“لُغز أُذن فان جوخ”

عدنان حسين أحمد
عرضت قناة (بي.بي.سي 2) فيلمًا وثائقيًا بعنوان “لُغز أذن فان جوخ” The Mystery of Van Gogh’s Ear  للمخرج البريطاني جاك ماكينيس الذي أتحفنا بأفلامه الوثائقية التلفازية المثيرة للجدل وعلى رأسها “الفارس الأعظم: وليم مارشال”، “وداعًا كانتربري”، “حياة وحُب سافو في لسبوس” وسواها من الأفلام الوثائقية الناجحة التي تعْلق بذاكرة المتلقين.
 
لابد من الإشارة إلى أن هذا الفيلم يخرج عن دائرة التوثيق قليلاً ليقع في إطار الجريمة، والطبيعة، والرحلات. فقد تحولت برناديت ميرفي الباحثة الهاوية، ومُحِبة الفن التشكيلي إلى شرطية مباحث تتقصّى كل ما له علاقة بالجريمة وموقعها والأدوات التي استعملها الفنان الراحل فنسنت فان جوخ في إيذاء نفسه تارة أو في الانتحار الذي أفضى به إلى الموت تارة أخرى. ولأن الفيلم استقصائي بامتياز فقد فتشت برناديت في كل السجلات المتاحة التي يمكن أن تقودها إلى حلّ الألغاز المستعصية التي أربكت الباحثين، والنقّاد، ومحبّي فان جوخ، والمعجبين بتقنياته وتجاربه الفنية التي تجاوزت روح العصر آنذاك.
 
وعلى الرغم من أنّ ثيمة الفيلم الأساسية تتمحور على لُغز أذن فان كَوخ وكيف قطعها؟ هل قطع شحمة أذنه فقط، أم قطع الأُذُن برمتها؟ إلاّ أن هناك ألغازًا ومعلومات أخر لم نكن نعرفها من قبل، بل أن هناك معلومات متناقضة. فما هو شائع أن فان كَوخ قد قطع  بنفسه شحمة أذنه فقط، ولكن هناك منْ يدّعي بأن صديقه الفنان الانطباعي بول غوغان هو الذي قطعها بآلة حادة إثر مشاجرة نشبت بينهما ليغادر “البيت الأصفر” وينام في فندق تلك الليلة.
لقطة من الفيلم
لا يقتصر التناقض في المعلومات على فان جوخ نفسه وإنما يمتد إلى ميتشيل التي يعتقد البعض أنها كانت مومسًا، فيما يصرّ آخرون من أهالي “آرل” أنها كانت تعمل “خادمة” في الليل، و “مُنظِّفة” في النهار. وبغية متابعة هذه الآراء المتضاربة لابد لنا أن نستمع إلى القصة كما بناها المخرج بطريقة فنية مشوِّقة تعتمد بالدرجة الأولى على الساردة الرئيسية برناديت ميرفي والسارد الثانوي جيريمي باكسمان. وقبل الولوج في التفاصيل يجدر بنا أن نتوقف عند المقدمة التمهيدية المكثّفة التي تختصر القصة السينمائية وتختزلها في بضعة سطور مفادها: “في عام 1888في بروفانس، بمدينة “آرل” الفرنسية وقعت حادثة سوف تدخل الأسطورة المعاصرة. في حي “الأضوية الحمراء”، في الحافة الشمالية للمدينة وصل شخص أجنبي أمام باب مبغى وسلّم إلى واحدة من الفتيات رزمة كانت تحتوي على جزء ملطّخ بالدماء من جسده. كان اسم هذا الشخص فنسنت فان كَوخ الذي لم يكن آنذاك رسّامًا معروفًا وناجحًا، لكنه الآن الفنان الأكثر شهرة في كل الأزمنة. في هذه السنوات رسم أهم التحف الفنية في حياته، لكنه في تلك السنة أيضًا أخذ سكينًا وقطع بها أُذنه”.
 
ليلة الكريسماس
في الساعة السابعة صباحًا من ليلة الكريسماس عام 1888 وُجِد فان كَوخ في سريره. كان رأسه منقعًا بالدم فتصور البوليس أنه ميت. هذه الحادثة هي الأشهر في تاريخ الفن المعاصر لكنها رُويت بطرق مختلفة تنطوي على التناقض والتضاد. ومع ذلك فإن الحقيقة لابد أن تنجلي ذات يوم وإن طال الزمن. فعلى الرغم من مرور 128 سنة على هذه الحادثة المُفجعة إلاّ أن الباحثة الدؤوبة برناديت ميرفي استطاعت أن تحقق هذا الإنجاز بعد سبع سنوات من البحث والتنقيب والقراءة المضنية للوثائق والسجلات الرسمية وكتب السيرة الذاتية التي دُبجت عن هذه الشخصية الفنية التي شغلت، ولما تزل تشغل العالم، وتغري محبّي الفن التشكيلي لزيارة المتحفين الرئيسيين اللذين يضمّان غالبية أعماله الفنية وهما “متحف فان كَوخ” بأمستردام و “متحف كرولر مولر” في الحديقة الوطنية Hoge Veluwe في مقاطعة خلدرلاند شرقي هولندا.
 
حينما وصل فان جوخ إلى مدينة “آرل” في فبراير 1888 كان عمره 35 سنة. وكان هاربًا من ضجيج العاصمة ومتذمرًا من مناخها الكئيب فلا غرابة أن يختار هذه المدينة الجنوبية التي لا تبعد سوى 20 ميلاً عن ساحل البحر الأبيض المتوسط. مدينة مبنية على الطراز الروماني وقريبة من إسبانيا وفيها خليط من الناس والثقافات التي تجمع بين الكاوبوي والغجر ومصارعة الثيران، هذه الرياضة المؤسية التي تحطّم القلب وتترك أثرًا سيئًا في النفوس. يبدو أن المخرج قد ركّز على مصارعة الثيران لسبب واحد وهو أن المصارع حينما ينتصر على الثور يقطع أذنه ويرميها إلى الجمهور. وهذه الحادثة تقودنا من دون شك إلى فاجعة فان جوخ الذي قطع أذنه بسبب الكآبة ووالوحدة والمرض العقلي اللذين انتصرا عليه!
ثمة ربط مباشر بين الفنان الغريب الذي حلّ في “آرل” وبين الباحثة الهاوية برناديت التي انتقلت إلى بروفانس عام 1983 وتعرفت على المكان الذي يعيش فيه لكنها تكيّفت واندمجت بخلاف فنسنت الذي عاش غربة واغترابًا لا مثيل لهما. وهناك تعرّفت على القصة الأسطورية لهذا الغريب الذي قدِم إلى  “آرل” وتوحد في بيته ومرسمه ولم يتواصل إلاّ بالكاد مع نادلة “الكافيه” التي تقدّم له الطعام.
لوحة "البيت الأصفر"
لم تعثر برناديت على معلومات وافية عن حادثة فان جوخ التي غابت عن سجلات الشرطة لذلك اتجهت صوب مكتبة المدينة كي تعرف موقع الجريمة، كما تسمّيها، فوجدت “البيت الأصفر” الذي رسمه لاحقًا كعمل فني. ففي هذا المكان حيث يقيم ويرسم، أنجز غالبية تحفه الفنية غير أن هذا المكان تعرّض، للأسف الشديد، إلى القصف والدمار خلال الحرب العالمية الثانية ولم يبق منه إلا بعض الأبنية الشاخصة التي وثقها جوخ في بعض لوحاته.
 
الخيال الشعبي
نُسجت قصص كثيرة حول حادثة فان جوخ وأضاف إليها الخيال الشعبي بعض الرتوش لكن التواريخ ظلت كما هي عليه ولم تمتد إليها يد التحريف فقبل يومين من الكريسماس عام 1888، وفي الساعة 11.30 ليلاً ذهب فان جوخ إلى مبغى في “رو دو بودال” وسأل عن فتاة اسمها “ريتشل” وسلّمها أذنه الملفوفة في رزمة فتضاربت الروايات فمنهم منْ يقول إنه كان يحمل أذنه على رأسه، ومنهم من يقول إنها كانت ملفوفة بصحيفة. كما تضاربت الآراء بشأن مهنة “ريتشل” نفسها الأمر الذي حمّل برناديت مسؤولية البحث والتقصي الدائمين عن هاتين الشخصيتين المُلغزتين.
 
كانت أمستردام وجهتها الأولى حيث ذهبت إلى “متحف فان جوخ” الذي أذِنَ لها أن ترى رسالة الفنان بول سينياك الموجودة ضمن سيرة مخطوطة باليد عن فان كَوخ يقول فيها: “رأيته عام 1889 حين كان في مستشفى المدينة. وفي يوم الزيارة كان بصحة جيدة. قبل ثلاثة أيام قطع شحمة أُذنه وليس الأُذُن كلها”.
 
استعان المخرج بشخصيات خبيرة مثل الباحثين الأقدمين تيو ميديندورب ولويس فان تيلبورغ، وكاتب السيرة ستيفن نايفه وكلهم يؤكدون بأنّ حياته الشخصية كانت مشهورة مثل تحفه وفرائده الفنية، بل أن الزوّار الذين يصل عددهم إلى مليوني شخص كل سنة يأتون إلى “متحف فان جوخ” لا ليروا لوحة “دوّار الشمس” الشهيرة فحسب بل ليتمعنوا في تلك النظرة الحادة التي جسّدها في بورتريهاته الشخصية المتعددة. فقصته الذاتية التي باتت مشهورة جدًا مرتبطة بشكل من الأشكال في أعماله الفنية التي أنجزها في مراحل مختلفة من حياته.
المسدس الذي انتحر به فان جوخ معروضا في متحف أمستردام
ما تزوّدنا به سيرة فان جوخ الذاتية أنه شخص مريض عقليًا. كان يتعرض لنوبات عصبية بين آن وآخر بسبب كآبته وعزلته وضياعه. ولولا وجود شقيقه ثيو الذي كان يرعاه ماديًا ومعنويًا ويروِّج لبيع لوحاته التي لم تكن سوقها رائجة آنذاك، لما استطاع جوخ أن يتدبّر أموره المادية لأنه لم يبع أي لوحة من لوحاته في السنوات الأولى من حياته الفنية لكن الأمور سوف تتحسن تدريجيًا الأمر الذي شجعه على الانغماس في الرسم وإنجاز المزيد من اللوحات المتفردة في تقنيتها وفي رؤاها الفنية التي سبقت عصره بكثير.
 
تقنيات جديدة
يكشف لنا الفيلم أنّ فان جوخ كان يذهب إلى الريف يوميًا باحثًا عن إلهام لنوع جديد من الفن. وقد لعبت الشمس والأجواء الصافية في الجنوب الفرنسي دورًا مشجعًا دفعه لأن يتخلى عن الألوان الرمادية والبنيّة المعتمة التي يُكثر الفنانون من استعمالها في أوروبا الشمالية على وجه التحديد. وفي هذا الوقت بالذات اكتشف طريقته الفنية الجديدة التي تتمثل بضربات قوية، منتظمة من الفرشاة تمرّ على السطح التصويري بأسلوب لم يعهده الناس من قبل وهي ذات الأعمال التي تحولت بعد وفاته إلى روائع فنية بيعت بملايين الدولارات في المزادات العلنية. وقد كتب إلى أخيه ثيو في حينه “أنه وجد المستقبل إلى الفن الحديث”. وعلى الرغم من نجاحه في اكتشاف الأساليب الجديدة وانغماسه المتواصل بالرسم إلاّ أنّ وضعه الصحي لم يتحسن. كان فان كَوخ يتردد على حي” الأضوية الحمراء” ولا يجد حرجًا في ذلك. وحينما قطع أذنه وذهب إلى هناك كان يبحث عن فتاة محددة تُدعى “ريتشل” التي جلب لها هدية “مقدسة” قطّعها من جسده. هل طلبت منه أن يقطع أذنه، أم أنه أراد إفزاعها وترويعها بهذه الهدية المرعبة التي لم يفكر بها أحد من قبل؟
 
يمتد النَفس الاستقصائي إلى “ريتشل” لنكتشف أن اسمها الحقيقي لم يكن كذلك وإنما هو “غابرييل” أو “غابي” بحسب سجلات الشرطة لكن المشكلة أن هناك ثلاثين امرأة في “آرل” تحمل الاسم ذاته ولابد أن تكون إحداهن هي التي تسلّمت أذنه المقطوعة! وبعد جهود مضنية توصلت برناديت إلى واحدة تُدعى غابرييل ماتت عام 1952 بعمر الثمانين. وكانت “مُنظفة” وليست مومسًا لذلك قابلها فان جوخ في الشارع ولم يدخل إلى الماخور، وربما كانت صديقته التي يقابلها بين آن وآخر.
وبما أن الشكوك كانت تحوم حول الفنان الانطباعي غوغان لأن هذا الأخير غادر البيت الأصفر في اليوم الذي وقعت فيه الحادثة وبات في الفندق، فإننا كمتلقين نتعرف على جانب من شخصية هذا الفنان المعتدّ بنفسه وبتجربته الفنية على حدٍ سواء. وكان يدخل في نقاشات عميقة مع فان جوخ وينتقدهُ لأنه يرسم “حياة صامتة” بينما يعتمد هو على مخيلته المجنّحة التي تفيض بالصور والثيمات الفنية اللافتة للانتباه. ولوحة “دوّار الشمس” التي رسمها جوخ كي يزيّن بها غرفة صديقة غوغان بيعت لاحقًا بـ  75.4 مليون دولار.
 
اللوحة الأخرى التي توقفت عندها مرايكه يورن في “متحف كرولر مولر” هي لوحة “حياة صامتة” أيضًا رسمها بعد خروجه من المستشفى وهي تبحث فيها عن الجوانب النفسية التي دفعته لأن يرسم مكونات هذه اللوحة التي تحتوي على رأس بصل كبير وقنينة ورسالة وصلته في صبيحة يوم الحادث.
 
الرسم البياني
بينما كانت برناديت تنقّب في الصحف والمجلات والكتب المتوفرة عن فان جوخ في مكتبة المتحف عثرت على مجلة قديمة ذكر فيها الكاتب إيرفنغ ستون أن الدكتور فيليكس راي قد خطط “الرسم البياني” لأذن فان جوخ بعد الحادثة مباشرة فهو الذي أشرف على علاجه، ثم أصبح صديقًا له، ورسم له واحدًا من البورتريهات الجميلة. وهذا الرسم البياني موجود في جامعة بيركلي بكاليفورنيا وعليها أن تقطع المحيط لتلتقي بالدكتور ديفيد كسلر الذي يعمل بمكتبة بانكروفت والذي أخبرها برسالة إليكترونية أنه عثر على الوثيقة التي تبحث عنها.
 
منْ يرى هذا الفيلم الوثائقي الممتع يعتقد في لحظة من اللحظات أنه يشاهد فيلمًا روائيًا بسبب كثرة التنقلات من مكان إلى آخر مثل آرل، وباريس، وأمستردام، والحديقة الوطنية في خلدرلاند، وخليج  سان فرانسيسكو ، وكاليفورنيا وما إلى ذلك من مدن وأرياف ومزارع مفتوحة على مدّ البصر. وحينما رأت برناديت الوثيقة الدامغة شعرت بالألم وبكت حيث جاشت مشاعرها من جهة، وذُهلت وهي تمسك بالوثيقة التي سوف تقترن باسمها، فهي التي توصلت إليها بعد سبع سنوات من البحث والعمل والقراءة المتأنية وسوف تعود بها إلى “متحف فان جوخ” بأمستردام عودة المنتصرين الذين حرروا أرضًا مُغتصبة. وما إن وصلت حتى تجمّع الخبراء والباحثون القدامى في المتحف وقرروا في الحال إقامة معرض جديد بهذه المناسبة التي سوف يعلقون فيها هذه الوثيقة التي تؤكد بالدليل القاطع أن فان جوخ قد قطع أذنه بالكامل وقدّمها لريتشل “غابرييل” هدية لها لأنها تمثل جزءا حميمياً من جسده.
 
لم تنتهِ القصة عند هذا الحدّ فثمة انعطافة أخيرة فقد أرسلت غابرييل إلى مشفىُ في باريس كي تتعالج من عضّة كلب مسعور حيث أخذت عشرين حُقنة في غضون ثمانية عشر يومًا ثم عادت إلى “آرل”. تُرى، هل التقاها فان جوخ في باريس؟ وهل تبعها في رحلتها إلى الجنوب؟ سيضع، فان جوخ حدًا لحياته بعد ثمانية عشر شهرًا ولكن “غابي” عاشت حتى سن الثانية والثمانين. أما معرض فان جوخ الاستعادي فقد أسماه القائمون عليه “على حافة الجنوب” تتصدره الوثيقة “الكنز” التي حلّت لُغرًا دام لمائة وثمان وعشرين سنة لتبرئ غوغان من جهة، وتقتل الشك باليقين بأن فان جوخ قد قطع أذنه كلها وليس جزءًا منها! كما يضم المعرض المسدس المتآكل الذي يُعتَقد أن فان كَوخ قد انتحر به، إضافة إلى 25 لوحة تسلِّط الضوء على الصعوبات النفسية والذهنية التي كان الراحل يعاني منها طوال حياته. وتزامنًا مع هذا المعرض الاستعادي فسوف توقع المؤرخة الهاوية برناديت ميرفي كتابها المعنون “أُذُن فان جوخ: القصة الحقيقية”.
 
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هذا الفيلم هو درس بصري وفكري في التوثيق. وعلى الرغم من أن الباحثة ميرفي لم تقف أمام الكاميرا التلفازية من قبل إلاّ أن أداءها كان مُبهرًا حقًا خصوصًا وأنها تقف أمام جيريمي باكسمان، الإعلامي المحترف الذي يتمترس وراء خبرة تلفازية كبيرة تمتد إلى أربعة عقود أو يزيد.