“مرحبا يا ديكتاتور”.. عرّاب الفساد والاستبداد في الاتحاد الأوروبي

قيس قاسم

تناولت عدسات الكاميرات لقطة ظهور رئيس المفوضية الأوروبية السابق “جان كلود يونكر” وهو يرحب برئيس وزراء هنغاريا “فيكتور أوربان” في اجتماع رسمي جمع بينهما، وقد لفت “يونكر” الانتباه بقوله له: مرحبا يا ديكتاتور.

ويبدو أن تلك اللقطة قد حفزت المخرج الألماني “ميكائيل فيتش” للتفكير بها، وبالسؤال الذي يتداعى إثرها حول ما إذا كان مقبولا وجود ديكتاتور في منظمة أوروبية من مبادئها احترام الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وفرض سيادة القانون.

سيدفع السؤال “فيتش” للتحقق أولا من صحة التوصيف، وثانيا معاينة السياقات السياسية والتنظيمية التي تسمح بوجود أعضاء في منظمة لا يتوافقون مع مبادئها وقيمها.

 

“صندوق كورونا”.. مأزق الرفض عشية التصويت

يستقصي صانع الوثائقي الألماني في فيلمه “مرحبا يا ديكتاتور.. أوربان، الوحدة الأوروبية وسيادة القانون” (Hallo, Diktator: Orbán, die EU und die Rechtsstaatlichkeit) على ضوء ما تثيره العبارة من استغراب؛ علاقة رئيس الوزراء الهنغاري اليميني “فيكتور أوربان” بالاتحاد الأوروبي ووضعه السياسي، من خلال زيارته الميدانية لبلده برفقة سياسيين مهتمين بشؤونها. يأخذ أولا اللحظة الحرجة التي وضع فيها “أوربان” قادة الاتحاد في مأزق يصعب الخروج منه من دون تقديم تنازلات إليه.

ينقل الوثائقي المأزق الناجم لهم عشية التصويت في بروكسل على مشروع “صندوق كورونا”، والهادف إلى تقديم مساعدات مالية عاجلة للبلدان الأكثر تضررا من الوباء مثل إسبانيا وإيطاليا، وكان من المقرر وقتها ربط إقرار المساعدة بشرط التزام الدول المقدمة لها بمبدأ “سيادة القانون”، ووضع آليات لتطبيقه تطابقا مع القيم التي تأسس عليها الاتحاد.

استغل “أوربان” تلك اللحظة العصيبة التي تواجه فيها أوروبا أشرس الأوبئة في تاريخها الحديث، ليعلن رفضه توقيع المشروع إذا ما ظل مشروطا بفقرة “سيادة القانون” المتعارضة كليا مع توجهاته الفكرية، وممارساته المناقضة لجوهر المبدأ. ممارسات تتجسد من خلال الإضعاف المُمنهج لفكرة الديمقراطية الحقيقية، وكبح حرية الصحافة والتعبير، والتدخل في شؤون القضاء، ونشره الفساد واسعا في مفاصل الدولة.

 

تهديد “الفيتو”.. صفعة في وجه الاتحاد الأوروبي

كان رفض “أوربان” التصويت على المشروع بمثابة صفعة في وجه قادة الاتحاد، ومن خلال الـ”فيتو” الذي يعلنه، إنما يعلن صراحة منع إيصال الدعم المطلوب للدول الأوروبية المتضررة من الوباء، وترك سكانها يتعرضون لمزيد من المعاناة، مما سيثير غضبهم على الاتحاد، ويزيد تذمرهم من وجوده.

يثير ابتزاز “أوربان” لقادة الاتحاد وتهدديه بـ”فيتو” مُعطِل؛ جدلا ونقاشا حادا حول معنى وجود أعضاء في المفوضية لا يؤمنون بمبادئها، لكنهم يستفيدون من مزاياها، ويأخذون مساعداتها المالية من دون مقابل، وفوق هذا يعززون بوجودهم انطباعا كاذبا بديمقراطيتهم يجنون من ورائه مكاسب سياسية كبيرة في أوطانهم.

يأخذ الوثائقي من كل طرف متفاعل في النقاشات مقطعا يعبر عن موقفه، ويستمر في استقصائه عن الأسباب التي تُبقي على وجود متعارض داخل منظومة سياسية اقتصادية لديها القدرة على فرض شروطها على من يريد الانتماء إليها؟

تأتي إحدى الإجابات غير المباشرة على السؤال الملحاح عن طريق مواقف بعض مندوبي الدول داخل الاتحاد، حتى أن بعضهم اقترح مرافقة فريق عمل الوثائقي إلى هنغاريا، ليطلع بنفسه على مجريات الأمور هناك.

 

أنانية الأطراف القوية.. ثغرة قاتلة في جسد الاتحاد

يعتبر عدد من المشاركين في الوثائقي أن العيب الأساسي في عمل الاتحاد يكمن في أنانية أعضائه، واهتمام كل واحد منهم بمصالحه قبل غيره، وتلك الأنانية وعدم المبالاة لدى الأطراف القوية في الاتحاد تؤجل دائما الخوض في ممارسات ومواقف قادة بقية الدول، وتميل دوما خوفا من تفكيكه على حل الخلافات الداخلية بطرق دبلوماسية.

تحوّل عادة كل معضلة مستعصية إلى جهات إدارية ولجان مختصة، وبذلك تؤجل المواجهة المحتملة حولها من دون حسم النقاط الخلافية المسببة لبروزها، ومن عيوبها التنظيمية اللجوء إلى الغرف المغلقة للتداول في القضايا الإشكالية، والحفاظ على سريتها، وبذلك يمارسون هم أنفسهم نوعا من السلطوية المتعارضة مع مبادئ الديمقراطية الداعية لنشر التداولات علنا.

المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” التي قدمت مبادرة لحل العقدة التي سببها “أوربان” للمنظمة

 

“العائلة، الشعب، الوطن الأم”.. شعار القرون الوسطى

يقدم المشاركون في الفيلم مبادرة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” كمثال لحل العقدة التي سببها “أوربان” للمنظمة من خلال تقديمها مقترحا وسطا لا يلزمه بقبول فوري بمبدأ “سيادة القانون”، وفي الوقت ذاته يسمح بتمرير مشروع المساعدة.

يشجع هذا السلوك القادة الأوروبيين الشعبويين على مواقفهم، وهو ما شجع “أوربان” على تقديم مقترح مشروع مبادئ “الديمقراطية الليبرالية” الخاصة به للأخذ والعمل بها، بدلا من مفاهيم الديمقراطية الغربية السائدة.

يتحجج “أوربان” وبعض قادة دول أوروبا الشرقية باختلاف ثقافات البلدان والشعوب، وصعوبة قبول الجميع بأنساق العيش الغربي، وأن كل طرف له الحق باختيار نمط عيشه وأفكاره، ويصرون على الأخذ بشعار “العائلة، الشعب، الوطن الأم” منطلقا ومنهجا لحكمهم.

أما الأطراف المعارضة لأطروحاته، فتعتبر تلك الشعارات قديمة تعود إلى القرون الوسطى ولا تصلح للعصر، وأنها عمليا تؤدي إلى الحكم الاستبدادي والديكتاتوري.

سياسيون أوروبيون يعلنون موقفهم المعارضة لنهج “أوربان” وسلوكه

 

تحرير البلديات المعارضة.. نضال في وجه الحزب الحاكم

في داخل هنغاريا يعرض صانع الوثائقي الوسائل التي يتبعها “أوربان”، لتعزيز سيطرة حزب “فيدس” (الاتحاد المدني المجري) الذي يتزعمه، وتقوية سلطته من خلال تحجيمه لحرية الصحافة والتعبير، وحصرها بالجهات الإعلامية المقربة منه والمروجة لسياساته وأفكاره، وفي مجال إدارة الدولة والمجتمع يعمل على تقليص نفوذ البلديات المعارضة له من خلال تفقيرها ماديا.

يقابل الوثائقي رئيس إحدى البلديات والناشط في حركة تحرير البلديات المعارضة، ويسجل شهادته أمام عدسات الوثائقي، فاضحا أساليب “أوربان” للسيطرة على البلديات من خلال فرضه ضرائب إضافية عليها.

يهدف “أوربان” من وراء رفعه قيمة الضرائب أربعة أضعاف -منذ وصوله للحكم عام 2010، وحتى اليوم- إلى تفقير البلديات، وبالتالي إجبار مسؤوليها لتوسل دعم مادي من الحكومة التي يترأسها، فمن يقبل بسياسته يحصل على ما يريد، والرافض لها يبقى فقيرا عاجزا عن تحقيق برامجه، وبالتالي تضعف مكانته ويفقد شعبيته مع الوقت.

صحيفة “ماجر نامزت” الليبرالية العريقة التي استخدم معها “أوربان” سياسة التفقير المالي لإسكات صوت المعارضة وإغلاقها

 

“خط أحمر من يقترب منه يخسر عمله”.. كذبة الحرية

استخدم “أوربان” سياسة التفقير المالي أيضا وسيلة لإفقار الصحف المعارضة وإسكاتها، وتجربة صحيفة “ماجر نامزت” الليبرالية العريقة مثال يقدمه رئيس تحريرها “جابا لوكاش”، فرغم عمله في الصحافة لمدة طويلة فقد وجد نفسه عاطلا عن العمل بعد اضطراره لإغلاق صحيفته.

لم يأت التهديد بالإغلاق مباشرة، بل جاء عن طريق المواقف الغاضبة من كتاباته وآرائه التي تتعارض مع توجهات حزب “فيدس” الحاكم الذي عمل على حصر الدعم الحكومي المقدم لوسائل الإعلام بالجهات الموالية لزعيمه فقط.

يُذكر أن حوالي 80% من وسائل الإعلام الهنغارية اليوم تعتمد على أموال الحكومة، ومن يعارضها يُحرم منها، ومعرفة “لوكاش” بهذا الواقع دفعته حال فوز الحزب في انتخابات عام 2010 إلى إيقاف صحيفته، لأنه كان متيقنا أن حجب المعونة المالية سيشمل صحيفته قبل غيرها.

يلخص “لوكاش” كذبة الحرية الهنغارية بقوله: هذه حرية موجهة لمخاطبة الغرب، ليقول لهم: انظروا، توجد عندنا صحف مستقلة، لكن الحقيقة أن قواعد النشر السرية لا أحد يعرفها، وأولها منع الكتابة عن “أوربان” أو ذكر أي حقائق ذات صلة بشخصه، هذا خط أحمر من يقترب منه يخسر عمله.

أحد المشاريع الربحية التي يعمل فيها عائلة “أوربان” وكل مُقرّب منه

 

المقربون أولى بالفساد.. رحلة إلى قرية الديكتاتور

يكشف أحد الناشطين والخبير في حقل الفساد حجم الفساد المستشري في هنغاريا، وكيف تسهم أموال الوحدة الأوروبية في تعزيز الديكتاتورية، من خلال تقوية المراكز المالية لأقطابها.

من بين الحقائق المذهلة التي يكشفها الوثائقي أن هنغاريا هي البلد الأوروبي الأكثر حصولا على المساعدات، إذ تبلغ سنويا حوالي 40 مليار يورو، وتتأتى عن طريق المشاريع المقدمة للوحدة، لكن يخصص منها 20% لأجهزة الشرطة، وأما البقية فهي للموالين للحزب الحاكم، وللمقربين من “أوربان” وعائلته.

يذهب الوثائقي برفقة الناشط إلى قرية “أوربان”، ويقترب من منزل يعود لرجل أصبح فجأة مليارديرا، لكن التقصي يكشف أن الرجل هو صديق طفولة “أوربان”، وأن ثروته جاءت من وراء مشاريع الوحدة الأوروبية، فقد كان قبل أن يصبح واحدا من أثرى رجال هنغاريا اليوم يعمل في مجال توصيل أنابيب الغاز للمنازل، لكن الديكتاتور قرر تقريبه من دائرته الضيقة، وصار يوزع عليه أغلب مشاريع الوحدة، بينما يقوم هو بتوزيعها على أقارب “أوربان”.

شركة “دولوميت” لاستخراج المعادن، والتي تعود ملكيتها لوالد “أوربان” الذي يجني منها أرباحا خيالية

 

“دولة المافيا ما بعد الشيوعية”.. عصابة في ثوب دولة

يتوقف الوثائقي عند شركة “دولوميت” لاستخراج المعادن، وتعود ملكيتها لوالد “أوربان” الذي يجني منها أرباحا خيالية، ويصفها أحد الخبراء الاقتصاديين بأنها الشركة الأكثر ربحا في البلاد كلها، ويحدث الشيء نفسه مع صهره الذي غدا من أكبر رجالات المال في البلد.

خلقت الآلية المتبعة في توزيع المشاريع وأرباحها نخبة سلطوية يُشبّهها عالم الاجتماع الهنغاري “بالين ماجر” بـ”دولة المافيا ما بعد مرحلة الشيوعية”، وأن الدولة هي التي تتحكم وتدير المافيات، والمفارقة أن أذرعها من شرطة وأجهزة رقابة لا تكافح تلك المافيات، بل تذهب إلى المناطق التي لم يصل الفساد إليها بعد، لتجبرها على دخول “مغارة المافيا”.

تكشف المتابعة الدقيقة للوثائقي أن أغلبية المشاريع المقدمة للوحدة مبنية على معطيات كاذبة، وأن ميزانياتها مُضخمة آلاف المرات.

أحد الأطفال المهاجرين الذين تحاول الأحزاب اليمينية الحد من هجرتهم ومنعهم من دخول البلاد

 

كبح المهاجرين.. مصالح أحزاب اليمين المتطرف

بعد كشف الفساد المستشري في مفاصل الدولة الهنغارية يبقى لنا أن نتساءل: إذن لماذا تظل دول الوحدة تدفع له ولا تطالبه بكشف أوجه صرف الأموال المقدمة إليه؟ هذا السؤال يجد جوابه الوثائقي من خلال التعرف على القوى الداعمة له، وفي مقدمتها الأحزاب اليمينية والشعبوية الأوروبية الممثلة في البرلمان الأوروبي.

يكشف الوثائقي أن كثيرا من هذه الأحزاب اليمينية بحاجة لوجود “أوربان” وأمثاله لتحقيق أهدافها السياسية، ومن بينها الحد من الهجرة، كما يرصد الدعم المقدم من المحافظين الألمان لسياسته ومشاريعه، مقابل منعه دخول المهاجرين إلى بلدهم.

يكرس الوثائقي وقتا لعرض ما قامت به أجهزة الشرطة الهنغارية من ممارسات مشينة ضد مهاجرين عزل أرادوا العبور فقط من هنغاريا إلى أي بلد من البلدان الغربية، إلى جانب هذا ينبع تعاطف تلك الجهات والأحزاب اليمينية المتنفذة معه من توافق منهجه الفكري العنصري مع نهج الكثير منها، فتحالفهم معه يعزز حلف لوبي يناهض التوجه الديمقراطي والتعددي داخل أوروبا.

 

“مجلس المدعي العام الأوروبي”.. قانون يرفضه المستبدون

يقدم الناشطون الأوروبيون الحقائق التي يحصلون عليها من داخل هنغاريا لممثلي بلدانهم في برلمان المفوضية، وذلك لتعزيز مواقفهم وتعرية الأفكار التي يتبناها “أوربان” واستغلاله المال الأوروبي لتعزيز ديكتاتوريته، وعليها يمكنهم اقتراح آلية جديدة للوحدة قادرة على محاسبة المتجاوزين والمتلاعبين بأموالها.

يرصد الوثائقي نتائج جهود الناشطين التي أثمرت عام 2020 عن تشكيل “مجلس المدعي العام الأوروبي” ومقره لوكسمبورغ، حيث أُنيطت به مهمة ملاحقة القضايا القانونية والبت بها خارج السياقات الإدارية المتبعة.

ومن المفارقات الصارخة أن هنغاريا وبولندا امتنعتا من الانضمام إليه بحجة الخصوصية، والحقيقة المعروفة للجميع أن رفض قادتها نابع من خوفهم من المساءلة وكشف الكثير من تلاعباتهم المالية، وهذا ما لا يرغبون به أبدا. في هذه الحالة ما هو الحل العملي للورطة الأوروبية مع “أوربان” وأمثاله؟

يجيب على هذا السؤال الإشكالي عدد من المفكرين الهنغاريين، ويُحيلون الحل إلى الشعب المَجري نفسه، فهو الوحيد القادر على استبدال الطغمة الحاكمة الديكتاتورية بأخرى ديمقراطية تمثل مصالحه وتدافع عنها.