“143 طريق الصحراء”.. عن مليكة ومقهاها وبوح المشاعر

يُمثل المخرج الجزائري حسان فرحاني رفقة مجموعة آخرين من المخرجين الشباب جوهر “الموجة الجديدة” التي باتت مطلبا فنيا يجب خلقه لإرجاع السينما الجزائرية لطريقها الصحيح، ولتأثيث مستقبلها بالآليات الحديثة، وذلك عن طريق ذهنيات تؤمن بالتعدد الثقافي، ومنفتحة على مختلف الرؤى والاتجاهات السينمائية، وفي الوقت نفسه تُحدث قطيعة مع الماضي وتراكماته الأيدولوجية، خصوصا وأن جزءا كبيرا من هذا الماضي بات يُغيِّب بشكل كبير الجانب الفني الذي تقوم عليه السينما، في حين يتم التركيز فيه على ما هو موضوعي، لتتحول السينما الجزائرية إلى وثيقة جافة تنقصها الكثير من التوابل لتصبغ عليها الفنية والجمالية، بعد أن خرجت من خانة “السينما” إلى خانة “الأحداث المصورة”. لهذا كانت الحاجة ضرورية لإحداث هذه القطيعة ورسمها والسعي لها انتصارا لمبدأ الفن للفن”.

فيلم متوج ومخرج واعد

المقدمة أعلاه هي جزء من مراجعة نقدية سبق ونُشرت قبل ثلاث سنوات على موقع “الجزيرة الوثائقية”، وذلك عن الفيلم الوثائقي “في راسي رونبوان” للمخرج الجزائري حسان فرحاني، حيث استشرفنا فيها الأهمية التي سيكون عليها هذا المخرج الشاب (مواليد 1985) مستقبلا، ليصبح هذا المستقبل حاضرا اليوم.

قدّم حسان فرحاني فيلما وثائقيا آخر لا يقل أهمية عن الأول، جاء تحت عنوان “143 طريق الصحراء”، وهو إنتاج جزائري فرنسي قطري، والأخيرة مُمثّلة بقناة الجزيرة الوثائقية.

شارك الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية، ونال جوائز مهمة من بينها جائزتان في مهرجان لوكارنو بسويسرا، وهما جائزة “أفضل مخرج واعد” وجائزة “لجنة التحكيم الثانوية”، كما حصد الجائزة الكبرى المسماة “جائزة الإوز الأبيض” بمهرجان سول الدولي للأفلام التسجيلية (DMZ Docs) (عقد في الفترة من 20 وحتى 27 سبتمبر/أيلول 2019) في مدينة جويانغ وباغو بكوريا الجنوبية.

وآخر هذه التتويجات مشاركته في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثالثة (من 19 إلى 27 سبتمبر/أيلول 2019)، وحصوله على جائزة الجونة الفضية لأفضل فيلم وثائقي، وذلك في أول عرض عربي وشرق أوسطي للفيلم بالمهرجان.

المرأة المتقدمة في السن “مليكة” التي تدير مقهى متواضعا على قارعة طريق صحراوي

مليكة والآخر.. ثنائية البوح

ينعكس ذكاء المخرج حسان فرحاني في سبر أغوار شخصيات أعماله، وذلك من خلال استدراجهم بشكل أو بآخر للبوح بمشاعرهم المخبوءة، مما يخلق نوعا من الدرامية التي تساعد بشكل كبير على خلق جسور تواصل بين هذه الشخصيات والمشاهد، فيكون هناك نوع من التفاهم، وكأنه يختصر الأزمنة والأمكنة ليُسهل عملية التواصل هذه، أي بدل أن يحدث التفاهم في شهور وسنوات يحصره حسان في المقتضى الزمني في الفيلم.

هذا ما فعله مع شخصيات فيلم “في راسي رونبوان” (2015)، وأعاده في “143 طريق الصحراء” (2019) لكن بجرعة مضاعفة، لأنه في الفيلم الأول عمل على عدة شخصيات، أما الفيلم الثاني فكان كل تركيزه على شخصية واحدة عكستها المرأة المتقدمة في السن “مليكة” التي تدير مقهى متواضعا على قارعة طريق صحراوي يجتمع فيه كل من ساقه القدر إلى هذا الفضاء، فيبوح ببعض ما يختلج صدره حسب سياق الحديث الذي يجري بينه وبين مليكة، بعد أن تسقط ثنائية “صاحبة المقهى/الزبون”، ويحلّ محلها العديد من الثنائيات مثل “صديق/صديقة”، أو “طبيب نفسي/مريض”.

تتحول مليكة في هذه الحالة إلى رمز؛ مشكلتها الكبيرة تذوب من خلالها جميع مشاكل “الآخر” مهما كانت عظيمة، إذ يتم تفسيرها بهذا الشكل: امرأة متقدمة في السن، لا سند لها في هذه الحياة، لا أصدقاء ولا أقارب، لا زوج ولا أولاد، تنخر جسدها الأمراض، وتعيش وسط الصحراء بلا كهرباء ولا أساسيات الحياة، لكنها في المقابل تُجيد السخرية راضية بما هي عليه بلا تذمر، وأكثر من هذا تضحك، وتعيش بأنفة.

في المقابل يأتي “الآخر” المسافر إلى الصحراء وفي جوفه شيء من الشكوى؛ زوجة غير مطيعة، أو أخ  يبحث عن أخيه الضائع، أو سائق لديه مشكلة ما.. كل هذه المشاكل تذوب وسط ما يختبئ في جوف هذه المرأة فينساها سريعا.

تحول هذا المقهى إلى عيادة نفسية يدخل لها المريض فيخرج منها سليما معافى
هذا المقهى تحوّل إلى عيادة نفسية يدخل لها المريض فيخرج منها سليما معافى

المقهى.. الفردوس المفقود

من هنا يتحول هذا المقهى إلى عيادة نفسية يدخل لها المريض فيخرج منها سليما معافى، بعد أن زالت همومه مقابل كوب شاي أو صحن بيض مقلي.

وفي المقابل يعرف حسان بأن البوح وحده لا يصنع فيلما وثائقيا ناجحا، بل استطاع أن يخلق الترقب في جميع مفاصل العمل، بعد أن عمد من حين إلى آخر على بث المشكلة الرئيسية لمليكة وهي اقتراب فقدها “المقهى” الذي يعتبر فُردوسا بالنسبة لها وفضاء تهرب من خلاله من واقعها المرير؛ أي من ماضيها الغامض الذي يبدو من تنهيداتها بأنه مرير.

هذه المشكلة يعكسها مشروع بناء محطة خدمات محاذية لمقهاها، وهي عبارة عن مطعم ومقهى ومحطة بنزين وغيرها من الخدمات الأخرى، من هنا سيكون هذا المشروع بمثابة نهاية عمل مليكة التي سيتحتم عليها الانتقال إلى فضاء آخر، وخلق عالم جديد بعد أن حاصرتها واحتوتها الحداثة التي ستكون نارا عليها وبردا على “الآخر” الذي سيغيب وينسى، فيما تبقى هي في ترحال مستمر تبحث عن صحراء أخرى لتُعمرها، عسى أن يأتي بجانبها مشروع خدمات آخر يُرغمها على الانتقال مرة أخرى.

تتحول مليكة في فيلم "طريق الصحراء 143" إلى رمز للنماء والتقدم
مليكة تتحول في فيلم “طريق الصحراء 143” إلى رمز للنماء والتقدم

مليكة.. رمز النماء

تتحول مليكة في فيلم “143 طريق الصحراء” إلى رمز للنماء والتقدم ولو على حساب حياتها وهنائها، فيما يقوم “الآخر” باستنزافها روحيا وبدنيا حتى تشقى هي ويفرح هو.

هذا “الآخر” يمكن أن يكون أحد أقاربها الذي استحوذ على ميراثها، أو صاحب مشروع الخدمات الذي وجد بأن المشروع سيكون مربحا، خاصة وأن مليكة هيّأت له الأرضية المناسبة وعوّدت الزبائن على التوقف في هذا المكان، فتجرّد من إنسانيته في سبيل الربح.

هذا “الآخر” هم جميع الزبائن والمسافرين وسائقي الشاحنات الذين وجدوا في هذه المرأة خزّانة أسرار، فباحوا لها بمشاكلهم وأسرارهم، وخففوا على أنفسهم وأثقلوا بها كاهلها. كانت مليكة في هذه المعادلة مثل الماء أينما نزلت خلّفت اخضرارا خلفها.

المخرج حسان فرحاني يُمثل جوهر “الموجة الجديدة” التي باتت مطلبا يجب خلقه لإرجاع السينما الجزائرية لطريقها الصحيح

جماليات التفاصيل الصغيرة

استعان المخرج حسان فرحاني ببعض الممثلين المحترفين في فيلمه من أجل خلق بعض الجماليات السينمائية التي كان غيابها سيشكل فرقا كبيرا في الفيلم، ومن الممكن أن ينتقص من قيمته، بالإضافة إلى دعم الموضوع الرئيسي في الفيلم.

من بين المشاهد المُمثلة شخصية الرجل الذي يبحث عن أخيه (أدى الدور سمير الحكيم)، حيث جلس وسط المقهى وبدأ يسرد بعض المآسي التي تحدث في العالم مما يقرأه أمامه من الجريدة، بالإضافة إلى مشهد آخر مُمثّل، وهذا حين وقف مَن أدى دور الزبون في الخارج وأطلّ من شباك النافذة المُسيّجة بقضبان الحديد، إذ أصبح المشهد وكأنه داخل زنزانة، ليجري الحديث بينه وبين مليكة ويصنعا من خلاله نوعا من الكوميديا السوداء.

هناك من انتقد الاستعانة بممثلين محترفين في الفيلم، لكن في المقابل فإنالعديد من الأفلام الوثائقية الحديثة أصبحت تعتمد في مشاهدها على التمثيل لدعم مواضيعها والذهاب بها في اتجاه معين، وهذه إحدى مراحل التجديد الذي يجب أن يدخل فيها الفيلم الوثائقي لخلق جمهور جديد، وإضفاء نوع من الشعرية فيها.

الرجل الذي يبحث عن أخيه جلس وسط المقهى وبدأ يسرد بعض المآسي التي تحدث في العالم مما يقرأه أمامه من الجريدة

حقيقة الرقم “143”

صنع المخرج العديد من الكادرات الفنية المهمة في فيلمه مُعتمدا على نقاء الفضاء الصحراوي، كما أثثها بعمليات الرصد الدقيق، حيث اعتمد في أغلبيتها على الصورة الثابتة التي تبرز التناقضات، أهمها الصورة التي قدّمها في المراحل الأخيرة من الفيلم، وهي تلك التي تجمع محطة الخدمات ومقهى مليكة، بالإضافة إلى التصوير الليلي الذي يركز من خلاله على الإضاءة التي تخرج من باب المقهى ونافذتها، لتكون هناك العديد من الصور المنوّعة في الفيلم والمُلتقطة من مسافات وزوايا عدة، والتي خلق بها نوعا من الاطمئنان البصري لدى المشاهد، وكَسَر الرتابة التي تتخلل بعض الفقرات الثقيلة.

كما أجاب المخرج عن السؤال المحوري الذي ينتاب كل مُشاهد للفيلم، وهو حقيقة العنوان وما يحمله من تفسير، وقد جاء التبرير من خلال الرقم المُدوّن على جدار المقهى “143”، حيث قرأه الزبون وأضاف هذا هو عنوان مليكة؛ “143 طريق الصحراء”، لكن في المقابل ترك مصير مليكة معلقا، وهذا بعد أن يتم افتتاح محطة الخدمات، لكن كل المؤشرات تقول إنها سترحل إلى فضاء صحراوي ما، وتصنع لنفسها مقهى جديدا يحمل نفس النكهة التي تحملها مقاهيها السابقة، لكن لا ندري إن كان عنوانه سيكون نفس العنوان “143 طريق الصحراء” الذي لا تحتفظ به السجلات الرسمية.