رسالة إلى قاتل متسلسل

قيس قاسم

يوثق فيلم قاتل متسلسل قضية العنصرية من خلال قصة فتى لبناني بالسويد.

في أواخر عام 2006 وفي مدينة مالمو السويدية أَطلقَ رجل مجهول على صبي مهاجر اسمه كمال مصري، خمسة أعيرة نارية من مسدسه، واحدة منها استقرت في رأسه. لم يمت، فقد أنقذ الأطباء حياته بأعجوبة، لكن أشياء كثيرة تغيرت داخله وأصابت شظايا الحادث عائلته وشتتها. بعد سنوات ستُعلن الشرطة عن إلقائها القبض على رجل سويدي اعترف بقتله عدة أجانب بدوافع عنصرية، ويُعتقد أنه وراء محاولة قتل الصبي اللبناني. أخت الصبي كمال؛ المخرجة “منال مصري” قررت إعادة الاعتبار لأخيها الضحية عبر كتابة رسائل إلى الجاني في سجنه تسأله فيها عن دوافع فعلته؟ وتنتظر منه الاعتراف صراحة بمحاولة قتل أخيها، كما اعترف عن بقية جرائمة، لينهي فصلاً طويلاً من العذاب عاشته هي، وكل عائلتها.

تسجيلها لمراسلاتها معه سينمائياً وما جرى لأخيها طيلة ما يقرب عقداً من الزمن، أثمر فيلماً وثائقياً رائعاً، يمكن اعتباره، دون تردد، واحداً من أهم الأفلام السويدية، التي تناولت موضوع العنصرية، لعدة أسباب من بين أكثرها مدعاة للإشارة؛ توازنها الدقيق بين الشخصي والعام، وقدرتها على جعل الشخصي عاماً، بحيث يشعر متلقيه بأنه معني به، يتابعه بتجرد عن راوي القصة نفسه، وربما لهذا السبب يمكن وصف فيلم “رسالة إلى قاتل متسلسل” بأنه مبحث بصري في العنصرية مكتوب على ضوء تجربة شخصية، مدلولاتها ترتقي إلى مستوى التعميم، وعلى المستوى الفني يُحيلنا منجزها الطويل الأول لتأمل الفكرة التي تقول؛ من قصة صغيرة يمكن صنع رواية كبيرة، شرط توفر كاتبها على موهبة!. في حالة المخرجة اللبنانية الشابة، الفكرة تبدو مقبولة جداً، بل مطبقة في وثائقيها القليل التكلفة إنتاجياً، المشغول بعناية والمتنقل بين عدة ضفاف.

أولى ضفاف شواطئه؛ مدينة مالمو حيث استقرت العائلة اللبنانية وفيها ولد كمال، كما تقول لنا تسجيلات الفيديو الخاصة بها. قبل انتقالها لوصف طفولة أخيها، تركتنا نسمع صوته الداخلي ووصفه اللحظة التي دخلت الرصاصات جسده وهو في طريقه للّعب كرة القدم مع أقرانه، مصحوبة بتكوينات بصرية توحي كأنها؛ رأس إنسان مصور إشعاعياً. بعدها نقرأ على شاشة الحاسوب جمل من رسالة إلكترونية وجهتها المخرجة إلى العنصري القاتل والمتسبب بإصابة العشرات غيرهم من المهاجرين، أغلبيتهم من العرب والمسلمين، تسأله فيها تفاصيل ما جرى في 28 نوفمبر من عام 2006، يوم أطلق النار على صبي عمره ستة عشر عاماً؟ وكيف فكر وقتها؟ أسئلتها الواردة في رسائلها، ستحاصر القاتل العنصري وتفضح أفكاره، وتكشف في الوقت ذاته عن عناد لمعرفة الحقيقة وكشف جذور انتهاكه البشع المستند على فكر همجي يبيح للعنصري والنازي تدمير حياة الآخرين دون شعور بالذنب. أسئلة ملتاعة تحاذي تخوم موضوعات إشكالية، مثل؛ العنصرية السويدية، عمل أجهزة شرطتها، عزلة الضحية الغريب وكيف تؤثر خفة وسائل الإعلام سلباً على حياته يوم يصبح هدفاً لها! تعرف مخرجة موهوبة مثل “منال مصري” أنها لوحدها، وحتى مع عائلتها لا يمكنها تغطية كل تلك الموضوعات، فاستعانت بخبراء جريمة ومحامين وكتاب وبأصدقاء طفولة لتحيط مشروعها بكل ما يحتاجه، للخروج بالشكل الذي ظهر عليه واستحق الثناء. لم تستنكف من وجودها كمخرجة ومساهمة في عمل شخصي، لكنها كانت تقدر حجم المغامرة وارتهان نجاحها في الإبتعاد مسافة عن الأحكام النهائية، مع حرصها البقاء ضمن دائرة العائلة لإضفاء مزيد من المصداقية عليه ومنحه الديناميكية المطلوبة.

تحاول مخرجة الفيلم "منال مصري" وشقيقة المجنى عليه " كمال" أن تسلط الضوء على العنصرية من خلال قصة شقيقها .

طفولة أخيها كانت سعيدة، استقرارها انعكس على سلوكه كما جاءت في شهادات أصدقائه. أحب كرة القدم وحلم أن يكون لاعباً محترفاً ومشهوراً، مثله مثل ملايين الأطفال. لم يعرف عنه ميله للعنف ومع ذلك أحاطت وسائل الاعلام مباشرة، ودون تمحيص في المعطيات والحقائق الحادث، الذي تعرض له، بظلال شك حول طبيعته الجرمية واحتمال ارتباط الضحية بعصابات الجريمة المنظمة، مستبعدة تماماً وجود دوافع عنصرية وراءها. حتى الشرطة مالت إلى حصر أبعاده بالانتقامية. من الدلالات المهمة في الضفة الإعلامية تسريب الشك إلى أذهان متابعيها وحتى إلى أقرب المقربين منه. مثل والدته التي بدأت تتساءل عما إذا كان حقاً ولدها متورطاً في أعمال جرمية، أو أن سبب الحادث كما تقول الصحف؛ جاء كرد فعل انتقامي من صديق فتاة تركته وارتبطت بابنها؟ ربما من المرات القليلة سنقف عند ضفة الإعلام وخفته المؤثرة سلباً، في الرأي العام والمستخفة بالضحية، بخاصة حين يكون من أصول أجنبية، وهذا ما سيثبته الوثائقي بشكل رائع وبالتجربة المعاشة.

تحكي أختها كيف عُزل أخوها ومُنع أصدقاؤه من زيارته والسؤال عنه في أحلك مرحلة مر بها في حياته، خشية أهاليهم من أن يكون ما كتبته الصحف عنه صحيحاً. يأتي الموقف السلبي من الضحية؛ لا من البعيدين فحسب بل أحياناً يأتي من أقرب الناس إليه. بعد نجاته من الموت لاحقته أسئلة عائلته المتشككة بأسباب صمته وامتناعه الإعلان عن اسم الشخص، الذي أطلق عليه النار، مع أنه لا يعرفه حقاً ويجهل تماماً سبب تعرضه لعملية “الإعدام” كما ستصفها الجهات القضائية لاحقاً!

عن معنى فعل القتل، وما يتركه في نفوس الضحايا من ألم وحيرة ستتجلى كلها في مآلات العائلة. وصف الصدمة التي أصابتهم بالشلل بعد سماعهم بالحادث وبخاصة وقعه على والدته، ونقل تفاصيل ما شعرت به وقتها، يوصل الفكرة بقوة تعادل قوة عشرات الكتب وآلاف الصفحات. إيجاز مذهل لمعنى الشعور بالفقدان وإحساس الضحية بالانتهاك، لفعل مجهول الدوافع بالنسبة إليه؟. بعد مدة ستجد العائلة نفسها معزولة ومهددة بدون حماية. فلا الشرطة ولا دوائر الشؤون الاجتماعية كانت معنية بمخاوفها وشعورها بالانكفاء، الذي سيدفع الأم وولدها للعودة إلى بيروت وترك كل ما أسسوه هنا وراءهم. ذهبوا ليجربوا هجرة جديدة ويتركوا بقية العائلة في ضفتها السويدية مشتتة. سيدفع فعل الهجرة هرباً من مدينة مالمو إلى انفصال الزوجين. هل كان المجرم العنصري على دراية بكل تداعيات فعلته يوم قرر إطلاق النار على شاب مسالم؟ من ذلك السؤال جاءت حماستها للمضي في الكتابة إليه ومعرفة طريقة تفكيره. عند منتصف مسار الوثائقي سيتجلى سؤال العنصرية أكثر وتتبيّن ملامحه.

تلقى كمال خمس طلقات في جسده في اعتداء عنصري من " سويدي" عليه لكنه لم يمت، في ظل تباطؤ الشرطة في البحث عن الجاني .

من بين أخطر ما يتوصل إليه الوثائقي ويدعمه خبراء وكتاب اختصوا بالجريمة هو عادية ذاك العنصري. فالقاتل المتسلسل بيتر مانغس، لا يتميّز عن المواطن السويدي العادي، من حيث الشكل والتحركات، بل يكمن اختلافه وبشاعته فيما يضمره من حقد متستر، قادر على تحويله في أي لحظة إلى فعل جرمي مبرر بقناعات وإيمان بأفكار عنصرية تدعو إلى نبذ الآخر/ المهاجر. ستصاب المخرجة وأختها بالدهشة والذهول عند معرفتهن بأن القاتل كان طالباً في مدرستهن، وأنه كان يستمع إلى نفس أغانيهن المفضلة ويسير فوق نفس الأرض التي يسرن فوقها، ومع ذلك كان يخزن براكين من الحقد ضد المهاجرين.

يكشف الوثائقي عن ارتباط القاتل بالنازي النرويجي “بريفيك” المدان بقتله عشرات التلاميذ في جزيرة وسط البحر، وتأثره كثيراً بأفكار هتلر واعتباره إله.  الفرق بينهما؛ أن الأول يوجه حقده على المهاجرين الشرق أوسطيين فيما النرويجي يوجهه ضد الجميع ويحيل سبب جرمه إلى النظام الذي يسمح بمجيء الأغراب إلى بلاده. ستتوصل المخرجة إلى أن العنصري السويدي لا يشعر بالندم على فعلته وأن أكثر ما يغيضه؛ الشخصية المهاجرة المتماسكة، القوية، مثل تلك التي يتمتع بها الصبي كمال. تذهب “منال مصري” أبعد من ذلك عند فتحها نقاشاً حول تلكؤ الشرطة في القبض عليه، على الرغم من معرفتهم المسبقة باحتمال أن يكون هو وراء جرائم القتل المتسلسلة. لماذا؟ سؤال وصل إلى الشرطة واحتارت في الإجابة عليه، مكتفية بإحالة السبب إلى الروتين المتبع في توجيه التهم، والذي يصعب تطبيقه على الكثير من الحالات دون توفر “أدلة كافية”.

كل الأدلة كما يتضح من مسار الوثائقي تشير إلى ارتكابه سلسلة الجرائم  ذات الطابع العنصري، واعترافات أصدقائه تؤكدها ومع ذلك اكتفت المحكمة في حكمها ضده، على الجرائم المعترف هو بها فقط، وتركت قضية كمال معلقة، أبقت شعلة القلق متوهجة ودافعة بقوة لإعلان أخته المخرجة رغبتها في مقابلته داخل السجن. لم تفلح في ذلك، لرفض سلطات السجن طلبها، في حين سمحت في الوقت ذاته لصحفيين آخرين بمقابلة “القاتل المتسلسل”. وسط كل ذلك الحراك النشط والزيارات العملية بين ضفتي مالمو وبيروت ظل الضحية هادئاً، متمتعاً بحصافة نادرة. فما كان يهمه في المقام الأول ليس اعتراف المجرم بفعلته بقدر دوافعها. لقد أحب الصبي المكان الذي ولد فيه وترعرع، لكنه يشعر الآن، بأن ثمة شيء حدث لا يمكن إصلاحه فيه. شيء غير معلن استقر في داخله، ربما الجملة الأخيرة، التي كتبتها أخته للمجرم العنصري تشي بما كان يفكر به. كتبت له بأنها قررت التوقف عن الكتابة إليه وأنها قد تيقنت من أنه هو من حاول قتل أخيها. لقد أرادت بتلك النهاية فتح الطريق أمام أخيها ليعش حياته، ويُنزل الأعباء الثقيلة التي ظل يحملها صبياً وظلت معه حتى بعد أن كبر وصار شاباً، فيما أضاف ترك القضية مفتوحة دون حسم؛ أسئلة ملحة أخرى تقترح مناقشة العنصرية السويدية المستترة سينمائياً وكيف يمكن لفيلم وثائقي كشف جانباً كبيراً منها؟!.