“لسه عم تسجل”.. عن فعل الكاميرا في زمن الحرب السورية

قيس قاسم

 

الوثائقي السوري “لسه عم تسجل” من بين أكثر الأفلام التي تناولت الصراع السوري التفاتا إلى الذات ومراجعتها، ومن بين أكثرها عملا على نقل ما جرى خلال الأعوام الأولى من الحراك الشعبي في منطقتي دوما والغوطة الشرقية القريبتين من العاصمة دمشق، حيث عاش مخرجا الفيلم غياث أيوب وسعيد البطل ووثقا الفترة بين الأعوام (2011-2015).

ومن هنا كان للمكان والتاريخ دلالاتهما المهمة في منجزهما السينمائي الشديد الخصوصية والتميُّز، وذلك لإشارة كل من المكان والزمان إلى مساحات جديدة؛ فالأول دلنا على جغرافيةٍ سورية قلما نُقلت صورتها إلى الخارج وذلك ارتباطا بما حدث فيها خلال الحرب الأهلية الطاحنة، والثاني لتتبعه مسار الحراك السلمي في المنطقة ورصده بعين سينمائية فاحصة مآلاته بعد سنوات وبأكبر درجة من المصداقية. وإذا أضفنا إليهما الرقم الذي ينقله لنا الوثائقي في مفتتحه عن عدد ساعات المواد الفيلمية المصورة خلال تلك الفترة وقد بلغت ٤٥٠ ساعة، كُثفت في النهاية إلى ساعتين تقريبا، فإن الأرقام في هذه الحالة تشير إلى حد ما بقوة صلتها والتصاقها بكامل النص السينمائي المتعدد المستويات وببطلها المطلق: الكاميرا المحمولة.

من “شاهديْن” خلف الكاميرا إلى “مشاركيْن” أمامها

يُبنى المتن الحكائي للوثائقي على العلاقة بين ناشطَين سوريين صديقين هما سعيد وميلاد. فسعيد في دوما ينظم دورات لتعليم التصوير السينمائي (فيديو) للراغبين في تعلمه، والعمل فيما بعد في حقل من حقول توثيق الحدث السوري على الأرض. أما الشاب ميلاد فهو يدرس الفنون في دمشق، ومن خلاله تبدو الحياة في المدينة مختلفة عن تلك التي تنقلها لنا تسجيلات سعيد التطبيقية والمأخوذة من مدينة تشهد حربا لا ترحم.

الهدوء القلق يلف العاصمة دمشق، وبعثرة الوقت جزء من دفاعات سكانها عن وجودهم الآدمي في ظل خوف وقلق مسيطر مصدره الأخبار الواردة عما يجري في بقية البلاد. كانت حياة ميلاد وقتها متوافقة معها، ومن هنا يكتسب تاريخ التسجيل معناه الحقيقي بالنسبة للأفراد والبلاد، وأيضا لتزامن وحرص الصديقين السوريين على نقل تفاصيل الحياة في المدينتين المتجاورتين بدءا من انطلاق الحراك المدني الشعبي السلمي في دوما تحديدا.

كان ذلك في عام 2011 وما تلاه من أعوام أخذ الحراك الشعبي فيها بُعدا مسلحا سرعان ما بهت وتشظّى، وبدأت بسببه تظهر علامات اليأس والانكفاء نحو الذات عند الحالمين بنجاحه. ولتجسيد كل ذلك التحول الدراماتيكي اهتم صانعا الوثائقي -المُنفّذ بكادر سوري يُشهد لكفاءته وبخاصة مصوريه ومونتاجييه رايا ياميشا وقتيبة برهمجي- بترتيب مسار حياة الصديقين في مكانين غير بعيدين، وكيف جمعتهما الأحداث بقوة تأثيرها وحولتهما من “شاهديْن” خلف الكاميرا إلى “مشاركيْن” أمامها في نقل تداعيات الأحداث ومحاولة تحليلها. بهذا تَميّز “لسه عم تسجل” عن غيره من وثائقيات الحدث السوري، وبفضل شخصياته المتمتعة بوعي لافت قادر على “فلترة” ما تسجله الكاميرا من صور وإضفاء المزيد من التحولات الفردية المرافقة له.

واحدة من “حسنات” “لسه عم تسجل” تسجيله مجزرة دوما عند وقوعها في منتصف عام 2011

مجزرة دوما.. السينما الوثائقية في زمن الحرب

واحدة من “حسنات” “لسه عم تسجل” تسجيله مجزرة دوما عند وقوعها في منتصف عام 2011، إلى جانب توثيقه حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمدينة وسكانها منذ ذلك التاريخ نتيجة القصف، وما ولدّه من غضب منفلت وألم نُقلت تفاصيله الدقيقة، ونَقلت الكاميرا معه تفاصيل تدمير حياة مدن بالمعنى الدقيق للكلمة، ومن ذلك الجو المشحون بالموت والدمار يبدو السؤال عن قيمة التسجيل الفيلمي مشروعا.

ثمة تلاعب -غير مفهوم لغير العارفين باللهجة السورية- في عنوان الوثائقي نفسه “لسه عم تسجل”، فهو يوحي بأنه مطروح بصيغة سؤال فيما هو يتضمن تعبيرا أكثر حدة عن الاستغراب والاستنكار، والحيرة من وجود بشر ما زالوا على استعداد لحمل الكاميرا وتسجيل كل ما يقع في مدينتهم على كل ما تحمله المهمة من مخاطر جدية، حيث قُتل المصور سليمان التائب عام 2012 أثناء قيامه بالتصوير. في متن ذلك الاستغراب ما يستدعي استنطاق المبادرين والمتحمسين لذلك الفعل. فقد كان تطوع ميلاد الفنان الدمشقي الشاب وانتقاله إلى دوما للعمل مع سعيد لتوثيق ما يجري فيها كأنه قبول منه بفكرة استنطاقه والتعبير بنفسه عن معنى “السينما الوثائقية في زمن الحرب”.

لم يأتِ ميلاد صدفة إلى دوما، لقد أثرّت به مشاهد ما نقلته كاميرات “الهواة” وبخاصة توثيقهم مشاهد موت أطفال المدينة بالقنابل الكيميائية، ولأنه وصل متأخراً بعض الشيء فقد راح يتساءل عبر ريبورتاجاته ومقابلاته مع سكان المدينة عما يشعرون به بعد مضي وقت طويل لم تحقق “المعارضة” فيه ما كانوا يأملون منها تحقيقه. في جمعه بين تجارب معاشة مع المقاتلين ولمدة زمنية طويلة وبين خيبة الأمل الناتجة عن إخفاق حراكهم العسكري يمنح الوثائقي نفسه صفة “المُراجع” لما جرى، يبوح بأفكاره عبر أحاديث من يلتقيهم من مقاتلين وسكان محليين وجدوا أنفسهم في مأزق وتمزق داخلي مرير.

المتن الحكائي للوثائقي يُبنى على العلاقة بين ناشطَين سوريين صديقين هما سعيد وميلاد

توثيق لموت مدن الأطراف

يسجل الوثائقي السوري خيبة أمل العالم في قيادات عسكرية وسياسية لم تحسن التعامل مع الواقع، ولم تستثمر القوة البشرية المتعاطفة معها. كل ذلك تنقله لنا الكاميرا المحمولة عبر مستويين رئيسيين: تسجيلات الفنان ميلاد وتسجيلات السينمائي سعيد، وبدمجهما تشكلت عندنا رؤية جديدة لواقع مرير ومؤلم؛ خيبات وانتكاسات ورغبة في استمرار الحياة رغم الموت الجاثم فوق سماء المدينة والمتسرب بين خرائبها وتضاريس أرضها.

يعود ميلاد إلى بعض من شاركوا في الحراك والمعارك العسكرية وينقل عنهم ما عاشوه وما توصلوا إليه بحيادية ودون إثقالهم بآثام قرار اعتزالهم، فيما تبدو الغوطة في تسجيلات 2013 كمدينة مبادة بالكيميائي وبأسلحة الدمار المخيفة.

يوثق الصديقان وبقية من معهم تفاصيل العيش في مدن محاصرة يعاني أهلها الجوع. كل تعبير عن الرغبة في الحصول على قوت يومي بسيط يقي الناس موتهم جوعاً؛ حرص الوثائقي على ضمه إلى متنه، وضمّ إليه كل حالة تذمر من النظام ومن المعارضة، فهو جاء ليوثق “موت مدن الأطراف” وغير معني أبدا بمراضاة أو محاباة أحد.

من المفارقات الصارخة في حالة الموت السريري للمدن أن سكانها ينهضون من تحت الأنقاض ليرسموا ما يحسون به على جدران مبانيها. ما رسمه فنانوها وتشكيليوها تم توثيقه بوصفه تعبيرا عن حاجة موجودة تلحّ على الجميع لقول ما يشعرون به، فهذا وحده يفزع الخصم ويسقط من بين يديه “دعائيته” الجاهزة.

في الغوطة كما دوما استبشر الناس خيرا في حراكهم وزاد أملهم في حرية تبعد العسف والتسلط عنهم، لكنهم وبعد عناد عسكري لا يرحم أُجبروا على الانتقال من مكان إلى آخر ومن مستوى نضالي إلى ثانٍ لم ينجح، فكانت نتائجه كارثية عليهم قبل غيرهم. هكذا نقل لنا الوثائقي واقع المدينتين خلال سنوات أربع حملت في طياتها رعبا، لكن ثمة أمل ما زال موجودا بين ضحاياها يعبر عنه فنانون -أسينمائيون كانوا أم تشكيليون- بأدواتهم البسيطة المعبرة بوضوح بقوة مصداقيتها.

الوثائقي السوري سجل خيبة أمل العالم في قيادات عسكرية وسياسية لم تحسن التعامل مع الواقع

إذاعة دوما.. جحيم مشترك

من انتقالات الوثائقي المهمة والمرتبطة موضوعيا بانتقالات أبطاله الدراماتيكية في جغرافيات مختلفة؛ ذهابه إلى “الإذاعة” المحلية في دوما، إذاعة أو أستوديو بسيط بناه ميلاد وأراده وسيلة يخاطب عبرها المستمع المتلهف لسماع صوته من خلال الآخرين الذين يشاركونه نفس “الجحيم”.

هنا تمنح الملاصقة الشديد لأبطاله طابع العناد للوثائقي، وتغني متنه الحكائي بقصص جديدة تكمل بدورها رسم صورة المنطقتين دوما والغوطة الشرقية، ومن خلال التجربة “السينمائية” الميدانية يمنح الوثائقي نفسه صفة “المعلم” بمعناها الاحترافي، فيغدو ما هو “هواية” وتطوع فعلا سينمائيا منهجيا مدروسا يضع “لسه عم تسجل” بين أفضل الأفلام الوثائقية المعنية بالتجربة السورية، ومحاولة الإحاطة بسؤال المعنيين بتوثيقها ما إذا بقيت عندهم الرغبة والحماسة لتسجيل ما تبقى منها.