“صوِّب وأطلق النار”..سيرة الأمريكي الحالم في ليبيا

قيس قاسم

ماذا يتبقى للمخرج الوثائقي عندما تقوم شخصيته المحورية بتصوير نفسها، وتُعلّق بنفسها على الأحداث المنقولة بكاميرتها؟ ماذا يتبقى له إذا كان الحدث الرئيسي يتمحور أكثره حول ذات الشخصية، وعلى تجربتها يُشيّد هيكل الفيلم، بل وتصبح الأحداث التي عايشها عماده الدرامي؟ هذه الأسئلة، في حالة فيلم “صوِّب وأطلق النار” لمارشال كوري لا تكتسب معناها من قدرة الإجابة عليها بل في تحفيز قارئه لمعرفة الطريقة التي سيضع فيها صاحب الوثائقي الحدود الفاصلة بينه وبين تلك الشخصية والأحداث التي يرويها وقدرته على ترويضها لصالحه دون انتزاع حق أحد من صناع فيلمه، الذي يكتسب بالضرورة طابعاً فردياً، تتمحور القصة الرئيسية وبقية القصص المحيطة بها حوله وهذا ما جرى عندما ترك كوري بطله ماثيو فاندايك يروي تجربته في الثورة الليبية وفق معايشته لها فيما سيأخذ على عاتقه صياغة هذه التجربة بصرياً مع أن خاماته الأساسية من صنع البطل نفسه، لكن تبقى الغَلَبة في النهاية للنتيجة التي سيظهر عليها الفيلم، والتي تلعب في صياغته النهائية عوامل ومؤثرات تقنية كثيرة ومن بين أبرزها في الفيلم الزمبابوي الأمريكي المشترك، الحائز على جائزة لجنة تحكيم مهرجان تريبيكا السينمائي والذي أثار عند عرضه في مهرجان أبو ظبي السينمائي نقاشاً حيوياً، هما: المونتاج والسيناريو، اللذان تكلّف بهما المخرج نفسه: مارشال كوري، وهذا يُفسّر إلى حدّ كبير الدور الذي لعبه في الفصل بين بطله المحوري ومنجزه النهائي إلى جانب وجود الجزء الذي صوره آلان ياكبسن وأضحى عاملاً مهماً في توضيح الخط الفاصل بين الذاتي والموضوعي في فيلم يحتاج إلى معاينة أبعد من ذاتية وأعمق ليظهر كما ظهر عليه؛ مقطع من سيرة ذاتية منقولة على يد مخرج بارع إلى السينما.

 

سيرة ماثيو فاندايك ومشاركته الليبيين ثورتهم بدأت من طفولته التي قصّها بنفسه وأثرّت مفرداتها في تكوينه الحالم، الذي قاده للخروج إلى عوالم أرحب من مدينة بلاتمور في ولاية ماريلاند الأمريكية ووأسع من بيتهم الذي كان الطفل الوحيد، والمُدلّل فيه.
وجَد ماثيو في أفلام المغامرات وأبطالها نموذجاً تمنّى تقليده وظلّ حلمه معه طويلاً في أن يصبح عميلاً لـ (سي آي أي) أو مغامراً أسطورياً مثل “لورنس العرب” الذي سيقوده تأثُّره  به في عشرينات عمره لدراسة تاريخ الشرق في أحد الجامعات الأمريكية. لقد فرضت عليه وحدته التفرُّغ لألعاب الفيديو والركون في أوقات فراغه الطويلة إلى الخيال كصديق قريب له، لأن كل ما كان يحتاجه مادياً يجده متوفراً وتهرع العائلة لتلبيته.
 لقد نشأ انطوائياً وحيداً أقرب أصحابه كانوا أبطال المجلات المتسلسلة وكُتب المغامرات والأفلام وفي سنوات مراهقته ستكون كاميرا الفيديو صديقته المقربة التي لا يمكنه تركها أبداً. ستشكّل الكاميرا له وسيلة للتخلص من الوحدة والخجل وستفتح له الطريق للتعبير عن أفكاره بها. سيقول أكثر من مرة أمام محاوره المخرج مارشال كوري “لقد أردت كتابة حياتي بالكاميرا!”.

 ستقوده الكاميرا وخياله الجامح ليصبح مغامراً ويدخل من أجل ذلك دورات “إعداد الرجولة” ويسافر إلى الشرق الأوسط ويحكي من خلال كاميرته مغامراته في المغرب وتونس والأردن وسوريا، مصوراً بالإضافة إليها رحلاته إلى الشرق الذي قطع أكثر من خمسة آلاف ميل من أراضيه على دراجة نارية.
 لقد أحب المغامرة ولكن داخله ظل ضعيفاً غير متماسك بسبب الطفولة وحتى المراهقة التي لم يجد فيها صديقاً حقيقياً، وفي سنوات شبابه تعّرف على فتاة لكنها  لم تملأ فراغه الداخلي وخواء روحه.
يرسم ماثيو أو مات، بورتريهاً مستفزاً عن نفسه لأنه شديد الصدق مع ذاته وهذا ربما، وفي مرحلة قادمة يفسر لنا سبب الإزعاج الذي سيولدّه عند متابعي مسيرته أثناء دخوله ليبيا لا بوصفه ثائراً واعياً بل مغامراً لا مبالياً وجد نفسه فجأة في محيط ملتهب فرمى نفسه وسطه ليُحقّق حلمه في أن يصبح بطلاً أمريكياً أقرب إلى أبطال السينما منه إلى الأبطال الحقيقيين أو الثوار الأمميين.

 

من دون قصد ولا تخطيط سيجد نفسه مكلفاً بتغطية حروب المنطقة كمراسل حربي حر دون تمهيد تحصيل أكاديمي أو موهبة مهنية، ولكنه مع ذلك سينقل حقائق غاية في الأهمية تتعلق بالحرب العراقية الأمريكية وأفغانستان. لقد شاهد ما تفعله جيوش أمريكا بمواطني هذين البلدين وكيف كانت الغطرسة تُغذّي جنودها بروح عدائية واستعلاء لدرجة أنه لم يجد صعوبة في تعلُّم الرماية واستخدام السلاح على أيدي جنود وحدات أمريكية تطوعوا لتعليمه. سيعترف لاحقاً برغبته في أن يكون مشاركاً في هذه الحرب: “أردت أن أكون جزءاً من الحدث لا شاهداً عليه”.
 كلام وصور مستفزة لشاب يجد عنده الحق في المشاركة في الحروب والمغامرات العسكرية التي يروح ضحيتها بشر مسالمين وتتحطم فيها دول! لم يكن معنياً بنتائجها بقدر ما كان مهموماً في أن يصبح “بطلاً” وحسب!

سيقوده مصيره خلال مغامراته ورحلاته كمراسل حربي إلى ليبيا التي تعرّف عليها ودخلها في زمن القذافي عن طريق مواطن “هيبي” اسمه نوري، التقى به خارج ليبيا وصار مع الوقت من أعز أصدقائه بل صديقه الأخلص وستُغيِّر بل ستقلب هذه الصداقة حياته بالكامل. وجد في نوري الشخص الذي يُكمل نقصه الداخلي فالرجل يحب السلام ويتحدث عن العدالة المفقودة وعن حب الطبيعة والبشر. رجل ينتمي إلى التيارات الفوضوية التي ظهرت في الستينيات من القرن الماضي لكنه يتمتع بروح وخصال طيبة قرّبت مات منه كثيراً فقرر مرافقته في زيارته إلى طرابلس. سيجد في أصدقاء نوري وعائلته بديلاً عن الحرمان الاجتماعي الأمريكي الذي عاشه وسيتخذّهم أهلاً له.
عند هذا الحدّ سيتوقف تقريباً الوثائقي عن سرد سيرة ماثيو “الشخصية” لينتقل إلى الجزء الثاني الذي يوثّق لتجربته ودوره في الثورة الليبية على ضوء ما تُقدّمه الوقائع والتي ستجعل من الأمريكي الحالم مقاتلاً في الصفوف الأمامية دون ادعاء بثورية وأفكار تحررية وتغييرية بل من منطلق ذاتي نبيل دافعة مؤازرة أصدقاء أحبهم فوجد نفسه في عام 2010 مدفوعاً لمشاركتهم مصيرهم بعد أن سمع أن صديقه نوري قد تحوّل من “هيبي” إلى مقاتل صلب يحمل السلاح ويقود فصائل معارضة لإسقاط معمر القذافي وسلطته الديكتاتورية.

 

سيُسجّل الوثائقي منعطفين في حياة ماثيو. الأول يتمثل في ارتقاء وعيه إلى مستوى يُقرّر فيه الذهاب إلى موطن الخطر لمساندة المظلوم، ويشارك في مواجهة السلطة الهمجية ليصبح بطلاً، مختلفاً كلياً عن ذاك البطل الذي تخيله.
 ثاني المنعطفات، والذي سيُمثّل بدرجة كبيرة تحوّلاً في طريقة سرد الوثائقي نفسه، سيتجسد من خلال تغيير مكانه بالنسبة للكاميرا فبدلاً من الوقوف كما اعتاد ماثيو خلفها أصبح يقف الآن أمامها، أي أنه انتقل من صفة مراقب إلى “موضوع” وهذا ما سيتجلّى عندما ينتقل “صوِّب وأطلق النار” إلى ليبيا لينقل تفاصيل مشاركة الأمريكي نوري وبقية رفاقه النضال الذي انطلق من بنغاري وتصاعد ليصل إلى العاصمة وأبعد منها.

عبر ملازمته ومشاركته في حمل السلاح تحوّل الشاب الحالم إلى ليبي الموقف يشاطر الملايين حلم التخلُّص من القذافي بدافع التضامن. ستَنقُل الحوارات وتسجيل العمليات العسكرية حقائق صادمة عن الأساليب التي استخدمها النظام لتحطيم تحرُّك سلمي أراد مجاراة “الربيع” الذي حلّ في بلدان عربية أخرى ولكنه وبدلاً من الاستجابة لمطالب الناس، التي كثيرا ما كان نوري يوضحّها لصديقه، اتخذ “الزعيم” موقفاً رافضاً ما دفع الشباب إلى المُضىّ في تحدّيهم له فتحوّل نوري “الهيبي” إلى مقاتل وكذا صديقه الأمريكي الذي سيدفع ثمن موقفه غالياً حين يُلقى القبض عليه ويُزجّ في سجون النظام المخيفة.

تجربة السجن التي طالت خمسة أشهر أمضاها في حبس انفرادي بينّت للأمريكي ما الذي كانت تعنيه كلمة حرية بالنسبة لشعب حُكم عليه لعقود طويلة بالسجن والعذاب، وستُبقيه مرارة السجن مع الثوار حتى بعد اطلاقهم سراحه بعد تحريرهم العاصمة طرابلس وفتح سجونها.

 
من بين ما يُسجّله؛ أن نوري وأمثاله لم يرغبوا في الانتقام بل أرادوا التغيير ولم يرفعوا مستوى ثورتهم إلى مستوى قامة القذافي بل أرادوها أعلى بكثير وأبعد من التخلُّص منه، لهذا اعتبر تجربته المسلحة مشاركَة في تحقيق حلم شعب أراد الحرية بدوافع نبيلة تشبه وتتماهى إلى حدّ كبير مع نظرة نوري للأحداث في بلاده ولهذا وحين سأله المخرج مارشال كوري للمرة الأخيرة: هل تشعر بعد عودتك من ليبيا أنك قد حققت “رجولتك”؟ قال بحياء ملازم له: لا. قال لا لأنه ببساطة لم يبحث عن رجولة وبطولة في ليبيا بل عن شعب وأصدقاء شعر بحاجتهم إلى مساندته فهبّ وساندهم كما فعلوا معه يوم كان وحيداً موهوماً بالبطولة الأمريكية ولم يكن عنده أحد فتطوّع نوري وجماعته ليكونوا له خير أصدقاء وبهذا المعنى يمكن تفسير تجربته التي سُجّلت بعناية وبمصداقية عالية جعلت من “صوِّب وأطلق النار” واحداً من بين الأفلام المهمة عن الربيع العربي والثورة الليبية.