كابل.. مدينة في مهب الريح

 

قيس قاسم

محزن الحال الذي وصلت إليه مدينة كابل، والأكثر مدعاة للحزن حالة الناس الذين يعيشون فيها بقلوب يملؤها الخوف من الحرب والعمليات الانتحارية والفقر، ومن انغلاق الأفق وفقدان الأمل بحكومات تنتشلهم مما هم فيه.

هكذا يوجز المخرج الأفغاني أبوزار أميني رؤيته لمدينته التي وصفها بـ”كابل مدينة في مهب الريح”، ولتجسيدها على الشاشة اقترح ملازمة عينات من المجتمع تعكس حياتهم اليومية حياة المدينة نفسها، وتفسر لماذا غدت المدينة في مهب الريح؟

على ثلاثة أركان شُيّد نص الوثائقي الأفغاني؛ على حياة عباس صاحب باص نقل الركاب، والثاني أطفال شرطي أفغاني تركهم مع والدتهم يواجهون قساوة المدينة من دونه، والركن الثالث هو المدينة نفسها بفضائها الواسع وتفاصيلها الدقيقة.

 كابل في فيلم “أميني” هي المركز وبقية الشخصيات أطراف تدور في فلكها تحكي للمُشاهد حالها، كل واحد منها يصف بحُريّة نادرة ومن دون تدخل صانع الوثائقي؛ عيشه اليومي بطريقته الخاصة وأسلوبه.

 

عباس.. تلوّن الحرباء

يملك عباس باصا قديما لنقل الركاب، حيث يعاني طيلة الوقت من مشكلة تسديد ديونه في مواعيدها، وللتهرب من دائنيه يختلق الذرائع والحجج. مشكلته ليست أعطال السيارة التي يستنزف تصليحها كل ما يحصل عليه فحسب، بل اعتياده على تعاطي المخدرات.

يوزع عباس وقته بين مُصلحي السيارات ومقهى الساقَة والبيت، وفي كل واحد من هذة الأماكن يتقمص شخصية مختلفة عن الأخرى كأنه يتلون مثل حرباء اتقاء لشر خارجي يدهمه.

في مفتتح الوثائقي الحائز على جائزة لجنة تحكيم مهرجان إدفا الهولندي للعمل الوثائقي الأول، يظهر السائق بعد يوم عمل مرهق داخل باصه، مُنشدا بصوته أغنية شعبية حَوَّر كلماتها “هذة البلاد المحبوبة.. أفغانستان الجميلة أضحت بيتا للصوص والمجانين”.. وصف يعبر عن إحساسه بما آلت إليه أحوال بلاده التي لا ينفصل حاله عنها.

ما إن يتوقف عن الغناء والتدخين حتى يبدأ بالكلام مقتربا من الكاميرا كأنه يخاطبها وحدها: لم أنعم في حياتي يوما بسلام، منذ طفولتي وأنا أكدح دون أن أوفق أو أحقق نجاحا يخلصني من البؤس الذي وجدت نفسي فيه.

يلتزم الصبي الأكبر بنيامين (14 عاما) بوصايا والده له ويقوم مقامه في البيت، فكان عليه رعاية إخوته وتأمين كل ما تحتاجه والدته

 

الشرطي الجريح يفر ويترك أطفاله

حال الشرطي المُصاب بشظايا حزام ناسف -فجّره انتحاري وسط مجموعة من رجال الشرطة لم ينجُ أحد منهم من الموت غيره- لا يختلف كثيرا عن حال بقية الأفغان، فمع أنه يُؤمّن عيشه من راتبه البسيط، فإنه يعيش حالة خوف دائمة على نفسه وعلى أطفاله.

وفي إحدى زياراته للمقابر يأخذ معه طفليه، ويحكي لهما كيف قُتل صديقه وزميله أثناء مواجهته مسلحين وسط ساحة ديمزانغ؛ مواجهة شرسة أعقبت تفجير أحد الانتحاريين حزاما ناسفا وسط حشد من متظاهرين مدنيين قُتل منهم سبعون شخصا. الجروح التي أصيب بها وتعطل أجزاء من جسده كانا وراء حزنه وخوفه المتسرب إلى أطفاله بطريقة غير مباشرة ستظهر آثاره النفسية بوضوح بعد تركه لهم ورحيله إلى مكان لم يُعرف.

يلتزم الصبي الأكبر بنيامين (14 عاما) بوصايا والده له ويقوم مقامه في البيت، فكان عليه رعاية إخوته وتأمين كل ما تحتاجه والدته من مستلزمات المنزل إلى جانب ذهابه إلى المدرسة.

وبخروجه للتسوق والمدرسة يتيح الوثائقي فرصة لمتابعيه لرؤية مدينة كابل بعيون طفل وُلِد فيها، ووجد نفسه مُحمّلا بأعباء لم يكن من المفترض تحملها في مثل سنه. كلام أخيه الصغير وحركاته تعكسان براءة وقلقا من غياب راعٍ عُوّل على وجوده كثيرا، فغياب الأب وتركه العمل ترك فراغا في دواخل أطفاله، ويُحمل الصبي الأكبر مسؤولية سَده بنفسه.

التنقلات السريعة للكاميرا بين الشخصيات والأمكنة تخلق توزعا مربكا يعكس قلقا

 

مقهى وسط الخراب

التنقلات السريعة للكاميرا بين الشخصيات والأمكنة تخلق توزعا مربكا يعكس قلقا، وينقل في الوقت نفسه مشهدا مقربا عاما للمدينة المهددة بمخاطر لا يعرف سكانها دوافعها الحقيقية.

حوارات سائقي الباصات في المقهى تدور حول العمليات الانتحارية وظهور “داعش” إلى جانب “طالبان”، مقابل سخريتهم من مؤسسات حكومية فاسدة عاجزة عن توفير الأمن لهم، حيث يُحيل الكثير منهم الفوضى الأمنية السائدة إلى تواطؤ موظفين منها مع المسلحين، فحراس المدينة ليلا يُسلمونها للقادمين من الجبال، وفي النهار يعودون إلى بيوتهم سالمين. ثمن ذلك الفساد والتواطؤ يدفعه المواطن العادي دما وقلقا يوميا.

يملك عباس باصا قديما لنقل الركاب، حيث يعاني طيلة الوقت من مشكلة تسديد ديونه في مواعيدها

 

كابل تألف موتها

كابل تألف موتها، هذا ما تُوصله لنا المتابعة الدقيقة ليوميات الشخصيات الرئيسية في الوثائقي الهولندي الأفغاني المشترك، وتدعمه عوامل خارجية يلعب المناخ طرفا فاعلا فيها، فالرياح العاتية التي تعصف بها في الشتاء البارد والمثلج تُصعَّب الحياة على فقرائها، وتضعهم أمام تحدي الحفاظ على وجودهم في مواجهة الطبيعة.

الجبال المحيطة بالمدينة يقطنها الناس، ونزولهم إلى سفوحها والصعود منها إلى بيتوهم تغدو مهمة يومية متعبة لمن لا تتوفر له سبل حماية جسده وبيته جيدا من البرد.

الكلام عن الريح والثلج لا ينفك بين أهلها ومرتادي مقاهيها، أما الموت المتربص بهم فتُذَكرهم به المروحيات القريبة فوق رؤوسهم، والتي كلما سمعوا هدير محركاتها رفعوا رؤوسهم وبدؤوا بالتعليق على دورها غير المجدي.

ويتضح من تفاصيل كلامهم المتعلق بالأمن أن الحكومة تلجأ دوما إلى عرض عضلاتها شكليا، فيما تعاني من عجز شبه تام لا يشعر به أحد كما يشعر به سوّاقو الباصات وسيارات الأجرة، فهؤلاء بحكم عملهم وسيرهم في الطرقات قريبون دوما من مكامنه، ولكثرة ما شاهدوه أمامهم اعتادوا عليه، فأضحى الحديث عنه عاديا كأنهم يتحدثون عن الثلج والريح.

لم يترك هجر الشرطي لمدينته خيارا لولده الأكبر سوى التوافق مع اشتراطات العيش وسط طبيعة قاسية

 

حياة قاسية

لم يترك هجر الشرطي لمدينته خيارا لولده الأكبر سوى التوافق مع اشتراطات العيش وسط طبيعة قاسية، فانتظار وصول مساعدات من والده طال، ولتأمين عيش عائلته راح بنيامين يعمل في البناء، يحمل معوله الثقيل معه إلى أعالي الجبال للعمل في بناء بيوت جديدة أصحابها تجار حروب انتفعوا من الفوضى التي تعيشها بلادهم واغتنوا منها.

في المقابل يظهر بيت الصبي متهاويا مهددا بانهيار سطحه تحت ثقل الثلوج المتراكمة فوقه، والتي يزيحونها دون كلل، أما إصلاح عيوبه فتُركت للزمن أو لحين عودة رجل ترك البلاد دون تفسير.

في بيت عباس ثمة حياة أخرى مختلفة يُكيّف لونه مع ألوانها، فزوجته تُعيل العائلة بما تحصل عليه من بيع مسجوداتها الصوفية، فهي تعمل في بيتها ليل نهار بصمت، ومع ذلك يريد عباس أخذ جزء من دخلها.

علاقته بأطفاله جيدة، فهو يحبهم ويحزن عليهم لتقصيره في تأمين حياة أفضل لهم، فباصه لم يعد ينفع وعليه قرّر بيعه، فيما استمر هو في تدخين “أفيونه” المعتاد.

ملازمة الكاميرا للسواق والمدينة تُظهر مشكلة مستعصية تتمثل في تعاطي قطاعات واسعة من الأفغان لمادة الأفيون المخدرة

 

أفيون وفقر وتفجيرات

ملازمة الكاميرا للسواق والمدينة تُظهر مشكلة مستعصية تتمثل في تعاطي قطاعات واسعة من الأفغان لمادة الأفيون المخدرة، فمقاهيها وبيوتها لا تخلو منها، ومشاهدة أحدهم يصنع “كيّفه” علنا يبدو أمرا عاديا، فهل تتغاضى الشرطة عن مراقبتهم عمدا؟

ظل ذلك السؤال عالقا، وربما الجواب عليه يأتي في ثنايا مشاهد كثيرة يتصرف فيها المدمنون بحرية ودون قلق.

ستجتمع المخدرات والتفجيرات في نسق حياتي واحد لمدينة تعاني من الفقر، فحياة الأطفال تشير إليها، وبقايا الأسلحة المعطلة صارت ملاعبهم، الحياة فيها حزينة، ووجوه الناس الصاعدين إلى الباصات تعبر عنها، وكلام عباس أمام الكاميرا الثابتة يعمقها “كل حياتي شقاء وصراع لا فرح فيها، فقد اشتغلت منذ نعومة أظافري في مهن كثيرة، وما زلت حتى اللحظة عاجزا عن تأمين حياة سوية لأطفالي وزوجتي، هل هذا حال كل سكان المدينة المهددة بالموت القادم إليها من كل حدب وصوب؟”.

صعوده مع بقية الأطفال إلى مقبرة منطقته يوم زيارتها تحمل في طياتها جوابا، فالريح العاتية التي تهز جسد بنيامين النحيل كما تهز الأشجار وتكاد تقعلها من جذورها، وتحرك الرايات المعلقة فوق شواهد القبور بقوة محدثة صوتا مخيفا، يُشعره بأن مدينته تعيش وسط ما يعصف بها من صراعات مسلحة وفقر وفساد حكومي، كما تعيش في قلق وخوف من مستقبل مجهول يترك سكانها هائمين مثلها في الريح، لا مستقر لهم ثابتا على أرضها المُهتَزة دوما بفعل قوة تفجير القنابل والأحزمة الناسفة.