“ظلال الحرية” في الولايات المتحدة الأمريكية

 قيس قاسم

أفرزت عملية تطور وسائل الاتصال الجماهيري “الميديا”، لعقود طويلة في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، واقعاً معقداً ومتشابكاً مع البنى السياسية والاجتماعية ـ الاقتصادية لدرجة صار من الصعب الحكم عليها، دون مناقشة جوانب شديدة الصلة بها مثل درجة تعمق الديمقراطية والحفاظ عليها كمكسب جماهيري، ومقدار تمتع الناس بحقوقهم في الحصول على المعلومات في بلدان تأسس تطورها على مباديء من بين أهمها “حرية وصول المعلومة” الى المواطن دون “فلترة” أو تلاعب، وصولاً الى طبيعة النظام السياسي الذي يتوقف عليه وجودها كجزء من البناء الفوقي للمجتمع، تتيح حريتها للمواطن امكانية مشاركته في صنع القرار السياسي، ومن هنا تبدو مهمة المخرج جون ـ فيليب ترمبلاي غاية في التعقيد حين أراد معرفة ما آلت اليه حرية الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلالها أراد التحرى عما إذا ظل منها، اليوم، شيئاً.. غير ظلالها؟
للإحاطة الكاملة بفكرة الوثائقي كان لابد من حشد مختصين بالاعلام وبقية العلوم الاجتماعية، وكان لابد من توفير الوثائق والصور اللازمة لدعم جوانبه التاريخية، التي تؤسس لفهم جيد حول بدايات ظهور الاعلام الحر وصولاً الى بقاياه التي وصفها العنوان بوضوح: “”ظلال الحرية”. عنوان يجمع ببراعة الحرية وكل تعبيراتها والاعلام بمفهومه الأوسع. لربط هذه المفاهيم ببعضها ينطلق الفيلم من مجموعة توصيفات للمجتمع الأمريكي اليوم ومنها: أن الأمريكي يعرف عن تجارة الجنس ومشاهير هوليوود، أكثر مما يعرفه عن الاقتصاد والبيئة.

المخرج جون فيليب

 والمجتمع في أغلبيته محجوب عنه الكثير من الأخبار عما يجري في الخارج، وبشكل عام تنقص المواطن الأمريكي المعلومات، لأسباب لها صلة بمصالح اقتصادية وسياسية لحفنة من المتنفذين وأصحاب الشركات الكبرى يريدون السيطرة على أفكار الناس، وعلى هذا يأتي الوثائقي بطريقة غاية في السلاسة والعمق ليربط ظهور تاريخ الصحافة الأمريكية بثورتهم التحررية من نير السيطرة البريطانية ويقدم عبر مراجعة بصرية بالرسوم المتحركة لما أسسه الصحفي توم بين حين أصدر مطبوعاته الورقية الأولى وهي تجمع بين أهمية تزويد الأمريكي بالمعلومات وبين نيله حريته واستقلاله، ثم يستعرض عبر مجموعات عناوين فرعية تطور الاعلام من صيغه البسيطة وصولاً الى يومنا هذا حيث “الميديا” أوسع تعبيراً عن “الصحافة” التي ظلت لعقود طويلة تعبيراً عن آلية توصيل الأخبار والمعلومات عبر الصحف الورقية والتلفزيون والراديو، وكانت فيها مساحة الاعلام المحلي مهمة في تطور المجتمع الأمريكي قبل ظهور الموديلات الجديدة التي يطلق عليها اسم “الاتحادات الاعلامية الكبرى” عندما تجمع الكارتلات التجارية العملاقة تحت سقفها كبريات وسائل الاعلام والاتصال، فتضمن لأصحابها التحكم بالمعلومات والسيطرة عبر مديات زمنية بعيدة على أفكار الناس وعقولهم، والوثائقي يرتكز في بنائه على هذا التطور الخطير الذي يهدد الديمقراطية ولا يُبقي من حرية الإعلام الحقيقي سوى ظلال باهتة. لقد اختفت الصحافة المحلية، المستقلة، تقريباً في معظم الولايات المتحدة الأمريكية وانضوت الكثير منها تحت جناح حفنة من الشركات التجارية العملاقة مثل: “تايم وورنر” و”نيوزكوربريشن” و”ديزني”. واتحدت في نفس الوقت مؤسسات اعلامية وصحافية كبيرة فيما بينها وخارج الحدود الجغرافية لمراكزها، مثل (فياكوم) مع (سي بي أس نيوز) و(أي بي سي) مع (ديزني) لتعبر باندماجها عن وحدة مصالح اقتصادية فوق قومية، لن تبقي سوى على هامش ضئيل من حرية التعبير، كما يأتي عليها  الوثائقي من خلال تجربة الصحفية اللامعة روبيرتا باسكين التي منعت ريبورتاجاتها التلفزيونية في محطة “سي بي أس نيوز”عن فرع شركة “نايكي” لصناعة الأحذية والملابس الرياضية في فيتنام، من البث. ستكتشف الصحفية أن شركة نايكي قد ضمنت للمحطة قسطاً كبيراً من اعلاناتها التجارية بما يضمن ربحها على المدى الطويل، وبخاصة أثناء تغطيتها لبطولة الألعاب الأولمبية الشتوية، وانها لن تضحي بكل ذلك من أجل نقل حقيقة ما يتعرض له العمال الفيتناميين من استغلال داخل الشركة العملاقة. وعلى المستوى السياسي تحالفت “الاتحادات الاعلامية” مع المتنفذين من السياسيين، في تبادل صارخ للمصالح كما يظهر في التجربة العراقية. لقد كشف الوثائقي كيف ضلل الاعلام الأمريكي مواطنيه بأكاذيب تبرر شن بوش حربه ضد العراق، وفي مقابلة للوثائقي مع امبراطور الإعلام المعاصر روبرت مردوخ يعلن صراحة ” لقد دعمنا سياسة بوش ووقفنا معه” وبالمقابل سيعمل السياسيون على تأمين أكبر قدر من حرية امتلاك الشركات التجارية لوسائل الاعلام. لقد بدأ الرئيس ريغان أولى الخطوات العملية لتطبيق فكرة الاتحادات عبر تغييره القوانين الأساسية لتنظيم الاعلام وضمان حريته حين أعطى الحق لرجل واحد امتلاك أكبر عدد من المؤسسات الاعلامية وفي مدينة واحدة.

وعلى نهجه سيسير كلينتون وبوش الإبن، الذي كشف الوثائقي تعاونه مع الشركات التجارية ومساعدتها في اطباق سيطرتها الكاملة على الاعلام، مقابل دعم حملته الانتخابية. لقد ضمنت الشركات التجارية بإحتكارها لوسائل الاعلام قدرتها على ابعاد كل ما من شأنه تعريه ممارساتها، وابقاء كل ما من شأنه ترويج تجارتها، وشجعت على خلق نوع من الصحفيين تتوافق طريقة عملهم مع مصالحها، وكانت أولى نتائج هذا العمل تغيير “نوع” البضاعة الاعلامية المستهلكة فبدلاً من خلق مجتمع المعلومات ظهر مجتمع الأخبار السريعة والاعلانات التجارية وعوضاً عن التنافس المهني حلت الهيمنة في اطار من الشرعية القانونية التي ستظهر آلياتها خلال بحث الوثائقي عن دور “لجنة وسائل الاتصال الفيدرالي” التي من مهامها الأساسية حفظ التوازن بين مصالح الشركات التجارية صاحبة المؤسسات الاعلامية وبين حقوق المواطن الامريكي العادي فظهر أن مسؤوليها هم من أكثر المقربين من قادة البلاد وأصحاب الشركات ويسجل الوثائقي لحظة وقوف أحد مدرائها، الى جانب الرئيس بوش وهو يعلن بدأ الحرب على العراق، لقد ظهر التناقض واضحاً، بين مهمته كأمين على التوازن الدقيق  بين المصالح وبين انحيازه الصارخ لطرف دون غيره. لقد غيبت الموديلات الجديدة دور المواطن في صنع القرار من خلال تجهيله بما يجري حقيقة في بلاده وخارجها وحولت الصحفيين الى مشاهدين يتابعون ما تعرضه من تمثيليات على مسرحها. في المقابل تظهر تيارات شعبية واعية تطالب بعودة التوازن المطلوب وتعميق الديقراطية بدلاً من تحجيمها وعلى حد قول الممثل والمخرج السينمائي داني غلوفر “نريد مزيداً من المعلومات تنقلها مؤسسات اعلامية مستقلة ليس من مصلحتها السيطرة على مصادر الأخبار ولا تريد، في الأساس، السيطرة على عقول العالم”.