موت كوكبنا المنتظر!

قيس قاسم

لطالما أغوت الشُعَب المرجانية الباحثين عن الجمال في أعماق البحار، بالبحث عنها و”مطاردتها” في كل مكان وكانت فكرة تصوير روعتها وبهجة ألوانها والعالم الهاديء الذي يحيطها، تغوي على الدوام الغواصين والمصورين وعشاق العوالم السحرية. بدا المرجان البحري وشُعَبه في عيون الكاميرات المائية ـ كما وصلتناـ أقرب إلى عالم فانتازي منه إلى عالم ينتمي إلى مسطحات كوكبنا المائية، وأغلب الذين غامروا وكرسوا حياتهم لتصويره كانوا متأثرين بجماله وروعته أكثر من الجانب العلمي الخفي الذي فيه.

حتى المصور العاشق “ريتشارد فيغر” أغوته في البداية جمالياتها لكنه ومع الوقت وبعد رؤيته ساعة احتضارها راح يبحث عن أسباب موتها المفاجيء واحتمال انقراضها ونهاية أسطورة جمالها الدائم، التي سحبته منذ كان طفلاً من اليابسة إلى أعماق المحيطات ليجد نفسه بعد أن صار رجلاً متحملاً مسؤولية أخلاقية إزاء العالم الذي أحبه على الدوام، يحمل رسالة تحذيرية يريد توصيلها إلى البشرية عبر السينما وعبر تجميع أكبر قدر من الحقائق حول احتمال  غيابها الوشيك!. ذلك الوصف الرومانسي المؤثر ورد كله تقريباً على لسان المصور “ريتشارد فيغر” أثناء عرضه تفاصيل رحلة “مطاردة المرجان” البحري بكاميرات خاصة صُنعت من أجل تسجيل لحظة احتضارها، ليعرف العالم ما الذي يجري حقاً في الأعماق وما هو دور الانسان فيه الخراب الحاصل داخلها.

موت الشعاب المرجانية يعني موت كوكبنا المنتظر كما يخلص الوثائقي

لا يخفي راوي “التراجيديا المرجانية” دوافعه الشخصية للعمل ولا ينكر غايته البحثية، لهذا تأثر فيلم  Chasing Coral بهما. جاء الوثائقي الرائع، والذي حصل على مديح نقدي لافت وصل إلى حد أن بعض كبار نقاد الصحافة الأمريكية منحوه درجات تقويم كاملة، جاء في النهاية شخصانياً وعلمياً، فنياً واستقصائياً جمع جمال الصورة مع رصانة البحث، بنفس الأسلوب الفني تقريباً، الذي صنع مخرجه “جيف أورلوفيسكي” فيلمه الوثائقي الأول “مطاردة الجليد” عام 2012.

أما على المستوى الحكائي فربما هو أقرب إلى فيلم Deepsea Callenge 3D وفيه جسد المخرج الأمريكي الكبير “جيمس كاميرون” تجربته الشخصية في صناعة غواصة قادرة على الوصول إلى أعماق البحار والمحيطات وتصوير الحياة فيها بكل وضوح، لكن الفارق بينهما هو؛ العاطفة. “مطاردة المرجان” عاطفي بامتياز مؤثر لم تمنعه موضوعيته من تسجيل وتثبيت الجانب الوجداني والتأثر الشخصي بالمادة المراد بحثها سينمائياً ما يطرح سؤال الموضوعية مجدداً ويفتح مساحة النقاش أوسع حول حدود التدخل العاطفي والشخصي في الفيلم الوثائقي ويبدو أن كاتب النص وراويه وصانع الفيلم وكل من شارك فيه قد أجمعوا على ترك كل تلك الأسئلة جانباً والمضي في تسجيل اللحظات الدراماتيكية كما هي! فعلاقة الكائن البشري بالطبيعة وبخاصة الجانب البهي الجميل منها لا يمكن إخضاعه إلى مقاييس منطقية ولعله لهذا السبب يبدو فيلم “أورلوفيسكي” رومانسياً، تراجيدياً يجسد فصلاً من مآسي الطبيعة، استمرارها يهدد كوكبنا بأكمله بالزوال؟!.

عليها تعيش آلاف الأسماك والحيوانات البحرية المجهرية وبمرضها لن يكون هناك كوكب معافى وسليم

الفيلم تأسس سرده الدرامي على طبقات، كل طبقة لها قصة والقصص بمجموعها تعرض حالة شبه مستعصية على الفهم. وبالتالي نحن أمام تعقيد وغموض لا يتجلى بمرور الوقت. صناعة الكاميرات الخاصة، والتي تبدو مع التطور العلمي والتقني الهائل أمرا غير جدير بالتوقف عنده، أخذ فصلاً كاملاً من الفيلم حتى يمكن تسميته بفصل؛ صناعة كاميرات الغوص الأكثر تعقيداً. والأكثر إثارة فيه أن نتائج التصوير بها لم تأت كما يشتهي صانع الفيلم وكاتبه بل على العكس كانت الحصيلة النهائية قليلة نسبياً، لكنها جد مفيد للبرهنة على ما ذهب الوثائقي من أجله. أراد مخرجه أن يقدم صورتين سينمائيتين: الأولى للشُعَب المرجانية قبل موتها وأخرى لمراحل التغيير التي تطرأ عليها وضرورة أخذ صورة لها وهي في طريقها إلى نهايتها، بعد أن بدأت تفقد ألوانها وتشحب مثل كائن مريض. واحدة من مشاكل التصوير علمية خالصة. فعلماء البحريات لم يدركوا موتها الدراماتيكي إلا بعد سنوات. والسبب ظهور اللون الأبيض على بشرتها واختفاء بقية الألوان.

هذا السلوك المخادع أدى إلى موت مساحات كبيرة منها دون توثيق ولا انتباه كافِ وحين أراد الفيلم توثيقها واجهته مشكلة تصوير دقة التغييرات وضرورة رصدها بكاميرات مثبتة بالقرب منها تراقبها ليل نهار ما شكل تحدياً كرس له صاحب الوثائقي فصلاً كاملاً ربط فيه بين تجربة “الراوي” الذي جاء من عالم الإعلانات إلى التصوير في أعماق البحار. انطلق الراوي من مبدأ عملي يقول كل معضلة قابلة للحل أثناء العمل لكن التصوير داخل المحيطات لا تنطبق عليه هذه المقولة بالكامل. على مستوى آخر يظهر جهل الإنسان بالطبيعة، حتى العلماء المختصين لم يكن عندهم تصور كامل عن أسباب موت الشُعَب المرجانية وعلى نطاق واسع إلى درجة بات يهدد التوازن البيئي لكوكب الأرض، لكنهم في المقابل كانوا مدركين لحقيقة أن المرجان البحري يشكل واحداً من العناصر الفعالة في ديمومة الحياة على الأرض.

ارتفاع حرارة الأرض السبب الرئيس في موتها. حساسيتها المفرطة إزاء أي تغيير يحدث في محيطها وتعقيد تكوينها الفسيولوجي يؤدي إلى تغيرات داخلها تؤدي في النهاية إلى موتها

فهي من يتحكم بدرجات كبيرة في الجو وبنسب الأوكسجين وعليها تعيش آلاف الأسماك والحيوانات البحرية المجهرية وبمرضها لن يكون هناك كوكب معافى وسليم. تُظهر المبادرات العلمية فعاليتها أكثر حين تعرض أمام الكاميرات السينمائية. فالمقابلات مع علماء كرسوا حياتهم لتصوير المرجان وشعبه مكنتهم من تكوّين فكرة عن حجم الخراب الذي يحل بالبحار واليابسة على السواء، ومثال سواحل فلوريدا واضح. لوحدها ومن خلال المقارنة المصورة تبيّن فقدانها أكثر من 90 % من مرجانها ويعود الاضطراب الذي تشهده وارتفاع الموج المفاجئ فيها إلى قلة نسب المرجان. تبدو الأرقام مخيفة. فخلال الثلاثين سنة الأخيرة خسرت البحار أكثر من نصف مرجانها وخسر العالم أكثر من نصف مصداته الطبيعية.

رحلة غواصي الوثائقي المهم إلى (الحاجز المرجاني العظيم) المُسَور لآلاف الكيلومترات من السواحل الأسترالية يشهد تدميراً لم يعرفه الحاجز منذ ملايين السنين. السؤال الملح هنا؛ لماذا؟. سيتوصل الوثائقي إلى نتائج مذهلة تقول؛ إن ارتفاع حرارة الأرض السبب الرئيس في موتها. حساسيتها المفرطة إزاء أي تغيير يحدث في محيطها وتعقيد تكوينها الفسيولوجي يؤدي إلى تغيرات داخلها تؤدي في النهاية إلى موتها. لقد اتضج أن اللون الأبيض، الذي تصبح عليه، إنما هو ناتج عن ردود فعل حادة منها ضد ارتفاع درحة حرارة أجسادها.

أكثر من مليار إنسان يعتمد في غذائه اليوم على الشعب المرجانية بشكل غير مباشر، فموتها يعني موت الأسماك المعتاشة عليها وبالتي ستشح وتنضب

يراكم الوثائقي طبقاته حين يذهب إلى متاحف بحرية حول العالم ويستمع إلى شرح مفصل من علماء حول طبيعة تكوين المرجان ودرجة تعقيده. يذهب ليصور ما سمعه شفاهة ليخرج بصور مبهرة عن حيوات غاية في التعقيد، نظام حياتها تعتاش عليه آلاف الأنواع من الأسماك ودقة عمل وظائف جسمها سبب في تعدد ألوانها. فكل حركة صغيرة ينتج عنها تغيير في لون جزء من أجسامها المركبة والموزعة على شبكة حيوات جانبية يشبهونها بغابة كثيفة ومنها جاءت تسميتها بالشُعب. فكل شعبة هي؛ مصنع معقد البناء ينتج الأوكسجين ويغيّر من حركة الأمواج ويصد القوية منها وبالتالي فالمصد المرجاني الأعظم اليوم مهدد ومهددة معه مساحات كبيرة من سواحل الكوكب بالغرق.

تصويره لموت المرجان وتأثر مصوريها به محزن. مشهدهم وهم يبكون على مصيرها وموت جمالها موجع يحيلنا إلى التفكير بدور الإنسان في الخراب الذي يحل بالأرض لكنه يعطي أيضاً أملاً في ظهور جيل من البشر يتأثرون بالمشهد ويعملون على وضع حد لموت كوكبهم على أيدي بشر مثلهم. شهادات المصورين واستماعهم إلى قصص علماء تأثروا قبلهم بما آلت اليه الأرض بالإضافة إلى ردود فعل الناس بعد عرض مقاطع من تسجيلات كاميرات المشروع السينمائي توقظ الضمائر وتشجع على رفع صوت المطالبة بالعمل على إعادة حرارة الأرض وغلافها الخارجي على ما كانت عليه.

يطلق الوثائقي صيحة تحذير مدوية من مصير مؤلم للكوكب إذا ماتت الشعاب المرجانية.

الصور العارضة للمقارنة المحزنة تصيب المرء بالذهول وتثير السؤال الملح؛ كيف لذلك الجمال الطاغي أن يموت بسبب الإنسان لا الطبيعة وكيف للألوان الزاهية التي يصعب حتى تصور أن تذبل وتشحب وتصبح بيضاء دون روح؟. والرقم النهائي المقدم مخيف: أكثر من مليار إنسان يعتمد في غذائه اليوم على الشعب المرجانية بشكل غير مباشر، فموتها يعني موت الأسماك المعتاشة عليها وبالتي ستشح وتنضب. جانب آخر غير معروف لعامة الناس يقول إن الأدوية الفعالة وبخاصة المستخدمة في صناعة الأدوية المضادة لأمراض السرطان وغيرها تستخرج من المرجان البحري وموت الأخيرة يعني خسارة الناس لمصدر فعال يعالج أمراضهم. بقية الأرقام المعروضة في نهاية الوثائقي بينها ما يستحق التوقف عنده، مثل؛ كمية الحرارة المنعكسة من الخارج على مياه البحار.

أكثر من 80% من حرارة الأرض يعود إلى المياه مولدة داخله طاقة كبيرة غير قادر على تحريرها طبيعياً، فيبقى الفائض داخلها ويؤدي إلى موت ملايين الأحياء البحرية ومن بينها الشُعَب المرجانية. لتقلص مساحتها يحيل العلماء نسبة 37% من الأعاصير البحرية والفيضانات. باختصار موت المرجان هو جزء من موت كوكب الأرض البطيء، وما حزن القريبين منها على ضياع جمالها البهي سوى تعبير عن حبهم لها وشعورهم بجسامة خسارتها، أما المُشاهد لتراجيديتها على الشاشة فسيدرك وقبل كل شيء الإسهام المهم للسينما في عرض الواقع وخفاياه أمامنا كما هو بكل أبعاده الحقيقية.