“رحلة إلى مناطق خطرة”.. عن العراق الفاتن الذي يُمكن أن يقتلك

محمد موسى

 

يجلس البريطاني عدنان سرور مقابل قيادي عراقي من جماعة مقتدى الصدر في مقهى عادي بمدينة البصرة العراقية. لم يسبق للشخصين أن التقيا من قبل، لكنهما كانا على جبهتين متصارعتين قبل 15 عاما، وكان يُمكن أن يكون لقاؤهما حينذاك دمويا للغاية، إذ إن البريطاني -وهو من أصول آسيوية مسلمة- كان أحد الجنود الذين خدموا مع القوات البريطانية التي غزت العراق في حرب 2003، ودخلت قواته معارك شرسة للغاية مع جماعة مقتدى الصدر في مدينة البصرة جنوب العراق، والتي فقد فيها الجندي البريطاني زملاء له سيتذكرهم بالأسماء.

بيد أن سرور لم يأت إلى العراق لتصفية حسابات قديمة، فهو سيقود التحقيق الذي ينقسم إلى حلقتين ضمن البرنامج التلفزيوني البريطاني الحيوي كثيرا “رحلة إلى مناطق خطرة”، والذي عرضته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

يجمع البرنامج البريطاني بين فئة برامج السفر السياحية التلفزيونية الشعبية، والتحقيق في الظروف والقضايا التاريخية والآنية المعقدة للمناطق الإشكاليّة والصعبة التي يزورها. لذلك سيكون العراق بلدا مثاليا تماما، حيث إن البلد العربي لا يزال يجرّ تركة العنف الثقيلة، والانفجار فيه قد يحصل في أيّ لحظة، كما يضم العراق واحدة من أعرق الحضارات في التاريخ، ويُمكن أن يكون وجهة سياحية لملايين من حول العالم.

 

البداية من الموصل.. جثث وأنفاق وآثار

لا تبدأ رحلة الجندي السابق في مدينة البصرة بل تنتهي بها، إذ تنطلق الرحلة من الموصل؛ المدينة التي عندما يصلها البرنامج يتعثر فريقه حرفيا بجثث مدنيين ومقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية، وهي الجثث التي ما زالت تتكشف تحت أنقاضها وبعد تحريرها من سيطرة التنظيم الإرهابي.

فأثناء مرافقته لعائلة موصلية عادت للتوّ إلى بيتها الذي هجرته بعد دخول التنظيم، يتعثر فريق البرنامج بجثث ستة من مقاتليه ترقد تحت البناء المهدم.

يستغل البرنامج الأمان الموجود في الموصل بعد أشهر من تحريرها، فيتنقل مقدمه بين أحيائها على دراجة هوائية ليقابل أناسا عاديين في الشوارع، منهم شاب عراقي من المدينة كان في زيارة لها من مهجره الأمريكي، لكنه عَلِقَ في المدينة لعامين أثناء سيطرة التنظيم عليها، وكان قريبا من الموت في مواقع عديدة.

وفي مفارقة ذات دلالات مهمة، يعرض البرنامج كيف أن بعض الأنفاق السريّة التي حفرها التنظيم في الموصل يقود إلى اكتشافات أثرية مذهلة، منها واحد يركز عليه البرنامج البريطاني، وذلك لتمثال ضخم ربما لم يلتفت إليه التنظيم أثناء الحفر، أو أنهم تركوه خوفا من أن يقود تفجيره لانهيار النفق بأكمله، وهو الذي دمّر الكثير من اللقى الأثرية التي لا تُعوض أثناء سيطرته على المدينة العراقية.

تدخل كاميرا البرنامج إلى واحد من تلك الأنفاق برفقة عراقيين مختصين بالآثار، حيث يغلب الصمت على الواقفين أمام هذه التحفة التي تبدو كتذكير من الماضي البعيد بأن المدن العريقة الحيّة لن تموت أو تُهزم.

صورة تجمع عدنان سرور، وهو أحد الجنود الذين خدموا مع القوات البريطانية التي غزت العراق في حرب 2003 مع أحد الجنود العراقيين

 

كردستان.. كردية تحارب داعش بالغناء

بعد الموصل يتجه البرنامج إلى منطقة كردستان العراق، والتي تعيش ظروفا أمنية ممتازة منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث يبحث المقدم في الصناعة النفطية الوليدة في المنطقة، والتي تُنبئ بمستقل اقتصادي مزدهر هناك.

لا تبعد إحدى المنشآت النفطية إلا أميالا قليلة عن حدود كردستان مع ما تبقى من مناطق العراق، وكانت أصوات المعارك مع تنظيم الدولة يصل صداها إلى العاملين في تلك المنشآت، بيد أن العمل لم يتوقف فيها.

يقابل البرنامج أكرادا متنوعين منهم جماعة “جينتس” التي اختار أفرادها من الرجال المتعلمين في المدينة أن يتحدوا انسداد الأفق والظروف الصعبة من حولهم بارتداء أجمل الأزياء الرجالية والاعتناء بلحاهم التي أطلقوها.

كما يقابل البرنامج مغنّية كردية تحولت إلى واحدة من رموز الحرب على تنظيم الدولة بعد الأغنيات الحماسية التي غنتها ضد التنظيم، والتي جعلت التنظيم يهدر دمها ويصدر بيانات تحرض على قتلها.

البريطاني عدنان سرور يعود إلى العراق بعد 15 عاما من حرب 2003 ليصوّر حلقات هناك لبرنامجه “رحلة إلى مناطق خطرة”

 

بغداد.. “في قبضة القانون”

ملامح الهدوء الأمني ستكون واضحة فيما تبقى في مناطق العراق، خاصة بغداد التي كانت ولأكثر من عقد من الزمان مسرحا لعنف غير مسبوق.

يركز البرنامج في بغداد على مرشحة مستقلة للبرلمان العراقي، فيرافقها بجولاتها الانتخابية التي تقودها إلى منطقة عشائر قريبة من بغداد. تنتمي هذه المرشحة إلى هوامش السياسة العراقية التي تهمين عليها الأحزاب الإسلامية، لكن هذا لا يكون عائقا أمام محاولاتها تمثيل فئات تبدو مُغيبة في الحياة العراقية العامة. في النهاية سيخبرنا البرنامج أن المرشحة فشلت في الحصول على مقعد في البرلمان العراقي في انتخابات دورته الأخيرة.

يحصل البرنامج البريطاني على فرصة نادرة لحضور كواليس تصوير البرنامج التلفزيوني العراقي الجدليّ “في قبضة القانون”، والذي يعرض على قناة العراقية ويعد من أكثر البرنامج التي يتابعها العراقيون شعبية.

يصور البرنامج العراقي سجناء من تنظيم الدولة أو متهمين بالإرهاب، ويذهب معهم أحيانا إلى المواقع التي نفذوا فيها جرائمهم.

يجادل سرور مقدم البرنامج العراقي عن انسجام خط برنامجه مع القوانين والأخلاقيات الإعلامية، أو إذا كان هذا من شأنه أن يزيد من الحساسيات الطائفية في البلد.

سيقطع عمليات تصوير البرنامج العراقي في منطقة قريبة من بغداد إطلاق نار عنيف أجبر الجميع -ومنهم الفريق البريطاني- على البحث عن ملجأ، وذلك في إشارة جديدة على هشاشة الوضع الأمني في العراق.

البريطاني عدنان سرور يزور مدينتي كربلاء والنجف خلال جولته إلى العراق التي عاد إليها بعد 15 عاما كصحفي لا كجندي

 

كربلاء والنجف.. حالات غريبة ومسلّية

ويزور البرنامج مدينتي كربلاء والنجف اللتين انتعشتا كثيرا بفضل الزيارات الدينية (14 مليونا في شهر واحد في كربلاء جعلتها المدينة الأولى في العالم التي تجذب هذا العدد من الزوار الدينيين).

ويبحث سرور عن حالات غريبة ومسلّية في زيارته لمدن عراقية مقدسة، فيقابل دفّانا عراقيا عرف شهرة في العراق بسبب نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي، والطريقة المرحة التي يروج فيها لعمله.

وفي مدينة بابل يقابل المقدم البريطاني ناشطة عراقية ما زالت في المدرسة الإعدادية، لكنها صنعت لنفسها اسما لامعا بفضل نقدها المثقف كثيرا لانهيار النظم الثقافية في مدينتها، وتواجه هذه الفتاة الصغيرة ضغوطا من كل مكان في المدينة، ومنها من طالباتٍ مثلها لأنها لا ترتدي الحجاب.

عدنان سرور يزور مدينة السليمانية التي تحاصرها المياه الآسنة التي قتلت أراض زراعية شاسعة

 

ترحّم على أيام صدام

لا يكتفي البرنامج البريطاني برحلة سياحية ترويجية للعراق، بل تراه يحاول في مواضع عديدة منه أن يذهب إلى ما وراء الظاهرة العامة ويحللها ويشرح ظروفها وتعقيداتها، كما يسلط الأضواء على ناشطين عراقيين مثلما كان الحال مع ناشط بيئي كردي كرّس حياته للتنبيه على ما يحصل في جبال ومناطق كردستان الفاتنة من تدمير ممنهج، فيأخذ هذا الناشط البرنامج إلى أنهار كردستان الجميلة التي تصبّ فيها مجاري المدن القريبة.

والحال سيكون نفسه على أطراف مدينة السليمانية التي تحاصرها المياه الآسنة، والتي قتلت أراض زراعية شاسعة، الأمر الذي جعل أحد المزارعين الأكراد يترحم على أيام صدام حسين عندما كان النظام مستتبا حسب قوله.

وسينتظر الإهمال سرور في مدينة البصرة حيث خدم هناك لسنوات، فما كان يُسمى بندقية الشرق هي في حال يُحزن القلب حقا، رغم أنها ترقد على واحدة من أهم ثروات العراق النفطية.

ويجتهد البرنامج أن يفسح المجال لعراقيين متعددين للحديث عمّا يجري في بلدهم، وإن كان جنح لاختيار شخصيات معروفة بعينها، ولم يحاول أن يكتشف بنفسه عراقيين لم يصلوا كثيرا إلى الاهتمام الشعبي العام.

عدنان سرور يُعتبر موهبة تلفزيونية كبيرة بحضوره الحيوي والطاقة الكبيرة التي يملكها وسرعة بديهته

 

الأهوار.. تعاطف شديد

يحفل البرنامج بالمشاهد المؤثرة كثيرا، والتي لن تشذّ عن الإيقاع التلفزيوني السريع له، مثل المَشاهد التي صورها لأحد معاهد الصمّ والبكم الأهلية في مدينة الفلوجة العراقية، فهذا المعهد أسسه زوجان عراقيان على نفقتهما الخاصة.

يقابل سرور هناك أطفالا فقدوا النطق بعد رؤيتهم أهلهم يُقتلون على أيدي تنظيم الدولة، منهم واحد اسمه محمد كان يريد أن يتكلم بلغة الإشارة للبرنامج عن حياته، ورافقته كاميرا البرنامج إلى السيارة التي ستنقله إلى بيت عمته حيث يعيش هناك بعد مقتل جميع أهله.

كما تنصبغ زيارة سرور للأهوار العراقية بعاطفية شديدة، بسبب جمال المنطقة وكرم أهلها الذين عادوا إلى بيوتهم بعد عودة المياه إلى الأهوار، والتي كان نظام صدام حسين قد جففها في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

ولعل مفاجأة البرنامج هو المقدم عدنان سرور نفسه، فهذا الجندي السابق هو موهبة تلفزيونية كبيرة بحضوره الحيوي والطاقة الكبيرة التي يملكها وسرعة بديهته.

يعترف سرور في مقدمة برنامجه أن خدمته في العراق جعلته يشغف بالبلد، وأنه أراد معرفة المزيد عنه رغم مرارة تجربة الحرب التي خاضها مع القوات البريطانية في البصرة، ويكشف سرور أن افتتانه بالعراق غير مفهوم له نفسه شخصيا، وشبّه العراق بالشيء الجميل الفاتن الذي تنجذب له بسرعة، بيد أن هذا “الشيء” يُمكن أن يقتلك في أيّ لحظة.