“هذا ليس مدفنا بل قيامة”.. العجوز التي نسيها الزمن تُصارع للحاق بأمواتها

بين الحين والآخر يعترض طريقنا مخرج طموح هو “ليموهانغ جيريمايا موسيسي” الذي يحتل موقعا متقدما على هذه القائمة. يأتي “موسيسي” إلى عالم الإخراج من عالم التصوير السينمائي، لذلك نتوقع أن أعماله المستقبلية ستعتمد بدرجة كبيرة على جمال الصورة، كما هو الحال مع الفيلم الذي نناقشه اليوم وهو الفيلم الليسوتي “هذا ليس مدفنا، بل قيامة” (This Is Not a Burial, It’s a Resurrection).

يحتوي الفيلم على عدد من الجوانب المميزة للغاية، وهو فرصة جيدة للغاية للراغبين في توسيع نطاق ثقافتهم السينمائية خارج إطار الفيلم الغربي، فالفيلم يقدم رؤية مميزة عن الموت، ويقدم أيضا صورة ممتعة للعين وتصميما صوتيا أكثر من ممتاز. ليس من السهل مناقشة كافة جوانب الفيلم بالطبع، لكن سأحاول الإشارة إلى أكثر عناصره تميزا.

“ليسوتو”.. موطن الثلج المثير في جنوب القارة الإفريقية

قبل بداية الفيلم ربما يلفت نظرنا اسمه الطويل، لكن العنصر الآخر الذي لا يمكن تجاهله هو بلد المنشأ، فـ”موسيسي” هو مخرج من “مملكة ليسوتو”، وهي مملكة تقع بكاملها داخل دولة جنوب أفريقيا. جدير بالذكر أن نطق “ليزوتو” هو نطق أمريكي، لكن النطق الأكثر قربا لما ينطقه أهل البلد هو “ليسوتو”.

“ليسوتو” بلد مثير لأسباب متعددة، إذ تملك تاريخا مميزا في علاقته بالاستعمار البريطاني وعلاقتها مع دولة جنوب أفريقيا، لكن العامل الأكثر إثارة بالنسبة لي على الأقل هو أنها دولة أفريقية يسقط فيها الثلج شتاء نتيجة موقعها المرتفع على قمم جبال المالوتي. ربما تبدو هذه الملاحظة تافهة وغير ذات أهمية، وهي كذلك بالفعل في سياق الفيلم، لكن المرء لا يجد الكثير من الفرص للحديث عن دولة ليسوتو.

تذكرنا هذه الملاحظة بنظرية “البجعة السوداء” التي وضعها الكاتب نسيم طالب في كتابه “البجعة السوداء: تأثير الأحداث شبه المستحيلة” (The Black Swan: The Impact of the Highly Improbable). وقد استقى الاسم من دهشة المستعمرين الأوروبيين من وجود بجع أسود عند استعمارهم لقارة أستراليا، إذ تمتلئ أوروبا بالبجع الأبيض، بل إن لونه الأبيض الناصع هو أهم ما يميزه في الثقافة الأوروبية، ولم يتبادر إلى خيال أي شخص أن يكون هنا بجع ذو لون أسود.

“مانتوا”.. مُنشدة القرية التي تُهيئ نفسها للموت

نعود إلى الفيلم نفسه. فالفيلم يحكي قصة حزينة، لكنه يقدمها بصورة في غاية الجمال.

يحكي الفيلم عن امرأة تدعى “مانتوا” (الممثلة ماري توالا مانتوا)، وهي منشدة قريتها، لكن الأهم من هذا هو أنها ابنة وزوجة وأم وجدة، وقد فقدت “مانتوا” كل هؤلاء الأشخاص، لقد مات جميع أفراد عائلاتها إما موتا ناتجا عن كبر السن، أو موتا نتيجة ظروف العمل غير الآدمية التي عمل تحت وطأتها أولادها في المحاجر والمناجم.

يبدأ الفيلم بانتظار “مانتوا” عودة ابنها الأخير من العمل دون جدوى، حيث يصلها خبر موته.

الممثلة “ماري توالا مانتوا” التي قامت بدور العجوز “مانتوا” التي فقدت كل أفراد عائلتها

للوهلة الأولى يبدو أن “مانتوا” تواجه مشكلة الموت، فهي تسعى طوال أحداث الفيلم إلى التجهيز لموتها، إذ تجتمع بنساء القرية لتختار المنشدة التي ستنشد في جنازتها، وتحاول بإصرار أن تقنع أحدهم أن يبني قبرها مستخدمة المنطق تارة والإغواء المالي، بينما هو مستمر في الرفض، حتى يرضخ أخيرا ويوافق على بناء القبر بسبب حاجته إلى المال.

بعد أن يحصل الرجل على المال لا يملك أن يبدأ في التنفيذ، فيعود إلى “مانتوا” ويخبرها أنه يرفض بناءه. المشكلة بالنسبة له هي أن القبر قبل موت صاحبه يعتبر خطيئة في ثقافة هذه القرية.

من المثير أن نشاهد هذا الصراع والتدافع النفسي بين “مانتوا” ونفسها، وبين “مانتوا” وتقاليد قريتها من أجل الإعداد للموت، وقد لاحظت أن كثيرا من النقاد الذين ناقشوا الفيلم في مقالاتهم يتحدثون عن أن الفيلم يقدم صراع “مانتوا” مع الموت، لكننا نرى أن هذه الرؤية مخطئة. إن الموت هو مجرد أداة للقصة، وليس موضوعها.

“إن الزمن نسي مانتوا”.. رؤية براغماتية حول فلسفة الموت

أشرت من قبل في مقدمة هذا المقال أن الرؤية التي عرضها “موسيسي” للموت في الفيلم مميزة، ولا أذكر أنني تعرضت لها من قبل. إن حزن “مانتوا” لم يكون خوفا من الموت، وصراعها ليس هربا منه.

عادة ما يتناول الموت من زاوية من اثنتين، إما أن الموت شر لا يمكن الإفلات منه، ونحن كبشر منذ بدء ظهورنا نسعى للهرب منه، ولهذا نسعى إلى التقدم العلمي كي نزيد من أعمارنا قدر الإمكان.

“مانتوا” تجلس وحيدة حزينة في بيتها بعد وفاة آخر أبنائها

أما الزاوية الأخرى فهي زاوية التصالح مع الموت بوصفه حقا، وهي الرؤية الدينية التي ترى أن الموت ليس النهاية، إن الحياة هي دار اختبار عابرة، بينما يكون الخلود في حياة أخرى بعد الموت، وهي رؤية تشبه الفلسفات والنظريات غير الدينية التي ترحب بالموت، كما هو حال “كارل يونغ” المحلل النفسي السويسري، وأحد الآباء المؤسسين للتحليل النفسي الحديث، فهو يرى أن الحياة بصورتها الحالية هي مجرد صورة واحدة للحياة بمعناها الأوسع الذي يمتد ليشمل صورا أخرى، ومن ثم فالموت هو مجرد عملية انتقال من حياة إلى أخرى، لكن “موسيسي” لديه وجهة نظر أخرى.

إن “موسيسي” يقدم رؤية براغماتية بعض الشيء، من حيث أنه لا يرحب بالموت ولا يحبه، ولا ينتظر حياة أخرى بعد هذه الحياة، لكنه يعلم أيضا أن الموت واقع لا فكاك منه، وأنه جزء من تجربة الإنسان، ومشكلة “مانتوا” ليست موت عائلتها، بل عدم موتها هي شخصيا.

يقول راوي الفيلم إن الزمن نسي “مانتوا”، وهو تعبير مدهش، وفي رأي الشخصي عبقري. كثيرا ما نستخدم تعبيرات مثل “الموت حق” أو “واقع لا مفر منه”، لكن ماذا لو مات الجميع ونسيك الزمن ولم تمت أنت أيضا؟

إن موضوع القصة التي يعرضها “موسيسي” في واقع الأمر هو الزمن.

الناصرة.. اسم المستعمرين يطمس هوية سهل البكاء

على الرغم من غلبة وقوة الحديث عن الموت في الفيلم، فإن رؤيتنا عن أن الزمن هو الموضوع الأساسي واضحة للغاية، وقصة الفيلم تعبر عنها بقوة. تحكي القصة عن “مانتوا” التي يأتيها خبر وفاة آخر أفراد عائلتها، وهو خبر تقابله بصمت كبير، لكن أعماقها تموج بغضب كبير ما يجعلها تفقد إيمانها.

أهل القرية مجتمعون لكتابة التماس للملك حتى يعدل عن قرار إنشاء السد

إن القرية تدين بالمسيحية التي جاء بها اثنان من المبشرين مع الاحتلال البريطاني، وقاموا بتسمية القرية باسم الناصرة، تيمنا بمدينة الناصرة في فلسطين، لكن “مانتوا” دائما ما تؤكد في أفكارها وحديثها مع أطفال القرية أن هذا اسم مستحدث، وهو لا يعبر عن قصة القرية.

تحكي “مانتوا” لأحد أطفال القرية أن هذه القرية لم تكن موجودة، وكانت مجرد سهل يمر به أهالي القرى الأخرى أثناء انتقالهم من قراهم إلى العاصمة. اضطر الناس إلى ذلك أثناء انتشار الطاعون، وبسبب وجود المراكز الصحية في العاصمة، كان من الضروري أن ينقلوا مرضاهم إلى هناك ويمروا في طريقهم بهذا السهل، لكن كثيرا ما يموت المرضى ويدفنون فيها، ولهذا السبب رغب الأهالي في البقاء في هذا المكان، حتى لا يهجروا أمواتهم ويعودوا إلى بيوتهم الواقعة في قرى أخرى.

هكذا تميزت الناصرة بكثير من الباكين على فراق أحبائهم، وعندما تكونت القرية سُميت سهل البكاء، وهو الاسم الذي غيره المبشرون المسيحيون.

إن “مانتوا” ما زالت تقاوم التغيير، وتخلّت عن إيمانها وطقوسه من أجل أن تعود إلى تراثها، وما زالت تحيي الاسم القديم للقرية. ومن المتفهم بالطبع أن يثير هذا الأسلوب في التفكير تحفظ البعض، خاصة ربط الموت بالزمن، لكن من الواجب أن نشير إلى أنه وبشكل جوهري تماما هناك نوعان فقط للتعامل مع الموت، وهو أنه إرادة من إله خالق، أو أننا نموت ونحيا ولا يهلكنا إلا الدهر.

ومن الواضح أن “موسيسي” يرى الموت كجزء من سريان الزمن هو فعل من أفعال الدهر. لقد أتى الزمن بالاحتلال البريطاني، وأتى بدينهم أيضا، وأدى ذلك إلى طمس هوية القرية، لكن هذا ليس آخر تغير تقاومه “مانتوا”، بل إننا لم نتطرق حتى الآن إلى المشكلة الرئيسية في الفيلم.

وحش التقدم.. سد يمنع العجوز من اللحاق بأجساد أمواتها

التحدي الجديد الذي تواجهه “مانتوا” هو تحدي التقدم، فقد وضعت خطة لتطوير البلد من خلال بناء سد لتخزين الماء في هذه المنطقة، وهو ما سيجعل القرية كلها تغرق تحت المياه، ومن ثم يجب على الجميع الرحيل إلى مكان آخر، لكن “مانتوا” لا ترغب في الرحيل، لقد مات جميع أفراد عائلتها ودفنوا في هذا المكان، وإذا رحلت هي فستدفن وحيدة، وهو آخر ما ترغب فيه “مانتوا”.

“مانتوا” تفكر في مصير جثتها بعد الإعلان عن إنشاء سد سيجعل القرية كلها تغرق تحت المياه مما يؤدي إلى تهجير أهل القرية

إن “مانتوا” لا تهتم بالتقدم، والتقدم يُعرض في الفيلم بوصفه سيرورة تاريخية، شيئا طبيعيا نتواكب معه، لكن “مانتوا” تنتظر الموت حتى تلحق بعائلتها، إلا أنها كما يبدو سقطت سهوا من سجلات الزمن الذي نسي أن يأخذ حياتها هي الأخرى. فهي تعيش وحيدة في منزلها، تنتظر ولدها بفارغ الصبر، وعندما لا يعد إليها أصبحت ترغب في الذهاب إليه.

من الملاحظات الطريفة أنني وجدت أداء الممثلة “ماري توالا” لشخصية “مانتوا” مذهلا، لكن أهل ليسوتو وجنوب أفريقيا علقوا بأن تمثيلها كان سيئا، نتيجة لكونها غير متمكنة من لغة ليسوتو التي تدعى “سيسوتو”، فـ”ماري” من جنوب أفريقيا لا من ليسوتو. لكن هذه المشكلة لن تؤرق أحدا من قراء هذا المقال بالتأكيد.

الملاحظة المهمة هنا هو أن الجهل باللغة أدى بي إلى تقدير أعلى للتمثيل بتعبيرات الوجه. والفيلم في أغلبه صامت والكلام فيه قليل، والتركيز على الصورة وتعبيرات الوجه هو الأسلوب الأساسي المتبع.

“موسيسي”.. تجربة جريئة لمخرج قادم من عالم التصوير

ذكرت في أول المقال أن “موسيسي” جاء إلى عالم الإخراج من عالم التصوير، وهذا الفيلم هو ثاني فيلم روائي طويل من إخراجه، والفيلم في معظمه يظهر وكأنه مجموعة من الصور المتتابعة التي ربط بعضها ببعض من خلال تتابع الأحداث، وتصلح كل من هذه الصور أن تكون عملا فنيا مستقلا يمكن طباعته وعرضه في معرض.

المخرج “ليموهانغ جيريمايا موسيسي” الذي انتقل من عالم التصوير إلى عالم الإخراج

إن الفيلم بلا شك هو متعة بصرية، على الرغم من أنه ليس كاملا بالتأكيد، وفيه كثير من العيوب، إلا أنه من الطريف أن هناك بعض المشاهد التي نلاحظ فيها مشكلات تقنية لا يقع فيها هاو، فمثلا في الدقيقة الخامسة والعشرين تقريبا تقوم “مانتوا” من سريرها بعد أن مر وقت كاف كي تستقر مشاعرها، وتبدأ في التحرك حركات راقصة يبدو أنها حركات فلكلورية تقليدية، وفي هذا المشهد تحديدا يستخدم “موسيسي” الكاميرا بصورة مختلفة عن كل ما قبله.

ما قبل هذا المشهد الذي يمثل تحولا لـ”مانتوا” تكون الكاميرا مثبتة دائما، ويتحرك الأشخاص داخل الإطار، لكن بعد هذا المشهد تبدأ الكاميرا بالتحرك هي الأخرى، والطريف أنه في هذه الدقيقة تتحرك الصورة بشكل يوحي بوضوح شديد أن المصور ينزع الكاميرا من الحامل الخاص بها، إضافة إلى هذا نشاهد بعض الخيارات غير المألوفة للمخرج، كأن يروي الفيلم راو، وهو أمر لم يعد مفضلا منذ زمن، وأن يُصور الفيلم بنسب 3:4 كما هو الحال مع الأفلام القديمة، فالتصوير في العصر الحالي يكون بنسب 16:9، لكن هذه الخيارات هي خيارات فنية يلجأ لها المخرج كيفما ووقتما يرى، وليست فيها خطأ أو صواب.

في النهاية نقول إن فيلم “هذا ليس مدفنا، بل قيامة” فيلم مميز ومادة جيدة للنقاش، وبوابة للتعرف على لغة سينمائية جديدة ومختلفة عن المعتاد، وقد استغل “موسيسي” فرصته أفضل استغلال، وقدم لنا تجربة جريئة وجميلة.