“الغربان بيضاء”.. رحلة اكتشاف الذات والعقيدة في أعالي جبال اليابان

شاب باكستاني مسلم نشأ على التمسك بالعقيدة الإسلامية، وُلد وعاش طفولته في السعودية، ومع اندلاع حرب العراق في 2003 غادر مع عائلته إلى إيرلندا، وبعد سنوات غادر وحيدا إلى لوس أنجلوس، حيث تحرر من سطوة التشدد الديني، لكنه ظل تائها يبحث عن معنى لحياته، فقرر أن يذهب لكي يتعلم كيف يبلغ مرحلة التسامي الروحاني من الرهبان البوذيين في أعلى قمة جبل هايي في اليابان.

هذه التجربة الشخصية يصورها المخرج الباكستاني الأمريكي أحسن نديم في فيلمه الوثائقي الطويل “الغربان بيضاء” (Crows are White) بحرفية ومهارة عاليتين، منتقلا بين الهاجس الشخصي، والرغبة في المعرفة والوصول إلى نوع من اليقين، وذلك بعد أن مر بتجربة اهتزاز القناعات الدينية، ثم اكتساب الجرأة على مواجهة أبويه بالحقيقة، ثم مواجهة ذاته، وبين رصد وتصوير تلك العلاقة المذهلة عند الرهبان البوذيين، بين تعذيب الذات وإيلام الجسد، وبلوغ الاستنارة المنشودة.

صراع العائلة والزوجة والذات.. أزمة ثلاثية الأبعاد

في البداية كان يتعين المخرج أحسن نديم أن يقضي سنتين في انتظار الحصول على موافقة من رهبان معبد جبل “هايي” لتصويرهم، ثم قضى خمس سنوات أخرى ذهابا وعودة يحاول أن يسبر أغوار الفكرة، وأن يصل إلى قناعات تجعله يتخلى عن تردده وتخاذله أمام نفسه وأمام المرأة التي أحبها وأراد الارتباط بها، دون أن يجرؤ على إخبار والديه خشية أن يفقدهما إلى الأبد، وفي الوقت نفسه، قد يفقد هذه المرأة إن استمر في إخفاء الحقيقة عن أهله، فكيف يمكنها أن تثق برجل لا يستطيع مواجهة ذاته؟

نحن إذن أمام فيلم يعتمد على فكرة البوح، واستخدام المواجهات المباشرة التي تحدث في الفيلم لتحقيق نوع من التطهير والعلاج النفسي. والمخرج أحسن نديم لا يدخر شيئا في سبيل تسجيل تلك الفترة القلقة المعذبة من شريط حياته، الصور الفوتوغرافية، شرائط الفيديو المنزلية في طفولته بالسعودية وهو يلعب مع أبناء الجيران.

وفي الحاضر يتحفنا بالتسجيلات المباشرة للمرأة التي ستصبح زوجته، سواء عبر السكايب أو أمام الكاميرا مباشرة، لقاءاته مع الرهبان البوذيين، الحضور الذاتي أمام المرآة وكأنه يتفحص ذاته من الداخل، مناجاة الذات، تسجيل حفل زواجه وبكائه أمام الجميع بسبب عجزه عن إعلان الزواج لأهله وشعوره بالوحدة، وغير ذلك.

عالم الرهبان.. أجواء روحانية في قمة الجبل الياباني

ينتقل أحسن نديم في فيلمه من عالم الرهبان المقدس فوق قمة الجبل الياباني، وداخل معابد تلك الطائفة من الرهبان التي تعرف بـ”تينداي”، إلى والديه اللذين يتواصل معهما أحيانا عن طريق السكايب، وقد مرت الآن عشر سنوات منذ رحيله عنهما إلى أمريكا، ثم يعود إلى معاناته وشعوره بالذنب نتيجة تخليه عن ممارسة شعائر دينه كما تعلّم في طفولته، ثم رغبته في التحرر من القيود الدينية والاجتماعية المرتبطة بالعقيدة، لكن دون أن يفقد قط تلك الصلة الروحانية معها، فهي تعود للظهور والنمو بقوة كلما لمس عن قرب تقاليد الرهبان البوذيين، ورأى كيف تصبح شعائرهم وسيلة للوصول إلى الله.

في اليابان وسط مناظر خلابة فوق قمة الجبل، ووسط المعابد البوذية، يلتقي نديم عددا من الرهبان الذين لا يبوحون له -كما كان يتطلع- بما لديهم من أسرار، فهم متحفظون يبدون غير مرحبين بوجوده بينهم، طبقا لتقاليدهم التي توجب عليهم عدم إطلاع الغرباء على أسرارهم.

رهبان معبد جبل هايهي في اليابان

وعندما ينجح في الحصول على تصريح بتصوير احتفال ديني، ينسى هاتفه المحمول في جيبه مفتوحا، لكنه يدق فجأة وسط الحفل، مما يفسد الأمر بأسره، فيطردونه خارج الحفل.

“كماهوري”.. رحلة في طريق الراهب البوذي الأسطوري

ظل هدفه الأساسي إجراء مقابلة مصورة مع الراهب البوذي الأسطوري “كماهوري” الذي سمع كثيرا عن تقشفه وزهده، لكن هذا الراهب يمر حاليا بالطريق الشاقة لبلوغ مرتبة تجعله أقرب ما يكون إلى “بوذا” نفسه، وفي هذه المرحلة يتعين عليه الصمت التام، وعندما يقابله نديم يجلس أمامه، يحدق في عينيه دون أن يتمكن من دفعه للحديث ولو بكلمة واحدة.

يخبرنا الفيلم أن بلوغ مرتبة التسامي وصولا إلى الاستنارة الروحية الكاملة، يقتضي أن يقضي الرهبان 90 يوما في الظلام، غير مسموح لهم بالنوم، ثم يتعين عليهم السير يوميا، صعودا وهبوطا، لمدة ألف يوم، ويقول نديم إن ما يقطعونه على أقدامهم يساوي الدوران حول محيط الكرة الأرضية، ومن لا يستطيع إكمال هذه المسيرة الشاقة عليه أن ينتحر.

يتتبع نديم خطوات “كماهوري”، فيصعد معه قمم الجبال، ويهبط سلالم حجرية قاسية، يتابع بعض من يتسلقون الطرق الوعرة في الجبال من الرهبان سعيا وراء الاستنارة، ويرى ونرى معه كيف تورمت وتقرحت أقدامهم.

إنه يحاول أن يفهم معنى تلك التضحية بالجسد التي يمارسها البوذيون، وفي لحظة ما يعترف بأن هناك تشابها بين الديانة البوذية والإسلام في فكرة التقرب إلى الله عبر الصلاة خمس مرات في اليوم، بل ويعقد مقارنة بين تقاليد السجود عند الرهبان وتقاليد السجود في الصلاة الإسلامية.

“رايوشين”.. راعي الغنم المتمرد على طقوس الرهبانية

يقابل نديم بشكل أقرب إلى المعجزة شخصية تنقذ فيلمه من السقوط، وتجعله عملا متوازنا بل ومثيرا للمتعة أيضا، حين يلتقي براهب بوذي شاب يدعى “رايوشين”، يصنع الكتابات والتعاويذ البوذية ويطبعها في صور تباع لزوار المعابد.

هذا الراهب الشاب يجيد اللغة الإنجليزية، ويستطيع التواصل بكل أريحية مع نديم، ويعترف له بأنه قبل أن يصبح راهبا، عاش لمدة سنتين في نيوزيلندا، حيث كان يدرس هناك، كما كان يرعى الأغنام، ويخبره أن رعي الأغنام هو الشيء الذي يحبه، ويريد أن يقضي بقية حياته يمارسه، لأنه يضيف معنى لحياته، وأما سبب التحاقه بسلك الرهبنة فكان من أجل أن يواصل ما ورثه عن والده وجده.

“رايوشين” نقيض تام للراهب “كماهوري”، فهو راهب متمرد على الرهبنة، لا يمانع الهرب مع نديم إلى المدينة، حيث يتناول المثلجات المليئة بالمكسرات والفواكه ويحبها كثيرا. إنه رغم مرحه يعترف لنديم بأنه حاول الانتحار في الماضي، وقد لجأ أولا إلى الاستماع لموسيقى البيانو وإلى زقزقة العصافير، لعلها تهدئ من روعه، لكنها لم تحقق ما كان يصبو إليه.

موسيقى الملاهي.. صداقة عميقة على أنغام صاخبة

يقول الراهب “رايوشين” إن الشيء الوحيد الذي منحه القدرة على تجاوز شعوره بالاكتئاب فهو الموسيقى الغربية الصاخبة من نوع الـ”هارد ميتال”، فيقول إنها جعلته يفرغ طاقة الشعور بالاكتئاب الموجودة في داخله. الرغبة في الصراخ، وهذا الشعور لا شك أنه راجع إلى أنه لا يشعر بتحقق الذات، وأنه سجين في دور لا يحبه ولا يريده، ومع ذلك نراه شخصا مرحا يضحك كثيرا ويتهكم ويعلق تعليقات ساخرة، ويكشف عدم قناعته بالطقوس المرهقة التي يمارسها الرهبان.

الراهب البوذي المتمرد رايوشين أثناء خلوته في الغابة

يعقد نديم صداقة حقيقية مع “رايوشين” الذي يصبح بمثابة مرآة لضميره، يشاركه الرقص تحت دقات موسيقى الهارد ميتال الصاخبة في أحد ملاهي المدينة الليلية، ثم يحدثه عن عذابه وتمزقه بين رغبته في إرضاء عائلته والإخلاص للمرأة التي يحبها، وكيف أنه يخشى أن يصارح أهله بحقيقة أنها “غير مسلمة”، لأنه تعلم منهما أن المسلم يجب أن يتزوج مسلمة فقط.

وهو معنى يتكرر كثيرا في الفيلم، وسوف نسمعه أيضا على لسان والدة نديم ووالده فيما بعد عندما يعود لزيارتهما في أيرلندا، بعد أن يكون قد حسم أمره قرب النهاية، لكي يطلعهما على حقيقة أنه تزوج بالفعل من أمريكية غير مسلمة منذ ثلاث سنوات، وأنجب منها ولدا.

الحقيقة الغائبة عن نديم وعن الفيلم كان ينبغي أن تحظى باهتمام أكبر، هي أن الإسلام يسمح للرجل بالزواج من الكتابية (المسيحية واليهودية).

بذور الرعب.. سلاسل الخوف تقيد الطفل الكبير

تسجل حبيبة نديم “دون” مقطعا مصورا وترسله إليه، وتتحدث عنه وعن كونه يخشى مواجهة ذاته، وأنها لا يمكن أن ترتبط برجل لا يريد أن يواجه نفسه، وتخبره أن مشكلته تتلخص في كونه نشأ على الخوف من والديه، ومن ما زرعاه في داخله من رعب، ومن خشية العقاب الإلهي في الجحيم إن هو خالف التعاليم الدينية.

رايوشين مولع يتناول المثلجات المليئة بالمكسرات والفواكه

يعبر هو عن ذلك الخوف في حديثه إلينا عبر التعليق الصوتي المصاحب للصور، ويروي أنه ظل دائما خائفا مرعوبا بسبب إهماله الصلاة في مواعيدها، أو عدم دخول الحمام بقدمه اليمنى كما تعلّم.

من ناحيته يصبح “رايوشين” الراهب البوذي الوحيد الذي يكشف له عن أفكاره ومشاعره الشخصية أمام الكاميرا، يعبر عن شعوره بالحزن والإحباط، ويتحدث عن الموت باستهانة، ويقول لنديم عندما يحدثه عن خشيته الموت إن كل الناس يموتون، وإنه يريد أن يموت، ويضحك وهو يقول إنه سيذهب إلى الجحيم، وأن نديم أيضا سيذهب إلى الجحيم معه، لكنه سيتوسط له عند بوذا لكي يحميه.

كما يتيح “رايوشين” أيضا الفرصة لنديم للتسلل معه داخل الأماكن (المحرمة) في جوف المعابد البوذية، ويطلعه على الكثير من أسرارها.

“الغربان بيضاء اللون”.. قضايا العقيدة أقدس من الحقيقة

يظل السؤال الكبير الذي يشغل بال نديم ويبحث مع البوذيين عن إجابة له هو: هل يتعين على المرء أن يضحي بالحب مقابل الولاء للعقيدة، أم يتمسك بالعقيدة وما تقتضيه مقابل التضحية بالحب؟

وعندما يوجه السؤال إلى راهب بوذي كبير يروي له قصة خلاصتها أنه لا يجب على المرء أن يناقش العقيدة، بل يجب أن يستسلم للإيمان دون تساؤلات، ويخبره أن معلمه وربيبه كان يقول له ولزملائه إن الغربان بيضاء، ولم يكن أحد يجرؤ على مناقشته في مسألة كهذه.

من هناك جاء عنوان الفيلم “الغربان بيضاء”، أي أن علينا القبول بما يخالف الحقيقة إن تعارضت مع الإيمان.

بعد خمس سنوات يسمح الراهب الأكبر “كماهوري” بمقابلة يجريها معه نديم بعد أن يكون “كماهوري” قد مر بكل مراحل بلوغ الاستنارة الروحية حسب التقاليد البوذية، فيجلس نديم أمامه ويوجه له أسئلة لم يعدها سلفا، ويشرح له الرجل أن لا أحد يبلغ قط مرحلة الاستنارة الكاملة، لذلك يتعين أن يدخر 25 يوما من الألف يوم التي يفترض أن يقطعها سيرا على قدميه، ويذهب للنوم لكي تتاح له فرصة استكمال مهمته الشاقة.

“لن تكون هناك نهاية سعيدة لفيلمك”.. لقاء الوالدين

في الجزء الأخير من الفيلم يعود نديم إلى والديه في أيرلندا، فيفصح لهما عن حقيقة زواجه، ويعترف بكذبه عليهما ويطلب السماح والغفران، يرفض والده يرفض رفضا تاما أن يتسامح في أمر كهذا، ويعتبره معصية كبيرة، أي زواج ابنه من امرأة ليست من دينه.

يبكي نديم أمام الكاميرا، فيحتضنه والده لكنه يطلب وقف التصوير، ويخبره في صرامة “لن تكون هناك نهاية سعيدة لفيلمك”. ومن دون أي تفاصيل، ننتقل في المشهد الأخير إلى ما يؤكد أن حب الوالدين يغلب في النهاية على تشددهما الديني، فهما يذهبان إلى حيث تقيم “دون” زوجة نديم، تقدم لها الأم باقة ورد، ويقبلان دعوتها إلى الداخل. لقد حدثت المصالحة في النهاية رغم كل شيء.

يصور الفيلم كيف أن “كاماهوري” لا يقدم شيئا يفيد نديم في الوصول إلى التسامي الروحاني، وفي مقابلته معه عندما يوجه له نديم سؤالا بشأن الحب والتضحية والعقيدة الدينية، يدق الهاتف فجأة في الحجرة المجاورة (حجرة الراهب)، فيعتذر وينسحب، وهنا تنتهي المقابلة، لقد انعكس الأمر. الآن هاتف الراهب هو الذي أفسد المقابلة، وربما أفسد أيضا فكرة التسامي الروحاني بأسرها.

يبدأ الفيلم بعبارة تظهر على الشاشة تقول “إن الرجل الحكيم يصعد إلى قمة جبل فوجي مرة واحدة، أما الأحمق فهو الذي يصعد مرتين”. فربما في المرة الثانية لن يجد ما يسرّه.