المبيدات الزراعية الكيميائية.. إبادة جماعية للأحياء الدقيقة والحشرات النافعة

الوثائقي البلجيكي الفرنسي المشترك “مبيد الحشرات.. كيف تقتل الكيميائيات الزراعية الحشرات كلها؟” (Insecticide, comment l’agrochimie a tué les insects) يكشف التأثيرات المدمرة للمبيدات الزراعية الكيميائية التي لا تكتفي بقتل الحشرات الزراعية الضارة فحسب، بل تُبيد معها الأحياء الدقيقة والحشرات النافعة، وتنسحب تأثيراتها السلبية على الإنسان والطبيعة، وتحدث بسبب تراكيبها الكيميائية الخطيرة خللا في التوازن البيئي الضروري لديمومة الحياة.

الكشف المستند على حقائق علمية يُواجه برفض شركات الصناعات الكيميائية الزراعية العملاقة التي تعمل على تكذيب ما يقدمه العلماء والخبراء من أدلة علمية ومختبرية دامغة، حرصا منها على ديمومة إنتاجها، وبالتالي حصولها على مردود مالي يبلغ حسب الوثائقي مليارات الدولارات سنويا.

آثار الكيمياء.. أكبر إبادة جماعية للأحياء الدقيقة

يُكمِل المخرج “سيباستيان سيغا” ومساعداه “سيلفان ليبيتي” و”ميوكي دروز أراماكي” ما جاء في التحقيق الاستقصائي الذي أجراه زميلهم الصحفي “ستيفان فوكارت”، ونشره في صحيفة “لوموند” الفرنسية، ثم طُبع لاحقا في كتاب مستقل، بأدلة مدعومة بالتسجيلات الفيلمية، وبشهادات علماء مختصين عملوا على فضح دور شركات إنتاج مبيدات الحشرات الزراعية في التستر على التأثيرات الجانبية الخطيرة لمنتجاتهم الكيميائية على البيئة والأحياء الدقيقة والإنسان.

وقد وصف أحدهم نتائج استخداماتها على نطاق واسع بأنها أكبر عملية إبادة جماعية للأحياء الدقيقة والحشرات يشهدها كوكب الأرض لحد الآن، وأنها أدت إلى انقراض 75% من مجموع الحشرات النافعة في أوروبا لوحدها.

كما أدت في مناطق مختلفة من العالم إلى انقراض أنواع كثيرة من الأسماك والطيور، مما أسهم في قطع التسلسل الطبيعي لوجودها، وأضر بالتالي بالتوازن البيئي الذي دام لملايين السنين.

“نيونيكوتينويد”.. قاتل حشرات الطريق المنقرضة

ينطلق الوثائقي من ملاحظة يشير فيها صاحب الكتاب الاستقصائي والمشارك في الوثائقي إلى اختفاء ملحوظ في كمية الحشرات الملتصقة بزجاج سيارته الأمامية خلال سيره على الطرق الزراعية الأوروبية، وهو يقارنها بالماضي حين كان سائقو السيارات في الخمسينيات يضطرون أحيانا للتوقف من أجل تنظيف الزجاجة الأمامية لسياراتهم من كثرة الحشرات المرتطمة بها، أما اليوم فلا يكاد المرء يجد لها أثرا. أين اختفت تلك الحشرات؟

من هذا السؤال ينطلق الوثائقي في بحثه العلمي والاستقصائي لمعرفة أسباب اختفائها، وتقوده مقابلته لعدد من العلماء الزراعيين إلى اسم المبيد الزراعي الكيميائي “نيونيكوتينويد” المستخدم على نطاق واسع في المزارع.

يُشخص العلماء هذا المبيد بوصفه واحدا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إبادة آلاف الأنواع من الحشرات والأحياء الدقيقة النافعة، ويذهب الأطباء إلى اعتباره مسببا أيضا لأمراض سرطانية تصيب الإنسان، جراء تناوله محاصيل زراعية معرضة جذور نباتاتها لمواد كيميائية خطيرة يحتويها المبيد الزراعي.

من اليابان إلى العالم.. ثورة في مجال مكافحة الآفات الزراعية

ظهر هذا المبيد الزراعي الجديد في بداية تسعينيات القرن المنصرم، وقد اعتبره المزارعون حينها -وبشكل خاص أصحاب المزارع الكبيرة- ثورة في مجال مكافحة الآفات الزراعية. لقد كان مفعوله قويا وقادرا على قتل كل الأنواع.

لذلك وبعد استحصال الشركات المنتجة له -وبشكل خاص العملاقة منها، مثل “باير” و”مونسانتو” و”سينجينتا” و”باسف”- على موافقات رسمية من الجهات الصحية العالمية تجيز استخدامه، راح أصحاب المزارع يستخدمونه على نطاق واسع، من دون التفكير بآثاره الجانبية الخطيرة.

يراجع الوثائقي تاريخ ظهور المبيد الكيميائي، ويتوصل إلى أن العلماء اليابانيين هم أول من توصل إليه، فقد استخدموه في عام 1993 لمكافحة الآفات الزراعية المضرة بمحصول “بنجر السكر”، وبعد التأكد من نتائجه “السحرية” انتقل المبيد إلى أوروبا بادئ الأمر، ثم وصل لاحقا إلى مناطق بعيدة من العالم.

تغلغل المبيد في المحاصيل الزراعية.. سُمّ على موائدنا

استخدم المبيد على نطاق واسع من دون معرفة التأثيرات السلبية البعيدة المدى على الإنسان والأطفال بشكل خاص، لكونه يحتوي على مادة النيكوتين المدمرة للأعصاب.

يوضح العلماء المشاركون في الوثائقي طبيعة تلك المادة الكيميائية، ويشبهونها بتلك المادة الموجودة في التبغ، ويؤكدون أن التبغ تاريخيا قد استخدمه المزارعون كمبيد زراعي، وفي الثمانينيات من القرن المنصرم دخل في تراكيب المبيدات الحشرية.

المواد الكيميائية تتغلغل في نسيج المحاصيل الزراعية

إن خطورة استخدام مبيد “نيونيكوتينويد” تكمن في تغلغله داخل المحاصيل الزراعية، وبالتالي لا فائدة كبيرة تنتظر من عملية غسلها أو تعقيمها قبل أكلها، ما دامت قد أصبحت جزءا من تركيبتها العضوية.

انقراض الأسماك.. موت يتسرب من المزارع إلى البحيرات

في اليابان ظهرت التأثيرات الجانبية لاستخدام المبيد بشكل واضح في أنهارها وبحيراتها، فقد لاحظ الصيادون أنه في منتصف التسعينيات بالتحديد اختفت أنواع معينة من الأسماك، وعند البحث في أسباب ذلك الاختفاء ظهر أن المواد الكيميائية المستخدمة في المبيدات الزراعية قد تسربت إلى المياه من تربة المزارع، وأدى وجودها فيه إلى موت الأسماك.

وفي أوروبا لاحظ العلماء تردي نوعية المحاصيل الزراعية، مع اختفاء متلازم للفراشات والنَحل وبقية الحشرات “المُلقِحة” التي تسهم في عملية التلقيح الطبيعي للأزهار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية جفّت التربة وفقدت مرونتها السابقة، نتيجة للاستخدام المفرط للمبيدات الزراعية الكيميائية.

المبيدات تسمم المياه اليابانية

كما لم يقتصر استخدامها على نوع محدد من المحاصيل الزراعية، بل راح المزارعون يستخدمونها على مختلف الأنواع كالصويا والذُرة وغيرها، وبات من المستحيل إقناعهم بالتوقف عنها، وكانت الشركات المنتجة لها أيضا تشجعهم على ذلك، وتنشط في نقل معلومات توحي بأن المبيدات أضحت مثل “ضمانة” لديمومة منتجاتهم، من دون أي إشارة منها إلى العواقب البيئية والصحية جراء استخدامها. لكن هل كانت الشركات على علم بتلك العواقب؟

تغذية النزعة الربحية.. عوامل الإخلال بالنظام البيئي

قبل المضي في البحث والتحقيق عن دور شركات إنتاج المبيدات في توسيع دائرة استخدامها من دون أي إشارة لأضرارها، يذهب الوثائقي لتثبيت حقائق حول النتائج الكارثية المؤكدة لاستخدام عدد من أنواع المبيدات الكيميائية الزراعية.

كل عام يزداد حجم انخفاض مجموع النحل وكل الحشرات النافعة بشكل سريع لم تشهده قارة أوروبا من قبل

يقدم العلماء أرقاما دلالة على أضرارها، ففي عام 2008 انخفض عدد الفراشات في أوروبا لوحدها حوالي 67% من مجموع أعدادها بالمقارنة بالسنوات التي سبقتها، ففي كل عام يزداد حجم انخفاض مجموع الفراشات والنحل وكل الحشرات النافعة بشكل سريع لم تشهده القارة من قبل.

وعلى النطاق العالمي يصف عالم الحشرات الأمريكي “جوناثان لوندغرين” الظاهرة بأنها كارثة بيئية لم يسبق أن عرفها التاريخ البشري، بينما يصف زملاء أوروبيون له الظاهرة بأنها إخلال كبير بالنظام البيئي الطبيعي، لأن الحشرات تقوم بدور فاعل فيه، وأن عدم انتباه العالم لخطورتها يزيد من حجم الكارثة، فالناس لا يعبؤون عادة بموت النحل أو الفراشات، لكن يشد انتباههم موت أسد أو حيوان بري كبير.

ومن أخطار استخدام المبيدات الكيميائية أنه يغذي النزعة الربحية عند المزارعين، ويُنسيهم حماية أراضيهم ومحاصيلهم على المدى البعيد.

تضليل الرأي العام.. إستراتيجية التجاهل وتشتيت الجهود

يقابل صُناع الوثائقي سيدة فرنسية صاحبة منحلة عسل، وفي شهادتها توثق حجم الخسارة الحاصلة في أعداد النحل الموجود في حقول تربيتها الخاصة. مشاهِد موت آلاف منه تدفع مربية النحل للمطالبة بوقف استخدام المبيدات الخطيرة في الحقول، وبسببها يموت النحل وبقية الحشرات.

من مطالبتها المشروعة يسعى الوثائقي لمعرفة دور الشركات المنتجة للسموم الكيميائية في ما يلحق بنحلها من دمار، إلى جانب ما تسببه من أضرار للإنسان وإخلال جسيم بالتوازن البيئي، يفرض عليهم التوقف عن إنتاجها.

استخدام واسع النطاق للمبيدات الحشرية

جراء التقصي يظهر أن الشركات كانت على علم بتركيبة تلك المبيدات، وأنها تعمل على تضليل الرأي العام والسياسيين من خلال إنكارها لمعرفتها المسبقة بذلك، ومن أجل الثبات على موقفها تتبع إستراتيجية ذكية تهدف إلى شق وحدة العُلماء والباحثين عبر الاستعانة بالبعض منهم واستمالتهم إلى جانبها، من خلال تقديمها لهم أموالا كبيرة، مقابل نشرهم معلومات متناقضة مع تلك التي يتوصل إليها علماء محايدون ونزيهون.

كما تلجأ إلى رشوة مؤسسات رسمية معنية بالصحة العامة تأخذ في الظاهر شكل دعم ومعونات مادية كبيرة، وتقدم لها من أجل كسب تأييد مسؤوليها لما تروجه من أكاذيب، أو لضمان صمتهم في أقل تقدير.

قطع أرزاق العلماء.. جرائم تحت عيون الجهات الرسمية

في حال عدم صمت الشرفاء من العُلماء تلجأ الشركات العملاقة إلى أساليب الابتزاز والتهديد ومحاربتهم بأرزاقهم.

تجربة عالم الحشرات الأمريكي “جوناثان لوندغرين” يقدمها الوثائقي بكل تفاصيلها، لأنه يعرف حقيقة تركيبة المبيدات، فقد وقف ضدها وطالب بمنع تراخيصها، ورغم كفاءته المهنية التي جعلته واحدا من بين العلماء الأمريكيين المكرمين في عهد الرئيس السابق “أوباما”، فقد نجح ضغط الشركات على المؤسسات التي يعمل فيها بإيقافه عن عمله.

في أوروبا يقدم علماء آخرون شهادات على ما تعرضوا إليه من تهديد وتشويه سمعة، والغريب أن الجهات الرسمية لم تتدخل لصالحهم، بل وقفت عمليا مع الشركات وأصحابها.

يقدم الوثائقي مراجعة لمواقف مجلس دول الوحدة الأوروبية من المبيدات التي أخذت أسماء عدة، ورغم الأدلة العلمية المقدمة لممثليها حول خطرها على البيئة، ومن احتمال تسببها في أمراض سرطانية تصيب البشر، وبشكل خاص الأطفال، فإنهم لم يسحبوا تصاريح سلامة استخدامها، مما يترك ظلالا قوية من الشك حول العلاقة المنفعية بينهم وبين الشركات المنتجة لها.

نظرية الضمانة الإنتاجية.. تجارب زراعية تدحض الأكذوبة

بعيدا عن نتائج البحث العلمي النزيه وتناقضه مع دور اللوبي المساند للشركات، يقدم الوثائق تجارب واعدة تدحض نظرية “الضمانة” الإنتاجية التي تروج لها الشركات، وتؤثر بها على المزارعين الذين يزيدون من شرائهم للمبيدات الكيميائية، وبالتالي يضمن أصحابها الأرباح الخيالية لهم.

يذهب الوثائقي لمقابلة المزارع الإيطالي والخبير الزراعي “لورنزو فورلان” في حقله الذي يرعاه بنفسه، ولا يستخدم مطلقا أي نوع من أنواع المبيدات الكيميائية في تربته. نتائج محصوله تؤكد صحة موقفه وحصافة تجاربه المقارنة أيضا، فقد حرص على إجراء تجارب خاصة به على تأثير المبيدات، فقد قَسَّم أرضه إلى قسمين، ثم وضع مبيدات كيميائية في باطن تربة أحدهما، وترك الثاني من دون مبيدات، وكانت النتيجة مذهلة، فالأرض الخالية من المبيدات كانت نوعية محصولها الزراعي جيدة جدا، وثمارها خالية من السموم، أما الأخرى فقد لاحظ يبوسة تربتها ورداءة نوعية منتوجها.

ويعمل الخبير الزراعي الأمريكي “جوناثان لوندغرين” أيضا فوق أرضه الخالية من الكيميائيات، ويضمن بها ربحا ماديا يعوضه عن خسارته لوظيفته، ويشعره بسعادة غامرة لأنه يقدم نموذجا يخدم الإنسان والبيئية، عكس أصحاب الشركات المنتجة للمبيدات الزراعية الذين لا يهمهم سوى الربح، أما صحة الإنسان والحفاظ على التوازن البيئي الدقيق، فهذا آخر ما يفكرون به.