“عودة ماري بوبينز”.. تكريم لسينما الستينيات

محمد علال

الفيلم الجديد يقدم دروسا للأطفال في احترام الوالدين، ويعزز لديهم الشعور بالمسؤولية والمشاركة في تقديم المساعدة للأب

مخطئون فيما قالوه عن الماضي، لقد تعلمت كيف أدفنه، إلا أنه دائماً يجد طريق عودته”.. على نهج هذه المقولة للكاتب والروائي الأمريكي من أصل أفغاني خالد حسيني في عمله الروائي الموسوم “عدّاء الطائرة الورقية”؛ قررت شركة والت ديزني العودة إلى فيلم “ماري بوبينز” الذي أخرجه البريطاني روبرت ستيفنسن عام 1964، لتقدم الجزء الجديد بعنوان “عودة ماري بوبينز”، وهو من سيناريو وحوار ديفيد ماغي وإخراج روب مرشال.

تعود والت ديزني إلى الماضي وتمنح شهادة ميلاد جديدة لأهم أفلام الشركة السينمائية المتخصصة في أعمال الأطفال. وقد شهد عام 2018 “العودة” بأبطال جدد تتقدمهم الممثلة الأمريكية إيميلي برانت في دور ماري بوبينز، والممثل الإنجليزي بن وشو في دور الأب مايكل بانكسفي، ومشاركة شرفية لواحد من أبرز شخصيات الجزء الأول الممثل الأمريكي ديك فان دايك في دور مستر داويز جونيور، وإخراج الأمريكي روب مرشال الذي برع في تقديم فيلم “شيكاغو” وحاز على أوسكار أفضل فيلم عام 2002. 

الآن وقد مضى وقت كاف على النجاح الذي حققه الجزء الأول بخطفه أربعة جوائز أوسكار، حان الوقت لشغف جديد يبدو أنه وُلد بعيدا عن ذلك الضجيج الذي صاحب ميلاد الجزء الأول، ففي السابق حاولت مؤلفة القصة الأصلية الكاتبة البريطانية بي إل ترافرس بكل الطرق أن توقف عرض الجزء الأول من الفيلم، وذلك بعد أن اعتبرت أنه لا يمثل الحكاية الأصلية التي كتبتها، لهذا ظلت تشعر بالحزن حتى آخر يوم من عمرها، رغم النجاح الذي حققه العمل.

 

العودة إلى التفاصيل.. مفتاح لعمل مختلف

هكذا تأتي العودة كأنها تحمل تكريما خاصا واعترافا بأهمية سينما الستينيات، فمن خلال التركيز في تفاصيل النسخة الجديدة للفيلم نجدها إعادة كتابة دقيقة ومشفرة لسيناريو الجزء الأول، حيث عادت الشخصيات الرئيسية بعد حوالي ثلاثين عاما بنفس التقاطعات، فالابن يشبه الابن في سلوكه وشخصيته وحتى المهنة، فقد أصبح الطفل مايكل بانكز (جسّد دوره في الجزء الأول الممثل الراحل ماثيو جاربر) عاملا في البنك تماما كما كان يعمل والده جورج (جسّد دوره في الجزء الأول الممثل الراحل ديفيد توملينسون)، ولا يزال مايكل يعيش رفقة شقيقته جاين إيملي مورتيمر، ولديه ثلاثة أولاد يشكلون الحلقة المحورية في الفيلم، تماما كما في الجزء الأول، لكن مع إحساس أكثر بالمسؤولية تجاه الوالدين.

كما يقدم الفيلم الجديد دروسا للأطفال في احترام الوالدين، ويعزز لديهم الشعور بالمسؤولية والمشاركة في تقديم المساعدة للأب، حيث يظهر الأطفال أكثر نضجا ووعيا بالمشاكل التي تحاصر والدهم الذي يواجه مشكلة مالية كبيرة، ويعجز عن تسديد بعض الديون، مما يهدده بفقدان البيت المرهون لدى البنك. 

لقد عاد المخرج إلى تلك التفاصيل ليصنع عملا مختلفا، وكأنه يحاور فترة زمنية كاملة ومرحلة عمرية من تاريخ السينما العالمية، فلم يهمل أي شيء في الجزء الأول إلا وجعل منه مفتاحا لعمل مختلف، وقد فتح الأبواب لكل نجوم الجزء الأول الذين لا يزالون على قيد الحياة، إلا أن المفارقة هو أن بطلة الجزء الأول الممثلة جولي آندروز رفضت المشاركة بأي شكل من الأشكال، وقررت أن تترك المجال لإيميلي بلانت لتكون وحدها البطلة بلا منازع، وهو ما تحقق فعلا، حيث لم يقلّ مستوى أداء بلانت عن أداء جولي أندروز، وهو ما يعزز من إمكانية أن تحمل العودة تتويجا جديدا بالأوسكار لماري بوبينز في نسختها الجديدة، والتي تميزت أيضا بحضور يحمل ثقة كبيرة وسط الديكور وألوان الملابس المصممة بدقة لامتناهية، فيما حضر عدد من النجوم الذين لا يزالون على القيد الحياة في بعض المشاهد البسيطة ومنهم ديك فان ديك، مع حضور شرفي لأول مرة للنجمة ميريل ستريب في دور توبسي، والذي حمل تكريما غير مباشر للهجة ديك فان ديك في الجزء الأول خلال أدائه لدور “بيرت” صديق ماري بوبينز.

الجزء الثاني يأتي من الفيلم مشحونا بالموسيقى والأغاني التي تنقل الجمهور إلى الذكريات

الموسيقى.. ألحان تداعب الذاكرة والذكريات

كما قال فريدريك نيتشه “دون موسيقى ستكون الحياة غلطة”، يأتي الجزء الثاني من الفيلم مشحونا بالموسيقى والأغاني التي تنقل الجمهور إلى الذكريات، ويبدو أن المخرج حفظ جيدا مضمون نظرية الباحث الألماني المتخصص في علم النفس ديفيد سي روين التي دونها في كتابه “ذاكرة في التقاليد الشفهية”، فقد أشار إلى الدور الهامّ الذي تلعبه الموسيقى في التأثير على آليات الدماغ بالموسيقى، وتساعد في رسم ملامح الذاكرة والذكريات، مما يوضح كيف يمكن لمقطع موسيقي واحد نقل الروح إلى تلك اللحظات السعيدة أو التعيسة، وتذكّر الأشخاص والأماكن بشكل لا إرادي، حتى وإن مضى على سماع الأغنية نصف قرن تقريبا، كما هو حال أغاني فيلم “ماري بوبينز” في الجزء الجديد، والتي حملت مغازلة لروح أغاني الجزء الأول، وأكدت هوية العمل الموسيقية الفانتازية.

هكذا جاءت الموسيقى في الجزء الثاني كنوع من التكريم للأخوين ريتشارد ووليامز شيرمان اللذين كتبا ولحّنا موسيقى الجزء الأول. وقد عاد كل من العازف مارك شيمان والكاتب الموسيقي سكوت ويتمان إلى أرشيف موسيقى “ماري بوبينز” واستنسخا ألحانا جديدة تحمل لمسة ألحان الجزء الأول بطريقة ذكية، وذلك لمداعبة الذاكرة والذكريات.

عام 2018 شهد "العودة" بأبطال جدد تتقدمهم الممثلة الأمريكية إيميلي برانت في دور ماري بوبينز

ميلاد الجزء الثاني.. وسينما الماضي

ففي عالم السينما هناك ثلاثة أمور تجعل للساعات التي نقضيها في المشاهدة طعما آخر: أولا دون أدنى شكّ؛ نوعية شاشة العرض وحجمها وجودة الصورة والصوت، وثانيا الكرسي ومستوى الرفاهية، وثالثا الجمهور الذي يشاركنا تلك المتعة، وتحديدا الشخص الذي يرافقك في الرحلة، والذي ستخرج معه من القاعة سواء متفقا بأن الفيلم مميز أو مختلف، وفي الحالتين سيكون هناك خط تواصل مدهش لو تعلق الأمر بمن شاهد الجزء الأول من الفيلم، فقد كبر جيل كامل مع تلك المتعة التي حققتها النسخة الأولى من فيلم “ماري بوبينز”، وهو ما يجعل الجيل القديم أكثر ضعفا وأكثر تماسكا واستيعابا لمفهوم الفيلم ورسائله.

وحتى لو لم تشاهد النسخة الأولى من الفيلم أو لم تقرأ الرواية، فإن الجزء الثاني حفظ لجميع المشاهدين فرصة مدتها ساعتان لفهم تقاطيع سينما الماضي، ويتضح ذلك جليا من خلال الرسوم المتحركة المدرجة بعناية شديدة، لتشكل عرضا يجمع بين الموسيقى والحوار الذكي يشكل تردد الخيال الفني قريب جدا من روح الفيلم الجديد دون أن يستولي عليه كليا، معتمدا على المؤثرات البصرية التي لا تزال تشكل حلقة محورية من صناعة أفلام “ديزني” منذ نشأتها عام 1922، وهو ما يعكس تفوق الشركة في هذه الصناعة المعقدة.

وكما تقول أغنية “ملعقة سكر” الشهيرة في الفيلم، فقد جعل المخرج روح الفيلم في الجزء الثاني أكثر حلاوة بألوان جذابة، ليقدم كوكتيلا لذيذا وخلطة سحرية لجمهور ظلّ محاطا بالأسئلة منذ اليوم الأول لإعلان ميلاد الجزء الثاني من الفيلم: فكيف يمكن لعمل جديد أن يتجاوز تلك المسافة التي تشكل محور الإعجاب اللامتناهي لجيل كامل بالنسخة الأولى للفيلم؟! وعدة أسئلة وضعت العمل أمام تحديات كبيرة انتهت بتقديم فيلم مختلف وقادر على حجز المكانة له في قائمة أهم أفلام عام 2018، ومنه حجز تذكرة المرور إلى المسابقات الكبرى مثل “غولدن غلوب” (رُشّح لها في ثلاث فئات)، و”الأوسكار” (رُشّح لها في خمس فئات).

العودة هي فكرة تعيشها عشرات الأفلام العالمية، ففي السنوات الأخيرة شاهدنا "عودة سبايدر مان" للمخرج براين سينغر عام 2006

العودة.. إعادة بريق النجومية المسروقة

بشكل عام فإن العودة هي فكرة تعيشها عشرات الأفلام العالمية، ففي السنوات الأخيرة شاهدنا “عودة سبايدر مان” للمخرج براين سينغر عام 2006، و”عودة الرجل الوطواط” للمخرج تيم برتون عام 1992، وشاهدنا مؤخرا “باتمان ضد سوبرمان” للمخرج زاك سنايدر عام 2016، وحتى أبطال “حرب النجوم” عادوا عدة مرات.

وقد يستعمل بعض النجوم هذه المعادلة لإعادة البريق إلى نجوميتهم المسروقة في زحمة الأعمال التي تولد كبيرة على يد الجيل الجديد، ففي العالم العربي تحدّث النجم المصري محمد هنيدي عن الجزء الثاني لفيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، وقد انقسمت الآراء بين مرحب ومشكك في المشروع، مع إجماع على أهمية الفكرة، ومنه يمكن أن نفهم كيف تحب السينما إعادة الذكريات الجميلة التي عاشها الجمهور مع هذا الفيلم أو ذاك، لهذا فإن خبر العودة دائما ما يُحاط بالترحيب؛ أقلها في بداية الأمر.