمراء تظهر على جلده.

حماية الأطقم الطبية من عدوى المرض

 

لقد استلزمت حالته وغموض أعراضها نقله إلى العاصمة بلغراد، وهناك في أحد مشافيها شخّص الأطباء حالته خطأ على أنها حساسية ضد “البنسلين”، لكن البثور سرعان ما انتشرت في كل جسمه، وصاحبها التهابات حادة.

وخلال الفترة التي كان فيها يرقد في المستشفى، اقترب منه طفل كان يعاني من مرض نقص النمو. لم يطل الأمر حتى ظهرت نفس الأعراض على الطفل، وبعد يومين من تدهور الحالة الصحية لـ”لطيف” توفي. سُجلت وفاته لاحقا كأول وفاة بسبب وباء الجُدري الذي شُخص بعد عدة أيام على انتشاره في كوسوفو، ولم تُتخذ الإجراءات العاجلة للحد من انتشاره إلا بعد وصول أطباء ومشرفين صحيين من العاصمة.

طوارئ صحية.. بيروقراطية تداركها القطاع الصحي لاحقا

يُثبت صانع الوثائقي “ميلادين كوفاتشَفيتش” موقفا نقديا من بيروقراطية التعامل مع الوباء، والتأخر في اتخاذ الإجراءات الوقائية الضرورية من قبل الجهات المركزية في العاصمة بلغراد. لكنه في الوقت نفسه يُثبّت موضوعيا الدور الذي لعبه الأطباء والخبراء المختصون بعلم الأوبئة في اتخاذ قرارات حاسمة ساعدت على تقليل أعداد الضحايا.

بعد أن شخص أحد الأطباء الوباء وأكدت المختبرات صحة تشخيصه، أصدرت الدوائر الطبية في كوسوفو أمرا بجرد أسماء كل الأشخاص الذين التقى بهم “لطيف” قبل وفاته. وقد ساعد هذا الإجراء على تنظيم إجراءات الحجر الصحي التي أُلزمت بها كل المستشفيات، ومَنعت طواقمها الطبية الخروج عليها.

ومع كل الحيطة، أخذت أخبار وفاة أشخاص جدد بالوباء تنتشر حتى وصلت العاصمة، مما دفع السلطات إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في عموم البلد.

دور بطولي.. الطواقم الطبية جيش الدفاع الأول

ينتقل الوثائقي إلى مرحلة تالية من ربيع عام 1972، ليُظهر فيها الدور الكبير والجهود العظيمة التي بذلتها الطواقم الطبية خلال فترة انتشار الوباء، كما ينقل دور وسائل الإعلام في نشر التوعية الصحية ونقل الأخبار بحرص من خلال حصر المقابلات الصحفية بالمسؤولين الرسميين والأطباء المختصين.

ينقل البروفيسور زوران بصوته تجربته الشخصية ودوره الكبير في معالجة الحالات المرضية، وذلك بفضل أخذ لقاح ضد الجُدري خلال رحلته إلى الهند، فقد سمح له ذلك بالتحرك بين المشافي والاقتراب من المرضى، وتطلب منه الواجب العمل ليل نهار.

وفي مقطع مصور يذكر أنه لم يقم بزيارة عائلته خلال ثلاثة أسابيع تقريبا إلا مرة واحدة، وفي هذه المرة لم يدخل خلالها بيتهم، بل اكتفى بالتلويح لأفراد عائلته بيده وهو داخل سيارته خوفا على حياتهم.

في الهند كان الوباء منتشرا قبل وصوله إلى بقية العالم

 

ينقل الفيلم تسجيلات تظهر أيضا الدور الذي لعبته الطواقم الطبية في توزيع أُولى اللقاحات الواصلة إليها، وتنظيم عملية تقديمها للأشخاص الأكثر حاجة إليها. وفي انتظار وصول كميات كافية من اللقاح قامت السلطات الطبية مع أعداد كبيرة من المتطوعين بطبع وتوزيع نشرات صحية تتضمن معلومات عن أساليب الوقاية من المرض في كل مناطق البلاد.

كما يسجل الوثائقي حملات التعقيم الكبيرة والسريعة والإجراءات الصارمة داخل المراكز الصحية، وذلك منعا لتفشي الوباء بين الكادر الطبي.

ولتنظيم توزيع اللقاحات وضع الخبراءُ الأطفالَ والنساء الحوامل وطلبة المدارس والجامعات بين أوائل الحاصلين عليه.

ينقل الوثائقي -الذي يشجعك على متابعة تفاصيله الدقيقة المنقولة بلغة ساحرة ملازِمة لصورة بصرية معبرة- بعض مظاهر الفوضى الحاصلة نتيجة تدافع الناس، وبروز أنانيات تحاول خرق القانون وتجاوز الأولويات. لكن العمل في عمومه كان مدعاة لتفاخر الأجهزة الطبية التي بذلت جهودا خيالية لمقاومة الوباء ومنعه من حصد الأرواح.

يوغسلافيا.. البلد الأوروبي الأول والأخير الذي عرف الجُدري

كما في كل وباء، يأخذ موضوع اللقاحات حيزا كبيرا منها، وهذا حاصل في التجربة اليوغسلافية التي لم يكن لديها مخزون كاف منها، ولهذا طلبت المساعدة من دول أخرى.

دور عظيم للأطباء في وقف تمدد الوباء خارج يوغسلافيا

 

وينقل الوثائقي لهفة وشوق الطواقم الطبية لوصول الشحنات الطبية عبر الرحلات الجوية السريعة، كما يسجل الدور الأممي المقدم من الدول لمساعدة يوغسلافيا على تجاوز محنتها. ومن بين التسجيلات اللافتة تلك التي يظهر فيها أحد الوفود الطبية الأمريكية التي وصلت إلى بلغراد، وكانت تحمل معها جهاز لقاح جديد يعتمد على الغرز الإبري الآلي. فقد ساعد وصوله على تلقيح أعداد كبيرة من الناس خلال ساعات قليلة، فيما كانت الوسائل القديمة التقليدية يدوية وتأخذ زمنا أطول.

كما تُثبت التسجيلات الدور الذي لعبته السلطات اليوغسلافية في تنبيه جيرانها من الدول منعا لانتقال الوباء إليها، الأمر الذي جعل منها تاريخيا البلد الأخير من القارة الأوروبية الذي عرف وباء الجُدري.

العراق.. لماذا تكتّم على انتشار الوباء؟

في السياق نفسه يطرح الراوي سؤالا ملحا: لماذا لم تُخبر السلطات الصحية العراقية حينها عن وجود الوباء على أراضيها؟

يحيل البروفيسور السبب إلى أن الكثير من الدول في ذلك الوقت -وليس العراق وحده- كانت تخشى من الإعلان عن تفشي الوباء على أراضيها، وذلك خوفا من غلق حدودها، وبالتالي تعرض اقتصادها للخطر. لكنه ينبه إلى خطورة ذلك التفكير، لأن مقاومة أي وباء يتطلب تضامنا من كل دول العالم لمواجهته، وهذا ما أثبتته التجربة اليوغسلافية التي تذكّرنا اليوم بتجربة وباء كورونا، وبروز الحاجة إلى وعي وإحساس بضرورة مساعدة الآخرين، وبشكل خاص البلدان الفقيرة وغير القادرة على توفير اللقاحات الكافية، وأن الأنانية لن تفيد أحدا، فما ينتشر هناك سيصل إليك لاحقا، وعلى هذا الأساس يجب أن تتضافر الجهود كلها للوقوف في وجه الأوبئة الخطيرة.

من اللافت على المستوى السينمائي أن الوباء لم يمنع صُناع “ربيع آخر” من إنجاز فيلمهم رغم مرور نصف قرن على ظهوره، ولم يعبؤوا لوجود فيلم روائي يوغسلافي آخر من إخراج “غوران ماركوفيتش” عُرض بعد عشر سنوات تقريبا من انتشار الجائحة وحمل عنوانه نفس اسم مرض الجُدري باللاتينية “فاريولا فيرا” (Variola Vera) (1982)، والذي مال إلى تضخيم الحدث وجعله أقرب إلى أفلام الرعب والتشويق، على عكس فيلم “ربيع آخر” الذي تمتع بموضوعية لافتة، مع احتفاظه في الوقت نفسه بكل العناصر الجمالية المطلوبة لإنتاج فيلم أرشيفي غاية في الروعة.