“واقع آخر”.. هل يتوب المجرمون؟

قليلة هي الأفلام الوثائقية التي تقترب من عالم صُنّاع الجريمة بكاميرا ظاهرة تتحرك بحريّة بينهم، تذكر أسماءهم وعناوينهم وجرائمهم وأنشطتهم، وتحافظ على مسافة الموضوعية دون أن تُدينهم أو تحكم عليهم، وحتى إن وُجدت فهي تجميع لصور مُشوّشة ومتفرقة تم التقاطها بكاميرا مُخبأة، أو مأخوذة من أرشيف مراقبة أمنية، وفي بعض الأحيان تم تنزيلها من هاتف مُجرم مقبوض عليه، أو عميل انتهت فترة عمله.

وبواسطة هذه المادة -وإن كانت ناقصة- يتم تقديم أفلام تُوصف على أنها تتحدث عن الإجرام وحياة المجرمين، ويتم اعتبار صاحبها أو مخرجها مكتشفا لهذه الحياة السرية رغم ضحالتها، ومن المؤكد بأنه سيكون في خطر، أو سيمشي ويلتفت خلفه، وسيعيش حياة خوف ورعب وشكّ في كل شخص.

مُعادلة مُغايرة

في الفيلم الوثائقي الألماني “واقع آخر” (2019) للمخرجين “نويل درنيش” و”أولي فالدهاور” (عُرض في مهرجان الجونة السينمائي 2019) تتغير المعادلة وتختلف تماما، حيث يمكن للمُشاهد أن يرى هذا العالم وصنّاعه يتحركون في كل الأمكنة بكل حريّة، وبدون عقدة من الكاميرا التي لازمتهم لأوقات طويلة، ورافقتهم إلى الأماكن التي يجلسون ويقضون فيها أوقاتهم، غرف نومهم وفضاءات أنشطتهم وأماكنهم السرية وعائلتهم القريبة وأصدقائهم وزبائنهم، والأماكن التي يحلقون فيها رؤوسهم، والصالات التي يمارسون فيها رياضتهم.

لا يتوقف الأمر هنا، فقد تسللت الكاميرا وميكروفون الصوت وكاشف الإضاءة إلى أحلام الطفولة فيهم، إلى كوابيسهم وعلاقتهم بالله والمجتمع والمحيط الأقرب لهم، وعلاقتهم بالماضي المُلطخ بالدم والحاضر الذي تصالحوا معه، والمستقبل الذي سيحمل إليهم الكثير من المفاجآت التي لا تسرّ، ربما رصاصة يُخبؤها شخص لم ينسَ موت قريب له على أيديهم، أو حاقد لم يغفر لهم توبتهم، أو جريمة قديمة لم يحسبوا حسابها، أو عنصري لا يحتمل المهاجرين وإن كانوا من الأوائل.

من هنا سيبقى سجل الاحتمالات مفتوحا، والقلم الذي بداخله حبر الإجرام لا يجفّ ولا ينضب.

مخرجا الفيلم مع بعض الشخصيات التي تم تسليط الضوء عليها في العمل

احترافية المخرجين

يمكن أن نستنتج من عملية صناعة فيلم “واقع آخر” أن أحد مخرجي العمل أو كليهما يملكان علاقة قوية مع شخصيات الفيلم، هذه العلاقة ربما تعكسها صلة الدم الأسرية أو الصداقة، أو حتى أنه يمكن أن يكون أحدهما مُهاجرا عاش تجربة التمييز العنصري كونه لا ينتمي إلى البلد المُضيف، خاصة وأن المعطيات التي وردت في العمل من ثراء وتنوع في الصورة التوثيقية، وتعدد اللقاءات والمقابلات في أزمنة مختلفة؛ تعكس دورة الحياة بخيرها وشرها.

هذا ما يُعزز الاحتمالات التي أوردناها أعلاه، لأنه ليس من السهل أن يتم خلق علاقة ربط قوية بين المخرجين وشخصيات فيلمهما بهذا العمق وبهذه الفيوضات التي حصل عليها الفيلم، دون وجود سبب قوي استطاع أن يخلق كل هذا الجهد، لكن الشيء المؤكد هو أن المخرجين -بغض النظر عن قربهما أو بعدهما عن شخصيات العمل- محترفان ويعرفان موضوعهما جيدا.

مجموعة من الشباب ينتمون إلى عائلات مهاجرة، أجبرتهم الظروف على أن يتركوا بلدانهم الشرق أوسطية ويستقروا في إحدى المدن الألمانية

المهاجرون.. درجة ثانية

سلّط المخرجان الضوء على مجموعة من الشباب ينتمون إلى عائلات مهاجرة، أجبرت الظروف آباءهم وأجدادهم على أن يتركوا بلدانهم الشرق أوسطية والآسيوية ويستقروا في إحدى المدن الألمانية، حيث وُلدوا وكبروا ودرسوا في بيئة مليئة بالحقد والكراهية، الدافع لها هو التمييز العنصري الذي يقابلهم به أبناء البلد، سواء كمجتمع أو من الأنظمة السياسية.

هذه الأخيرة تتعامل معهم دائما على أنهم أقل منزلة من الآخرين، أو أنهم مواطنون من درجة ثانية، خاصة وأنها خلقت لهم فضاءات سكن تجمعهم كمهاجرين من أجل احتوائهم والتسهيل من عملية المراقبة المستمرة لتحركاتهم، ويتعلق الأمر بكل من “أجيت” و”أحمد” و”سنان” و”كيانوش” و”بارهام”، وهي الشخصيات التي اختارها المخرجان كعينات لفيلمهما.

كثيرة هي الأمور المشتركة التي تجمع الشباب الذين تم تسليط الضوء على حياتهم

أنا والآخر.. تعبيد طريق الإجرام

حلّل المخرجان علاقة المهاجرين مع “الآخر” الذي لفظهم وعبّد لهم طريق الانحراف والإجرام، خاصة وأنهم تعلموا من المدرسة إلى أن أصبحوا شبابا بأنهم فئة غير مرغوب فيها، لهذا أرادوا أن يظهروا للعالم بأنهم يعيشون هنا من خلال صرخة رفعوها عن طريق الإجرام.

وحسب ملخص الفيلم فإن الأحداث “تدور فى مُدن ألمانيا الكُبرى، حيث تصبح العائلات التي تعيش خارج إطار القانون كأنها موجودة فى عالم موازٍ للواقع.

يرصد هذا الفيلم الوثائقي رجالا بلحى طويلة مُشذبة وعضلات منتفخة وسيارات ضخمة، حيث يسمحون لجمهور الفيلم برؤية ما في داخل منازلهم، وذلك لمشاركتهم أحلامهم عن العالم. تصبح الحياة هنا أغرب من الخيال على إيقاع موسيقى “راب” العصابات، وأنماط الاندماج الجديدة التي يتخيلها هؤلاء البشر.

الكاميرا تسللت إلى أحلام الطفولة فيهم، كوابيسهم، علاقتهم بالله والمجتمع والمحيط الأقرب لهم

رد الصاع صاعين.. حصاد العنصرية

كثيرة هي الأمور المشتركة التي تجمع الشباب الذين تم تسليط الضوء على حياتهم، والتي اكتسبوها مع الوقت وأصبحت من أساسيات حياتهم، من بينها ممارسة الرياضة بشكل مستمر، خاصة رياضة كمال الأجسام، لهذا نراهم مفتولي العضلات كأنهم أبطال لهذه الرياضة، بالإضافة إلى اعتناء الكثير منهم بلحاهم وتشذيبها بشكل جيد.

أما الأنشطة الإجرامية التي يمارسونها فهي تختلف من فرد لآخر، مثل بيع المخدرات والسرقة والاعتداءات وحتى القتل والابتزاز، وكمثال عن النشاط الأخير فهم يتتبعون عريسا جديدا، حيث يقومون بتصويره في خيانة ما ثم يقدمون له الصور، فما يكون من الأخير سوى الاستجابة لهم، خاصة وأنه عريس جديد لا يريد أن يخسر حياته الزوجية.

يعيشون هذه الحياة وقد دفع العديد منهم ثمنا لها، إذ دخلوا السجن بسبب هذه الممارسات التي يرفضها المجتمع والمنطق، وحتى داخل السجن فهم يحتكمون إلى منطق القوة دائما لفرض الاحترام على الآخر، ومن الأشياء التي ساعدتهم في ذلك العضلات المفتولة والقوة البدنية التي يتمتعون بها، ناهيك عن الحقد الذي يحملونه جراء التمييز العنصري، وكأنهم يريدون الانتقام من المجتمع الذي دفعهم إلى هذا الإجرام.

شخصيات العمل تجاوزت عوالم الإجرام، وأراد كل فرد فيهم البحث عن عمل مشروع

من وجع الجريمة إلى لذة النجاح

تجاوزت شخصيات العمل عوالم الإجرام، وأراد كل فرد فيهم البحث عن عمل مشروع، لهذا أوصدوا أبواب الإجرام خلفهم، وفتحوا أبوابا جديدة للرزق الحلال، وقد نجح معظمهم في تحقيق هذا، حيث بدأ أحدهم يمارس أعمال التجارة، وقام آخر بتأسيس شركة لتأجير السيارات، فيما قام آخر بتتبع حلم الطفولة وهو غناء “الراب”، إذ استغل فترة مكوثه في السجن للتفكير مليا في حياته المستقبلية.

لهذا عندما خرج مباشرة شَغَل الفراغ الذي كان يعيشه، وأسّس لنفسه رفقة صديقه إستوديو لتسجيل الأغاني، وبدأ بالنحت في الصخر ليحقق حلم الغناء، وبعد الكثير من المحاولات بدأ يمشي على طريق النجاح بجمع المال من عرق جبينه، وذلك بعد أن انتشر اسمه كمغني “راب” وأصبحا معروفا.

فيما توسع صاحب شركة السيارات في مجاله، وأصبح يرفض كراء إحدى سياراته لمن يشعر بأنه سيستعملها في عملية سطو أو سرقة، إذ أظهر هذا الفعل بأنه يرفض بشكل قطعي حياة الإجرام له وللآخرين، وهكذا فعل الجميع بعد أن شعروا بأن حياة الإجرام لا تجلب لهم سوى الخراب وشعور الخوف الدائم، أما لذة النجاح فإحساس لا يمكن التخلي عنه بسهولة، لهذا جعلوا لحياتهم التي كانت مليئة بالجريمة معنى آخر يُرضي قناعاتهم الجديدة والقانون الذي يسيرهم.

فيلم “واقع آخر” استطاع أن يتعدى الحقيقية ليصل إلى القيمة الإنسانية في أسمى معانيها

“واقع آخر”.. انتصار للحلم

استطاع فيلم “واقع آخر” أن يتعدى الحقيقية ليصل إلى القيمة الإنسانية في أسمى معانيها، وأن يتعامل مع الفرد كفرد بغض النظر عمّا يحمله من قيمة معيارية يزنه بها المجتمع وفقا لمعاييره الموروثة.

لم يسُق الفيلم اتهامات جاهزة لهؤلاء الذين مارسوا الإجرام مُسيَّرين لا مُخيرين، وفقا لنظام وواقع هيّأ لهم كل الظروف من أجل خلق هذا الإجرام وجعله طريقة حياة وعيش، لكن هؤلاء استطاعوا أن يتخلصوا من هذا الواقع المفروض، ويصنعوا لأنفسهم واقعا جديدا، “واقع آخر” مقبول من عائلاتهم ومجتمعهم وذواتهم وهو العنصر الأهم بالنسبة لهم.

استطاع هذا الفيلم أن ينتصر لحلم هؤلاء وأن يرافق خطواتهم لسنوات، ليرى الحياة الجديدة التي دخلوا فيها ويقارنها بالحياة القديمة التي يحتفظ بأرشيفها، ليرافق هذا التغيير الجذري الذي يحصل، وفي الوقت نفسه يشير إلى قضية في غاية الأهمية، وهي عملية عدم اندماج المهاجرين مع المجتمع الألماني رغم نجاح وتفوق نسبة كبيرة منهم، حتى إن نجاحهم تجاوز أبناء البلد بأشواط، لكن المهاجر -في نظرهم- يبقى مهاجرا حتى ولو عاش مئات السنوات في ألمانيا. لهذا وجبت الإشارة إلى هذه المشكلة الهوياتية الخطيرة التي تعشش في العديد من الدول.

خيارات فنية مُشبعة

على المستوى الفني جاء العمل مُشبّعا بالخيارات الفنية التي تنوعت في مصدر الوثائق، والتي جاء معظمها مُصوِرا لحياة هؤلاء، حيث التقط فيها العديد من التفاصيل المهمة التي حدثت، سواء كأوقات سعيدة أو العكس، لدرجة أن أبطال الفيلم تعودوا على وجود الكاميرا وتم تناسيها تماما.

لهذا جاء الفيلم على مدار 98 دقيقة كاملة منسجما يسير على طريق معالجة سليمة، حيث تم توزيع بؤر التوتر فيه بطريقة متساوية، كما استطاع أن يسير في خط إثارة معتدل لم ينزل عن مستواه في الكثير من المَشاهد، وحافظ على استقرار خط العمل من البداية إلى النهاية، وهذا للتوزيع الجيد للمعطيات والوثائق الفيلمية التي يحوزها المخرجان.