“سماوات فوق الخليل”.. ثلاثة صبيان في مواجهة المستوطنين والجيش الإسرائيلي

“سيأتي الجيش الإسرائيلي الآن، سيأتي الجيش..”، هكذا هَمَسَ أنس (7 أعوام) لأخيه الأكبر عامر (11 عاما) من على سطح بيتهم في قلب مدينة الخليل الفلسطينية القديمة، حيث يربّي كل منهما الحَمام.

وعندما غيرت الكاميرا السينمائية التي كانت تصورهم زاوية الرؤية؛ نرى العائلة الإسرائيلية التي بَلغت عنهم تطل من نافذة بيتها الذي لا يبعد –بسبب جغرافية قلب المدينة القديم الخاص– إلا أمتارا قليلة عن منزل عائلة الصبيين الفلسطينيين.

وبالفعل تأتي قوة من الجيش الإسرائيلي -كما توقع أنس- فتصوّر كاميرات المخرجين الهولنديين “إستر هيرتوج” و”بول كينج” اقتحام الجيش للبيت الفلسطيني، والمواجهة التي تحصل بين أُمّ الصبيين والجيش، وتدخلات المخرجين أنفسهما، إذ يمكن سماع توسلاتهما في الخلفية وهما يشرحان بالإنجليزية بأن الصبيين لم يفعلا ما يستحق هذا الغضب الإسرائيلي، وبالتأكيد لا يستحقان عِقاب السجن الذي كانت تتوعد به تلك الوحدة.

سترضخ الوحدة العسكرية بالنهاية لتوسلات المخرجين الهولنديين وضغطهما، فتترك الوحدة الصبيين هذه المرة، لكنها تُهدّد بحبسهما في المرة القادمة، في حين بدا هذا المشهد العنيف الذي رأيناه للتوّ أمرا عاديا في حياة الطفلين والعائلة، وهو جزء من يوميات البلدة القديمة في مدينة الخليل، فقد عقّدت إسرائيل الحياة فيها بوضع مستوطنين يهود لا يتعدون الألف وسط المدينة، وبعدها خصصت قوة عسكرية إسرائيلية ضخمة لحراستهم.

أجواء الخليل.. أثر المحيط على تكوين الأجيال الفلسطينية

يتابع المخرجان الهولنديان ثلاثة صبية فلسطينيين (عامر وأنس ومروان) من المدينة ولفترة خمس سنوات طويلة، ويختزلان مادتهما الضخمة في فيلم تسجيلي بعنوان “سماوات فوق الخليل” (Skies Above Hebron).

الصبي أنس يلبس الزي الكشفي الفلسطيني في لحظة غضب، بينما تنظر إليه والدته في بيتهم القديم في مدينة الخليل

عرض الفيلم في برنامج الأطفال في الدورة الـ33 من مهرجان “إدفا” السينمائي (2021). وبعد ذلك وصل الفيلم سريعا إلى التلفزيون الهولندي الحكومي، حيث عُرض على الشاشة الثانية فيه.

ويُسجل الفيلم التحولات التي مرَّ بها الصِبية الثلاثة، ويهتم بأثر المحيط المضطرب من حولهم في تكوين شخصياتهم ومفاعيل الأحداث العامة عليهم، ويؤكد الفيلم مجددا أنه لا مفر تقريبا من تأثير سطوة الصراع الدائر في فلسطين على تحديد المسارات القادمة في حياة الأجيال الجديدة من الفلسطينيين، وكيف أن هؤلاء سيسلكون الطرق القاتمة ذاتها التي أخذها آباؤهم من قبلهم.

سماء مشوّهة وأرض مضطربة.. آثار المستوطنين

يبدأ الفيلم بشهادة صوتية لعامر الذي كان يشرح أسباب عشقه لتربية الحَمام، فالحمام يملك الحُرية التي تمكنه من الطيران بعيدا فوق كل الحواجز البشرية المصطنعة.

وبينما كان عامر يواصل وصف حياة الطيور، كانت كاميرا الفيلم تُحلق فوق مدينة الخليل القديمة، موضحة عمارتها الخاصة التي شوهت كثيرا بسبب المستوطنات الإسرائيلية التي وُضعت وسطها، ونقاط الجيش الإسرائيلي العديدة حول تلك المستوطنات.

مروان يعرض لنا صورة الشهيد الفلسطيني الذي سقط برصاص الاحتلال، والتي صورها هو بنفسه والدماء تسيل من جثة الشهيد

عندما تهبط الكاميرا على الأرض، يتبين صعوبة الحال على أهل المدينة القديمة، ومنهم عائلة عامر وأخيه أنس اللذين يسكنان أحد البيوت القديمة جدا من المدينة، ويُربّي أبناء العائلة الحَمام على سطح البيت، وهو أمر يثير الكثير من الحساسات الأمنية، بسبب أن سطح بيتهم يجاور بيت أحد المستوطنين.

توثيق لصورة شهيد فلسطيني.. هموم الكبار تحتل الصغار

إلى جانب عامر وأخيه أنس، يرافق الفيلم مروان البالغ من العمر 11 عاما عندما تعرّف عليه فريق الفيلم للمرة الأولى.

بدا الهمّ الفلسطيني العام واضحا على مروان في سن مبكرة، فهو كان يشرح ببراءة ممزوجة بوعي البالغين كيف أنه نجح بأن يصور بهاتفه المحمول جثة شهيد فلسطيني من أبناء الحي سقط برصاص الجيش الإسرائيلي، وأن صورته الفوتوغرافية كانت الوحيدة للحادثة بسبب تشديدات الجيش الإسرائيلي حينها، ومنع الفلسطينيين من أبناء الحي من الخروج من بيوتهم.

الأخوان عامر (7 أعوام) وأنس (11 عاما) يجلسان على سطح بيتهم في مدينة الخليل، حيث يربّي كل منهما الحَمام

“هذه الصورة”، يشير مروان إلى شاشة هاتفه الصغير، حيث يظهر خط من الدم على الأرض، وفي نهاية الخط جثة الشاب الفلسطيني. ولعل هذه الحادثة هي التي ستفتح شهية مروان على تسجيل ما حوله كما سيتبين من أحداث الفيلم التسجيلي، إذ تتطور التقنيات التي يستخدمها مروان في تسجيله لما حوله، ويحصل على معونات من منظمات مدنية على شكل كاميرات متوسطة الاحترافية.

استفزازات المستوطنين.. فوضى الخليل الملتهب الثائر

يُعاود فريق الفيلم زيارة شخصياته كل عام ولخمس سنوات متتالية، ويسجل التغييرات الذاتية والعامة من حولهم. يكشف الفيلم أن هناك حراكا دائما في مدينة الخليل، لكنه ربما يغيب عن نشرات الأخبار التلفزيونية، فهناك دائما مظاهرات واحتجاجات وتصادمات بسبب الوضع الغريب الذي سبّبه وجود المستوطنين في قلب المدينة القديم.

مروان يوثق بكاميرته إحدى المظاهرات المناهضة للاستيطان في مدينة الخليل

يلتقط الفيلم مثلا استفزازات تتعرض لها مدرسة فلسطينية هناك من قبل المستوطنين الإسرائيليين، فهم ينظمون احتفالا ويمرّون في قلب المدينة بقصد إثارة غضب السكّان العرب. كما كان فريق الفيلم شاهدا على عشرات الاحتجاجات الصغيرة التي تتطور أحيانا إلى ضرب بالحجارة، وتستدعي دائما ردودا عنيفة من الجيش الإسرائيلي، كالضرب بالنيران الحيّة، أو القبض على شباب فلسطينيين وسجنهم.

أما على صعيد التطورات في شخصيات الصبية الثلاث، فبدا مروان الأكثر تأثرا بالأحداث العامة من حوله، والأكثر حساسية بالظلم الذي يتعرض له بلده.

“النضال من أجل فلسطين يستحق التضحيات”.. فلسفة مروانية

ترافق كاميرا الفيلم الهولندي مروان وهو يصور نشاطات فلسطينية عامة مثل يوم النكبة، كما تصوره الكاميرا في المحل الذي كان يتسوّق منه، وكيف كان يبحث عن بضائع من أصول عربية، إذ أنه يمتنع عن شراء بضائع إسرائيلية.

يؤمن مروان أن النضال من أجل فلسطين يستحق التضحيات، وهي الفكرة التي لخصها بكلمات بسيطة عندما كان ابن 11 عاما لفريق الفيلم الهولندي، وسيعيد الجملة نفسها وبتنويعات مختلفة في كل عام من أعوام تصوير الفيلم.

الصبي مروان مع والده الذي يسمح له بتدخين الأرجيلة رغم صغر سنه نظرا لأن الحياة هناك تدفع الأطفال إلى النضج بسرعة كبيرة

والملفت أن مروان رغم انشغاله الكامل بقضية بلده، فإنه لا يرى أن الاحتجاجات التي تنتهي برمي الحجارة على الجيش الإسرائيلي نافعة، بل يعتبر أن خسائرها هي أعظم من فوائدها، هذا الرأي يشاركه فيه الصبي الآخر في الفيلم عامر الذي سيُقبض عليه من قبل الجيش الإسرائيلي ليقضي أياما في السجن عندما كان في عامه الخامس عشر، وعندما يخرج من بوابة السجن كانت تنتظره عائلته وفريق الفيلم الهولندي، حيث بدا أنه بلغ فجأة، ولم يعد ذاك الصبي المراهق الذي كان يُربّي الحَمام.

حاضر مرهق ومستقبل قاتم.. جولة في عالم البالغين

إذا كان فيلم “سماوات فوق الخليل” يركز على شخصياته الثلاث من الصبيان، فإنه يتوقف أحيانا أمام بعض البالغين في العائلة الذين بدوا مُرهقين تماما وبلا أمل، كوالد عامر وأنس الذي يظهر في مشهد طويل يشرح أهمية البيت الذي تعيش فيه العائلة في البلدة القديمة بالخليل، وكيف أن بيعه للمستوطنين يعني خسارة جزء كبير من المدينة القديمة لهم.

لا يختلف والد مروان كثيرا عن والد الأخوين عامر وأنس، فهو أيضا يائس من التغيير، ففي واحد من مشاهد الفيلم يقدم لابنه الأرجيلة ليدخنها رغم عمره الصغير، وكأن الأزمات في الخارج تُزيل المسافات بين الأجيال، وتدفع بالأطفال إلى النضج بسرعات كبيرة.

بدا البالغون في الفيلم وكأنهم فقدوا السيطرة على زمام حياتهم، ولم يعودوا قادرين على تغيير دفّة الحاضر، فجيل الآباء يعرف ما ينتظر جيل الأبناء من تحديات جسيمة ومستقبل سوداوي وعنف لن يتوقف.

شارع الشهداء.. بؤرة الاصطدامات مع الجيش

يلتقط الفيلم كثيرا من مناخات الحياة في مدينة خاصة مثل الخليل، ويبرز الحركات الاجتماعية فيها، وصدى التاريخ والماضي العنيفين فيها. يعيش مروان في شارع يسمى شارع الشهداء، وصور شهداء فلسطين من فترات متنوعة من التاريخ القديم معلقة على الجدران والبيوت.

شارع الشهداء، مغلقة حوانيته بأمر من الاحتلال إلى أجل غير مسمى

يستعين الفيلم بمشاهد جوّية صورتها طائرات الدرون، ويوظفها بحساسية كبيرة، فهي توفر الفضاء الواسع والتوازن المطلوب مع المشاهد المعتمة التي تصوّر على الأرض، وخاصة تلك التي تتضمن احتكاكات، وأحيانا تصادمات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي.

عمارة المدينة الممزقة.. نظرة من السماء

تمنح المشاهد الجوية أيضا نافذة على عمارة وجغرافية المدينة الفلسطينية الخاصة، وستعين على فهم الظروف الصعبة للغاية التي يعيش فيها ساكنو هذه المدينة من الفلسطينيين، فقد شهد جيل منهم على تقطع أوصال مدينتهم عندما وضعت إسرائيل مستوطنات ونقاط جيش عديدة في قلب المدينة.

اختار الفيلم أن ينهي رحلته مع شخصياته وهي ما زالت في خضمّ صراعاتها مع الواقع المضني الذي ولدت فيه. لم تتغير الظروف التي تحيط بهذه الشخصيات أبدا، بل ربما ازدادت قتامة، وبعد أن بلغت العمر الذي يجعل تحديها للقوة المحتلة أمرا يعاقب عليه القانون، كما كان الحال مع عامر الذي سجن لأسابيع.