فكتوريا وعبدول.. حكاية خادم ملكة بريطانيا المسلم

“مبني على أحداث واقعيّة.. تقريبا” هكذا جاءت مقدمة فيلم فيكتوريا وعبد الـكريم، والتي نجحت الأسرة المالكة وحاشيتها في إسرارها ولم تظهر إلى النور إلا بعد وفاة بطليها بفترة من الزمن. الفيلم من إخراج ستيفن فريرز ومأخوذ من كتاب الكاتبة الهنديّة “شراباني باسو” مستندة في كتابته إلى مذكرات عبد الكريم التي اكتشفت بعد وفاته، وعلى مصادر تاريخية أخرى موثقة تحكي عن هذه الحقبة التي سميت بالعصر الفيكتوري نسبة إلى الملكة فيكتوريا.

يحكي الفيلم عن آخر فترة في حياة الملكة فيكتوريا (24 مايو/أيار 1819- 22 يناير/كانون الثاني 1901) ملكة بريطانيا العظمى وأيرلندا والتي أضافت لنفسها لقبا مستحدثا وهو إمبراطورة الهند. تُوّجت فيكتوريا في 1837 وتزوجت من الأمير ألبرت عام 1840 وأنجبا خمسا من البنات وأربعة من الصبيان خلال 17 عامًا، فكان زوجها يحكم معها لانشغالها بالأطفال حتى توفي عام 1840.

فترة حكم فيكتوريا هي ثاني أطول فترة حكم في تاريخ إنجلترا بعد الملكة إليزابيث الثانية ملكة إنجلترا الحالية. حكمت فيكتوريا من 20 يونيو/حزيران 1837 وحتى وفاتها في 22 يناير/كانون الثاني 1901، أيّ 63 سنة. المعلومات التي رويت عن فيكتوريا منها ما يشهد بتصلب رأيها واستخفافها باللوائح، ومنها ما يصورها أنها لا تستشير حاشيتها حين تتخذ خطوة خارج جدولها اليومي الذي يضعونه لها.

ملكة أعتى الإمبراطوريات وخادمها المسلم

حين ذهبتُ لدار العرض في الولايات المتحدة توقعت أن يكون المكان شبه خال وخاصة في يوم عمل وخلال النهار، لكنّني فوجئت بإشغال معقول، حيث وصلت مكاسب الفيلم  إلى 32 مليون دولار، وهو مبلغ ليس بالكبير إلا إذا عرفنا أنه لم يعرض في كل دور العرض، وبالنسبة لي كمشاهدة عربية فقد انجذبت لاسم “عبدول” (Abdul) في عنوان الفيلم، أما المشاهد الغربي فانجذب لفيكتوريا إذ أنها الشخص الأقرب لدائرته الفكرية، ومما لا شك فيه أن اقتران الاسمان جذب الجميع، وإن كانت القصة أساسًا هي قصة عبد الكريم حيث كان في العشرينات من عمره فقط حين قابل الملكة، ومات بعد عودته إلى الهند بثمانية أعوام أي في الـ46، فهي تروي أهم سنوات عمره وأكبر أحداث حياته.

أمّا بالنسبة لفيكتوريا، فقد عاشت حياة طويلة يُعد عبد الكريم الضلع الأخير فيها، لكن كان في حياتها رجال غيره وثقت بهم، حتى أنّ هناك فيلمًا وثائقيا بعنوان “رجال فيكتوريا”، فهي من الشخصيات المحيّرة لأي متابع، وحياتها العامة التي حرص البلاط الملكي أن يجمّلها مع شخصيتها المتطلعة العنيدة أرسلت رسائل متعارضة تركت مجالا واسعا للتخمين.

في الفيلم الذي نتحدث عنه، فإن المعلومات عن هذه العلاقة مأخوذة أساسًا من الطرف الآخر، وبينما قدمها فيلم وثائقي آخر على أنها قصة حب واختار العنوان “الملكة فكتوريا.. الحب الأخير” (Queen Victoria’s Last Love) فإن الفيلم الذي بين أيدينا نوّه بأنها علاقة كان من الممكن أن تتطور قبل أن يخبرها عبد الكريم بأنه متزوج، فما كان منها إلا أن أحضرت زوجته وأنزلت الأسرة في بيت ضيافة ملحق بالقصر، وكانت زوجته متنقبة. استمرت علاقة صداقة وولاء عميقة بين الملكة وخادمها أثارت دخيلة الحاشية فهددوا بالاستقالة الجماعية إن أنعمت عليه بلقب آخر يرفع مكانته.

الفيلم أكد على لسان أكثر من شخص أن النقيصة في عبد الكريم هو أنه هندي ولم يعرض الحقيقة بأنّه مسلم وحافظ للقرآن، لكنّ الحقيقة غير ذلك، فقد ظنّوا أنه هندوسيا حتى علموا بصلاته فاتخذوا دينه ضدها وضده، ولا أدري إن كان تجاهل هذه المعلومة هدفه عدم إثارة المسلمين والمدافعين عنهم في وقت تتكالب فيه الأمم عليهم وتسجل حولهم انتصارات سياسية، أم أنّ صناع الفيلم لم يستشعروا أهمية الدين إذ إنّ مظهر عبد الكريم ولون بشرته كانا أكثر وضوحًا؟

السينما.. سلاح أم لعنة؟ 

صناعة الأفلام يمكن أن تكون سلاحا يُحارب به الأفكار العدائية والكراهية، فلا أحد يملك إلا التعاطف مع الملكة فيكتوريا ومع عبد الكريم وحقه في معاملة متساوية، وأي مثقف عادل لا يملك إلا احترام فيكتوريا “التقدمية” في وقت كانت العنصرية هي المحك والدافع لكثير من الحروب، لا أحد يصدق أن ملكة الإمبراطورية البريطانية التي قتلت الملايين وغزت وحاربت واستحلت ثروات البلاد الإسلامية تحن لرجل مسلم من تلك البلاد، وتنشأ بينهما علاقة ود تحت أيّ مسمّى.

الفيلم نال انتقادًا كبيرًا من جميع الأطراف، فشخصية عبد الكريم شخصية متسلقة ذليلة لكنه يحمل حب دينه والاعتزاز به، ويظهر الذين يعادون عبد الكريم لأصله أو لونه أو دينه في صورة سطحية قاسية، بل ويعرض استخفاف الإنجليز لأهل البلاد الأخرى مثل إسكتلندا وليس فقط الهند. باختصار إن كان لديك حساسية من الصورة السلبية للمسلمين في السينما فستجدها، وإن كان لديك حساسية من الصورة السلبية للأسرة الإنجليزية الحاكمة فستجدها، لذا فإن الفيلم لم يرض أيّا من الأطراف.
بدأت الأحداث ساخرة تناسب الكوميديا الدرامية، ومع تقدم الحبكة وسن الملكة فيكتوريا ومرضها بدأ الحزن يخيّم على المناخ، ولم يكن مناسبًا أن تأتي النهاية سعيدة إلا بإقحام أحداث خيالية لا تتناسب مع الأحداث التاريخيّة، فجاءت النهاية حزينة.

عبد الكريم.. “مُنشي” الملكة

عبد الكريم كان شابًا هنديا مسلمًا يعمل كموظف في إدارة السجن في الهند، كان حافظًا للقرآن الكريم طموحًا ومطّلعًا، لكنه يكذب إن رأى في ذلك مصلحة له أو لقومه. كان طويل القامة عريض المنكبين، وكانت لديه رؤية ويلمح الفرصة حين تأتيه. اختير لمهمة قصيرة في إنجلترا، فقد كان عليه أن يذهب برفقة رجل آخر إلى القصر الملكي في بريطانيا العظمى ويقدم هدية رمزية للملكة فيكتوريا ثم يعود إلى الهند. وعلى الرغم من التشديد بألاّ ينظر للملكة ولا تلتقي عيناه عيناها فإنّه فعل، لاحظته فيكتوريا وأعجبت بمظهره ممّا أعطاه فرصة أخرى لتقديم حلوى لها، هذه المرة قيل له قدمها للملكة دون مزيد من الإرشادات، فقدمها وانحنى وقبّل قدميها، فأعجبت بذلك الاهتمام الذي أخرجها من رتابة الحياة والروتين، كذلك وهي المرأة التي عرفت بمخالفتها الأعراف وبولعها بالمغامرات، كانت تتوق لمشاهدة ثقافات أخرى وكان لديها فضول من ناحية الهند التي تحكمها دون أن يسمح لها بزيارتها لدواع أمنية، فرأت عبد الكريم وجيها في زيه الهندي المزركش والعمامة الأنيقة، فكان ضالتها التي غيرت أواخر أيامها في هذه الدنيا، وجعلته خادمها الخاص، وأفسحت له المجال للتحدث عن الهند وعن إيران وعن ثقافات مختلفة.

عبد الكريم كان شابا هنديا مسلما يعمل كموظف في إدارة السجن في الهند، كما كان حافظا للقرآن الكريم طموحا ومطّلعا

زاد تأثير علاقة عبد الكريم بالملكة فيكتوريا وبدأت تغيرات تحدث بالقصر الملكي، فظهر بهار الكاري على المائدة الملكيّة أسبوعيا. كذلك شارك عبد الكريم في تصميم بهو على التراث الهندي، واعتلت لوحته إحدى الحوائط. صار أيضًا يصحب الأسرة المالكة والخدم المقربين في رحلات الملكة للدول الأوروبية، ويقال إنه هو الذي خطط لرسم لوحة له ضمنهم وأرسل بها للصحف، وهذا يدل على إدراكه لأهمية رسم صورة لدى الناس وترسيخها في الأذهان. هل كان هدفه رسم صورة لنفسه أم التقريب بين الثقافتين؟ ربما تكون نواياه تأرجحت بين هذا وذاك تاركًا لنا الاستقراء. أيا كانت نيته فهي لا تعفيه من نقائص الكذب، فقد جمَّلَ مكانة أسرته البسيطة للملكة فيكتوريا ليبدو أنّه من سلالة أعلى، فخطر على بالها أن يكون معلمها الخاص وأعفته من مهمة خدمتها، وظلت تناديه بالــ”مُنْشِي” وهي كلمة تستخدم في الهند بمعنى المعلم.

قامت “جودي دينش” (Judi Dench) بدور الملكة فيكتوريا بينما قام علي أفضل بدور عبد الكريم. وفي لقاء تلفزيوني معه قال أفضل إنه تم اختياره من ضمن العديد من الممثلين لأداء هذا الدور. جودي دينش ممثلة خبيرة وقد أتقنت أداء دورها بلحظاته الطيبة الحساسة والأخرى الشديدة الحاسمة، فظهرت في ضعفها تبكي أمام عبد الكريم وتشكو له حالها وهي أقوى امرأة في العالم، ووقفت أمام حاشيتها توقفهم عند حدهم حين اعترضوا على ترقية عبد الكريم، رأيناها وهي مستقلة بفكرها وترد من رأسها، ورأيناها وهي تكرر رأي عبد الكريم كطفلة تتعلم الكلام من أبيها، وتمكنت من كل لحظات تلك الشخصية بنفس المستوى من الأداء.

الاحتلال الإنجليزي.. رومانسية دموية

بريطانيا هي أكثر دولة في العالم جلبت السعادة للعديد من الشعوب وذلك باحتفالهم بهزيمتها ورحيلها عن بلادهم في احتفالات سنوية مع عطلات وطنية لتذكر الجميع بسخافة فكرة الاحتلال وببسالة محاربيه في كل وقت وحين. فحين تقدم ملكة هذا الاحتلال كإنسانة، نترك أكثر حيرة من طبيعة الإنسان الذي يتجبر رغم ضعفه، ويعاني من انفصام حاد في الشخصية ما بين المكاسب التي تبرر له مواقفه وبين مشاعره حين تقع عينه في عين من ظلمهم.

لم أقابل عبد الكريم، لكنّ رأيي في شخص قبّل قدم امرأة احتلت أرضه واستحلّت أرواح أهله وأموالهم لا يمكن أن يكون رفيقًا. هذا التناقض يصعب معه رؤية هذه العلاقة بشكل حانٍ، لكنه يؤكد أن حقارة فكرة الاحتلال والحروب في أنها تصدر من محصنين خلف الأسوار يخاطرون بحياة شباب في سن الورود فتكون خياراتهم إما الانبطاح للأوامر أو مقاومتها والسجن.

هل حقًا كل من شارك في الغزو البريطاني كان يريد قتل أب لأطفال أو ابن لأم مريضة أو زوج لامرأة كسيرة؟ هل فكّر أي جندي من جنود الاحتلال البريطاني في إنسانية أعدائهم أم أنّ العجرفة أعمّتهم؟ في النهاية لا نملك إلا توحيد الحكم عليهم جميعًا فمن حمل السلاح على قوم آمنين في بلادهم سواء متحمس له أو مجبر عليه لا يمكن أن يعذر بجهل أو بضعف وهو القاتل المحتل المتجبر. ربما يقدم الاحتلال في هذا الفيلم بشكل لطيف لكنها رومانسية دموية.