قصة زواج.. حكاية القصور الآدمي

إسراء إمام

يُقال إن الإخفاق في الحب يليق بنقص البشر.. هذا بالضبط ما يناقشه المخرج “نوح بومباخ” في فيلمه لهذا العام “قصة زواج” (Marriage Story – 2019). فهو يقدم لنا نموذجا لانهيار قصة حب تألقت في بدايتها ولعدة سنوات لاحقة، لكنها وبالرغم من كل التوقعات المأمولة، تتخذ المسار المعتاد المؤدي لتلك النقطة التي يخذلنا فيها الحب ويفرّ هاربا متخليا عنا، يتركنا نواجه عيوبنا وطبائعنا المرتبِكة وحدنا.

يبدأ الفيلم بفوتومونتاج مميز (الفوتومونتاج هو تجميع صور في لقطات مركبة)، ويتناوب فيه كلا من الزوجين في تعداد الصفات المحببة للآخر، فيُسهِب الاثنان في مديح بعضهما بانسيابية تشير إلى مدى ارتباطهما وتُبين قدر الحميمية التي تجمعهما. والحقيقة أن هذه الافتتاحية تعد الأجدر دون غيرها ليُبدأ بها فيلم كهذا؛ فيلم يُبرز ذلك التناسب الطردي العجيب بين مقدار الحب والألم، وبالتالي يبين التناقض الواضح الذي يمكن رصده لشكل بداية علاقة كهذه ونهايتها.

بهذه الافتتاحية استطاع المخرج والمؤلف “نوح بومباخ” أن يعزلك عن واقع ما تمر به العلاقة في أول الفيلم، هذا إلى جانب أنه لم يجعلك على علم بمدى حب الزوجين “نيكول” و”تشارلي” فحسب، وإنما دفع بك لتعايشه وتصبح جزءا منه، مما قد يدفع بك لتشعر بشعور ذلك الممثل من فِرقة “تشارلي” المسرحية الذي قال في إحدى المرات مُعلقا على طلاقهما: أشعر وكأن والدَيّ هما اللذان ينفصلان.

إنها افتتاحية لا تخرج إلا من تحت يد مخرج مؤلف، يكتب ويعِي كيف ينفخ في تفاصيل كتابته الصورة التي تلائمها، فيُجسّدها متناغمة تماما، كحلمِ يقظة لم يفارق مَنبتها في الخيال، فظل محتفظًا بنقاوته ونضارته، وهكذا أيضا بدا الفيلم بأكمله ما بين سيناريو مُتقن، وصورة ذكية تدل عليه.

 

خلافات.. تدمر الحب

في البداية، تظهر مشاعر “نيكول”، نراها منهارة تبكي قبل سفرها إلى “لوس أنجلوس” وكأنها تنعى علاقتها المتصدعة بـ”تشارلي” دون أن نعلم سبب ذلك، لكننا نستشف مُلخص الأمر دون تفصيل حين تقول “نيكول” لوالدتها أثناء نقاش هادئ يدور بينهما لم أتخلص من الإذعان لما يريده تشارلي، وآتي هنا كي أنصاع لما تريدينه أنتِ.

ثم تتوالى المواقف التي تدعم هذا الانطباع حينما يعاتب “تشارلي” “نيكول” على مكافأتها ابنهما “هنري” مقابل دخوله الحمام، فيخاطبها وكأنها تلميذة هو معلمها الذي يملك الرؤية الأفضل للأمور، بينما تجاوبه هي محاولة التبرير بتلقائية، وكأنها اعتادت ذلك التصرف وتأقلمت على التعامل معه بهذا الشكل. ثم ينتهي رحيله ليلتها بممارسته لهوايته المحببة في توفير الكهرباء، فنراه يُطفئ النور وهو يغادر دون عناء سؤالِ ما إذا كانت “نيكول” ترغب في هذا أم لا.

حيال ذلك الحصار الواضح، وبالرغم من أنها قد اتخذت قرار الانفصال بالفعل، نجد “نيكول” ما زالت ليّنة مع “تشارلي”، وتومئ برأسها حينما يطلب منها أن تعود إلى نيويورك بعد تصوير حلقة مسلسلها -وهي التي ترغب في الإقامة بموطنها “لوس أنجلوس”- فلا زالت تهاوده لأنها تخشى على مشاعره، وعندما يُؤثر “هنري” ابنُهما صحبتها على والده، تعتذر له مُوضحة أن الموضوع مجرد مرحلة طبيعية في الطفولة. ولكن يتغير كل هذا بعدما تدخل “نورا” محاميتها إلى حياتها.

فبعد زيارة “نيكول” الأولى لـ”نورا” ننقطع عنها وعما يحدث معها، ونرى كل شيء -سيحدث لاحقا- من وجهة نظر “تشارلي” الذي نتفاجأ مثلنا مثله بأن “نيكول” توافق على كثير مما تقوله “نورا”، والذي يُنذر بشيء من الحسم في التعامل مع الأمور، إضافة إلى قيامها بعدد من الحركات التي تقوم بتعجيزه قانونيا بعمد عندما زارت عددا من المحامين لكي تُضيق عليه الخيار.

والحقيقة أن “نوح بومباخ” قد وشى لنا بكل ذلك بأكثر من وسيلة، أولها طلة شخصية “نورا” نفسها؛ تلك المرأة المتأنقة التي تعتذر في الوقت ذاته على قلة هندمنتها لـ”نيكول” لأنها كانت في اجتماع سابق، والمُفرطة في تدليل نفسها بعدما عانت مع رجل خذلها سابقا، وعلّمها أن تعلي من شأن رغباتها هي والسيدات اللواتي يلجأن لها.

وهنا نأتي للوسيلة الثانية التي بدت رمزية للغاية، وتكمن في مدى تلذذ “نيكول” بمذاق الشاي والكيك الذي قدمته لها “نورا”، لدرجة جعلتها تقطع استرسال حديثها مرتين لكي تعبر عن إعجابها بمذاقهما، فنرى في تلك التفصيلة العابرة دلالة خفية تفيد بأن كل ما قدمته وستقدمه “نورا” لـ”نيكول” سيكون مبهرا، وسيعود إليه الفضل في قلب حياتها رأسا على عقب، كما سبق وقالت لها المرأة التي دلّتها في الأصل على “نورا”: لقد غيرتْ نورا حياتي.

وسادة كُتب عليها “كل، واشرب، وتزوج مرة أخرى”

 

كل واشرب وتزوج مجدداً

هكذا كان “بومباخ” يُوّظف تفاصيل الشخصيات لكي تَدل على بعضها البعض، وتخدم النسق الدرامي نفسه، وقد تكرر الأمر حينما استطعنا من مشهد واحد أو اثنين على الأكثر أن نتعرف على خصال ذلك المحامي الذي يحرص على التعامل مع طرفي النزاع باعتبارهم آدميين، وعلى نقيضه الآخر الذي لا مانع لديه من أن يحوّل القضية إلى ساحة حرب.

ففي مكتب الأخير مثلا، نجد عينيْ “تشارلي” تقع على وسادة مكتوب عليها ” كُل، اشرب، وتزوج مجددا” في كادر لا يتعدى جزءا من الثانية، ولكنه يوحي بالكثير عن أسلوب هذا المحامي المادي الجشع في التعامل مع قضايا الطلاق.

نرى “بومباخ” وهو يعيد استخدام ذلك الأسلوب في الحوار بمشهد مراقبةِ مندوبة المحكمة لشكل رعايته لابنه “هنري”، لنجده يضعنا في محل المراقِبة نفسها، نشاهد ونترك المواقف تخبرنا عما ستؤول إليه الأمور، فكان من الواضح دون أدنى تعليق أن “هنري” لا ينصت لوالده، يسأم سريعا أثناء المذاكرة معه، ولا يسمح له بتقبيله من خده حتى، وإنما يُدني له شعره ليضع قبلته عليه.

ثم يأتي ذلك الموقف الشؤم الذي يؤكد تماما أن “نيكول” هي من سيفوز، وذلك حين يجرح “تشارلي” يده بحماقة أمام المندوبة وينزف بغزارة، وكأنه يقول لها “أنا أب أبله، قد أفعل ذلك مع ابني بسهولة ودون قصد”. وليس ثمة طريقة أكثر فنية من تلك التي ظهرت في هذا المشهد لتخبرنا في صمت أن “تشارلي” هو من سيخسر.

“تشارلي” يعزف و”نيكول ” تنظر إليه بحب

 

تسوية سلمية.. وخروج عن السيطرة

الحوار أيضا في هذا الفيلم حيوي وجمالي، يتسم بإيقاع سريع بل متداخل في بعض المشاهد (مشاهد تصوير حلقة نيكول ومشاهد بروفات الفرقة)، ولكن الأهم أنه يبدو تصاعديا كما ينبغي أن يكون في المشاهد التي تتطلب ذلك، مثل ذاك المشهد البديع الذي يتشاجر فيه “تشارلي” و”نيكول”، فقد انتقل معك حينها بهدوء من رغبة الطرفين في تسوية الأمر بسلام، إلى نزعة دموية خارجة عن السيطرة تماما يتمنى فيها “تشارلي” لـ”نيكول” الموت.

ولا يمكننا أن نُغفل براعته في تشريح أوجاع الزوجين بالتساوي، حيث يتعرى كل شيء يضمرانه لبعضهما فجأة أمامك، فلا يبقى ثمة مزيد من الأسرار أو مساحات التخمين، وبالتالي ساهمت تلك النقلة النوعية في صدمة درامية جعلتك تدرك بالتأكيد أن المعضلة لا تكمن في خطأ فردي يمكنك إلقاء اللوم عليه.

يكفي ذلك الارتباك الملحوظ في شخصية “نيكول”، فقد حملها طيب خاطرها أن تقبل حياة لن تلائمها، لأنها لا تعرف نفسها بالقدر الواجب وبالتالي تعاني دوما من مدى صحة قراراتها حتى ولو بعد فوات الأوان.

في المقابل عَنى “تشارلي” تماما كل ما أسسه في حياته مع “نيكول”، فقد كان واضحا بعض الشيء حتى في طبعه التسلطي الذي كانت “نيكول” تجيد التعامل معه في وقت ما، وجاءت استفاقة “نيكول” فجأة صدمة موجعة للغاية لـ”تشارلي”، فالإثم هنا يكمن في القصور الآدمي ذاته؛ في أن “نيكول” شخص تائه لا يعرف ما يريد، وأن “تشارلي” شخص ينتمي تماما لما يريد، لدرجة تجعله أنانيا غافلا في بعض الأحيان.

نورا تبدو كاملة الأنوثة في إحدى الجلسات

 

الرمزية.. أنوثة لا ذكورة

يمكننا أن نلمس أيضا مسحة الرمزية التي كان يحملها الحوار في بعض المناطق؛ مثلا تلك القصة التي كان يقرؤها “تشارلي” لـ”هنري” قبل النوم وانتهت برحيل البحار فاستدركت عليه “نيكول” قائلة: لا أتذكر أنها انتهت بتلك النهاية.

فيجيبها “تشارلي”: أعتقد أنه بالغ في ردة فعله بعض الشيء.

ويتدخل ابنهما “هنري” قائلا: إنه منزعج بسبب قاربه.

ترى “نيكول” أن النهاية تعبر عنها، و”تشارلي” يتهمها بأنها نهاية مبالغ فيها، بينما يبررها “هنري” بكل بساطة، فنحن لن نراه بعد هذا المشهد إلا في صف أمه دوما.

الرمز أيضا حضر في المشهد الذي تتحدث فيه “نورا” عن تقبل المجتمع بسهولة لأخطاء الرجل، في الوقت الذي يتعنت فيه عند التعامل بالمثل مع الأنثى، وامتدت هذه الدلالة التي يرمي إليها هذا الحوار لتشمل الفيلم بأكمله، فكان جليا في مشهد صراع “تشارلي” و”نيكول” أنه يرمي إلى صراع شمولي آخر بين الأنوثة والذكورة، فمحامي تشارلي رجل ومحامية نيكول أنثى، وثمة شعور طوال الوقت برغبتها الخفية في الانتقام من الرجال بينما تستميت في الدفاع عن موكلتها كمثال آخر. أذكر تلك النقطة تحديدا ليس من باب المديح وإنما على العكس بعض الشيء؛ أرى فيها إسقاطا مبالغا فيه، أخذ من قيمة ووقت الصراع الفعلي.

المخرج “نوح” الذي يميل للمسرحية في إدارة مشاهده بصريا

 

الصورة.. روح تجسد الحركة

“نوح” مخرج يميل للمسرحية في إدارة مشاهده بصريا، لن تجده مثلا يهتم بالإضاءة بقدر ولَعِه بحركة الممثلين وتضمينها معاني مفهومة، لا تقف عند الجمال وحده. وهنا لا بد أن نعود ثانية إلى مشهد “نيكول” و”نورا”، ونتذكر كيف كانت الأولى تجلس إلى جانب الأخيرة تقص لها حكايتها مع “تشارلي”، وبعد إبداء إعجابها بمذاق الشاي تقوم من مجلسها وتتحرك بحرية فتعيد صباغة شفتيها، ثم تذهب إلى الحمام فلا يسعنا رؤيتها هناك وكأنها تحررت بشكل ما، ثم تعود لتجلس أمام الكاميرا، ونراها في لقطات قريبة وهي تصِف كم كانت غير مرئية وهي مع “تشارلي”، فبعد التحرر تأتي الجرأة على مواجهة الحقيقة بشجاعة. إنها خطة حركة مميزة خدمتها اللقطات الـ”قريبة” (close shot) واللقطات المُقفلة (locked down shot).

مشهد آخر يأتي على المنوال نفسه، وذلك عندما يستقبل “تشارلي” المكالمة الأولى من “نورا” التي تعرّفه فيها في البداية بنفسها وتذكّره بأهمية الرد على الدعوة التي رفعتها “نيكول” ضده، حينها يبدو “تشارلي” حرا كعادته، مطمئنًا حادّ الذهن، يجيبها بعفوية بينما يتحدث مع أعضاء فرقته، إلى أن تبدأ “نورا” في لفت نظره إلى أن الأمور أصبحت رسمية أكثر مما ينبغي، ويلتقط “نوح” ذلك المشهد بلقطة عُلوية تُظهره وهو ينزل الدرج ليبدو ضئيلا بين عدد الطوابق المُلتف على نفسه وكأنه لتوّه دخل المتاهة. وعندما تخبره “نورا” أنه ربما يُحرم من رؤية “هنري” إذا تأخر في الرد على الدعوة أكثر من ذلك، يصوره المشهد ضائعا في الشارع بين الزحام لنُدرك تماما أنه أضحى الآن غير واع لأي واقع من حوله؛ في تجسيد مغاير لطلّته المشتعلة التي كانت في بداية المشهد.

وفي المشهد الذي كان المحامي يُقنع فيه “تشارلي” بأن يتنازل عن إصراره بإلزام “نيكول” بالعودة إلى نيويورك، نجد “تشارلي” واقفا -وأحيانا جالسا- في زاوية الغرفة وكأنه مُحاصَر، فقد قالها بالفعل في جملة من الحوار: أشعر وكأني مجرم.

وفي بداية مشهد الجلسة الأولى للتسوية بحضور المحامين، ننصت إلى صوت “بيرت” محامي “تشارلي” وهو يتحدث هو و”نورا”، بينما الذي يظهر على الشاشة هي ردات فعل “تشارلي” و”نيكول”، وكأننا نستمع إلى ما يدور بينهما دون وعي، بينما ننهمك في اختلاس النظر من حين لآخر إلى وجه ذلك الخصم الذي سبق وكان أقرب حليف.