“المعبود المكسور”.. جريمة قتل تلاحق ألمع نجوم الغناء في كولومبيا

كان من أكثر مطربي “الفاليناتو” شهرة عبر الأجيال، فقد استطاع أن يصل بصوته الشجي وكلماته القوية لقلب كل محب لهذا اللون الغنائي، ولم تنحصر شعبيته الجارفة في بلده كولومبيا فقط، بل تعدتها إلى البلدان اللاتينية وصولا إلى أمريكا، حتى وقعت جريمة قتل بشعة اتُهم بارتكابها.

وفي تلك السنوات تغيّرت حياته رأسا على عقب، وأصبح مادة دسمة للإعلام، فما الذي حدث للمغني “دوميديس دياز”؟ وما قصة الصعود الصاروخي لهذه الأسطورة والسقوط الحر؟ وما هي حيثيات جريمة القتل هذه؟

هي أسئلة وأخرى حاول هذا الفيلم الوثائقي أن يجيب عنها.

 

“ديوميديس دياز”.. أًصابع اتهام بالقتل توجه نحو المُغني المُقدّس

في فيلمهما الأحدث “المعبود المكسور.. نهاية ديوميديس دياز” (Broken Idol: The Undoing of Diomedes Díaz) الذي أنتج سنة 2022؛ استطاع المخرجان “خايمي باربوسا” و”خورخي دوران” أن يظهرا عددا من الحقائق التي كانت مجهولة حول ألمع نجوم الغناء في كولومبيا، والذهاب صوب زوايا معتمة لم يتطرق لها سابقا بموضوعية، نظرا لحساسيتها وخوفا من جرح مشاعر الملايين من المعجبين الذين ينظرون إلى “ديوميديس” على أنه مُقدّس لا ينبغي التعرض له بالانتقاد.

لهذا يمكن أن يصنف هذا الفيلم حسب بطاقته الفنية وانطلاقا من طريقة المعالجة التي اعتمدها المخرجان على أنه فيلم جريمة وتحرٍ، وذلك لأنه يبحث عن الحقيقة، ويريد أن يظهر للرأي العام تفاصيل الجريمة المروعة التي راحت ضحيتها الشابة “دوريس أدريانا نينيو” التي اتهم “ديوميديس” بقتلها.

فقد وُجهت له تهم رسمية بخصوص هذا، لكنه نفاها، وقد وقف معه جمهوره وسانده في كل المحطات التي مر بها خلال المحاكمات الشهيرة، حتى إن الجهة المنتجة لهذا الفيلم ممثلة في منصة “نتفليكس” تخوّفت على شعبيتها عندما تطرقت لهذا الرمز الفني الكولومبي، لهذا فقد أوردت في نهاية الفيلم بأن المعلومات والحقائق التي بثتها جاءت انطلاقا من المصادر الرسمية ممثلة في المؤسسات القانونية، أما الآراء الواردة فيه التي أطلقها الضيوف فهي تخصهم وتمثلهم وحدهم، وكأن الجهة المنتجة لا تريد أن تتحمل المسؤولية، وهذا ما يعكس ثقل “ديوميديس” في حياته ومماته

ملصق الفيلم وفيه تظهر صورة دوريس أدريانا نينيو التي اتهم دياز بقتلها

ميراث الصوت الشجي.. ذو الحذاء البالي يستولي على العرش

عاش “ديوميديس دياز” في إحدى قرى مدينة فالدوبار وسط أسرة فقيرة، لكنه ورث من أبيه وجده الصوت الشجي الذي يطرب له كل من يسمعه، وقد كان في بادئ الأمر يتلقى الموسيقى من الفرق المتجولة التي تمر على قريته، إلى أن عزم على الرحيل من تلك القرية والذهاب صوب مدينة فالدوبار كي يبحث عن فرصة فيها.

وحسب أحد المتدخلين في الفيلم، فقد سافر إلى تلك المدينة التي تُعد عاصمة الغناء بحذاء بال، أي أنه مثقوب من كل جهة، وبدأ ينسج علاقاته بروية، فبدأ ينقل رسائل العاملين في الإذاعة ويشتري لهم حاجياتهم، وهذا عن طريق دراجة هوائية لم يكن يعرف حتى قيادتها، لكن الأحلام كانت أقوى، وسجّل أولى أغانيه.

ولأن مقدمي الإذاعة يحبونه فقد بثوا أغانيه، ليحبها الجمهور ويتواصل معه منتجون كبار سجلوا له عددا من الأغاني، لكنه ما زال لا يملك المال الكافي ليظهر بصورة تنافس المطربين الموجودين وقتها من الذين كانوا يظهرون بأسلوب أكثر أناقة وحضورا، لكن “ديوميديس” كان يؤمن بهدفه، لهذا ذهب صوبه على مهل، إلى أن جاء اليوم الذي تغلب فيه على هؤلاء، وأصبح هو الرقم الأول في البلاد.

خبر حول اختفاء دوريس ومعنون فيه بالإسبانية “خرجت في موعد مع ديميدوس ولم تعد”

“إرنستو سامبر”.. رئيس أنقذته الموسيقى من الخسارة

من الأشياء التي تعكس أهمية “ديوميديس دياز” ومدى تأثيره في سير الأحداث الكبرى التي مرّ بها بلده، ما صرح به الرئيس الكولومبي السابق “إرنستو سامبر” (1994-1998) الذي كان من بين ضيوف الفيلم، فقد قال بصريح العبارة إن من لا يستطيع غناء “الفاليناتو” لا مستقبل سياسي له، وقد أدرج الفيلم مادة توثيقية بصرية  لهذا الرئيس وهو يقوم بحملة انتخابية، وقد تأخر “دياز” وقتها عن الحضور، وكاد الرئيس السابق أن يفقد أصوات كل من كان في تلك القاعة وعددهم 60 ألف شخص، لكن الأمل عاد من خلال حضور “دياز” الذي ألهب القاعة ودعم مرشحه.

من هنا تنعكس أهمية هذا المغني في سير المنطلقات السياسية، وفي الوقت نفسه أهمية موسيقى “الفاليناتو” في حياة الكولومبيين، لأنها موسيقى شعبية قديمة موروثة من الأجيال ونابعة من القاع، وهناك من ربطها بفترة “كريستوفر كولومبوس” الذي اكتشف قارة أمريكا.

منذ تلك الفترة تحول هذا اللون إلى تقليد وموروث وتراث كولومبي خالص، ولم يكن “ديوميديس دياز” صاحب موهبة في الغناء فقط، بل كان مُلحنا ومؤلف كلمات، إذ كان بوسعه أن يعبر عن أي حال شخصي أو عاطفي أو مجتمعي يمر به، وكانت تلك الأغاني تلامس قلوب محبيه، لهذا كانوا ينظرون له على أنه أكثر من فنان، ويحبونه بجنون مفرط.

مافيا كولومبيا.. حفلات موسيقية في مزارع المخدرات

مما جاء في الفيلم أن للمافيا الكولومبية يدا طولى في الموسيقى، حتى أنه ليس من حق أي فنان أن يرفض أي دعوة تُقدم له من قبل زعيم مافيا، وهذا ما حدث أيضا مع “ديوميديس” الذي ما كان ليرفض أي دعوة له، حتى أنه أقام عددا من الحفلات لزعماء مافيا مشهورين، من بينهم بارون المخدرات “ميغيل رودريغيز أوريجويلا”، وزعيم كارتل كالي الذي استدعاه كي يقيم له حفلا لزواجه الثاني، وعندما بدأ يغني اقتربت منه الزوجة الأولى لهذا البارون، وأخبرته بأن يغني عن الخيانة، لكن “ديوميديس” رفض، وقال لها إنه لم يعد يغني تلك الأغاني، وهذا دليل على خوفه من هؤلاء.

 

كما أن هناك من يشير إلى أنهم حاولوا حمايته كثيرا من المرات، بل إنه أقام حفلات وسط مزارع الكوكايين التي كانوا يملكونها وسط الأدغال، حتى أن صديقه المقرب والعازف على آلة الكورديون “خوانكو رويس” توفي بعد أن سقطت بهم طائرة صغيرة كانت متوجهة إلى تلك المزارع، وهناك كثير من القصص حول هذا الموضوع.

“دوريس أدريانا نينيو”.. ومن الحب ما قتل

لم يستطع “ديوميديس دياز” أن يحافظ على المكاسب التي حققها، خاصة بعد أن تورط في جريمة قتل الشابة “دوريس أدريانا نينيو”، ورغم ملايين المعجبات اللواتي ينتظرن إشارة واحدة منه فقط، فقد وقع في حبل تلك الفتاة دون غيرها، لهذا بدأ يتصل بها في بيتها باستمرار، لدرجة أن عائلتها غيّرت رقم الهاتف، إلى أن بدأت تجمعه بها لقاءات، وفي إحدى المرات أرسل حراسه الشخصيين إلى بيتها من أجل أن يحضروها له، فقد تركت قبل خروجها العنوان وهويتها، لكن عائلتها تفاجأت باختفائها.

من هنا بدأت رحلة البحث عنها، لتظهر جثتها بعد فترة في إحدى القرى، وقيل إنها تعود لبائعة هوى تسمى “ساندرا”، وقد شهد سكان تلك القرية على هذا، لهذا أُخذت صور لها ودفنت في المقبرة.

وقد نظمت حملة إعلامية على تشويه سمعتها، لكن شقيقها رفض هذا، وقدم شكوى وضغط على الجهات المعنية حتى وافق المدعي العام على استخراج الجثة وإعادة تحليلها، ليذكر التقرير أنها توفيت بجرعة مفرطة من الكوكايين، وقد استمر الضغط إلى أن قبض على “ديوميديس دياز” وأودع بالسجن بتهمة القتل، لكن بعد فترة أطلق سراحه بشروط، خاصة بعد مرضه.

فرار إلى الثكنة وموت خلف القضبان.. نهاية مؤلمة

مع الضغط الإعلامي المستمر قررت السلطات إعادة “دياز” إلى السجن، لكنه فرّ إلى إحدى الثكنات شبه العسكرية لمعارضين، وعاش هناك لسنوات، لكنه عقد تسوية بعد أن حُكم عليه بـ12 سنة، بشرط أن يبقى في سجن مدينته، ويقيمون له إستوديو تسجيل للأغاني، إضافة إلى السماح بدخول حبيباته، وقد حكم عليه ب6 سنوات سجن فيما بعد، ليطلق سراحه بعد قضاء ثلاث منها.

جنازة دياس التي عرفت حضورا غفيرا مما أدى لأن تتدخل شرطة مكافحة الشغب

خلال تلك الفترة أيضا قام العلماء بتحليل الجثة، ليتبن بأن سبب وفاة “دوريس أدريانا نينيو” هو الخنق، لتبقى هذه القصة تضغط على “دياز” لسنوات، حيث فقد صوته تدريجيا، وتعقدت حياته جدا، إلى أن جاء اليوم الذي توفي فيه بسكتة قلبية يوم 22 ديسمبر/كانون الأول عام 2013)، وقد كانت جنازته مهيبة حضرها الآلاف من المعجبين، لدرجة أن شرطة مكافحة الشغب تدخلوا وفضوا الجماهير بالقوة، بعد أن أراد الكل إلقاء نظرة أخيرة عليه.

“المعبود المكسور”.. وثيقة تاريخية للمغني المثير للجدل

أشرك المخرجان “خايمي باربوسا” و”خورخي دوران” في فيلمهما الأحدث “المعبود المكسور: التراجع عن ديوميديس دياز” العديد من الأسماء المهمة التي كانت قريبة جدا من “ديوميديس، من بينهم الرئيس الكولومبي السابق -الذي ذكرنا له أحد السياقات أعلاه- إضافة إلى أسماء اخرى صنع تدخلها فارقا تاريخيا، مثل الملحن “خورخي أونيت” الذي وافته المنية قبل عرض هذا الفيلم، وشريكه عازف الأكورديون “فريدي بيراليا” الذي رافقه في العديد من المحطات الشخصية والموسيقية، والمذيع الشهير “إسحاق ليون”، والمؤرخ “توماس داريو جوتيريز”، إضافة إلى صديقه الذي أواه في مزرعته عندما كان مطاردا من العدالة “خواكين جيلين”، وملحين وحراس شخصيين كانوا طرفا في الجريمة وحُكم عليهم بالسجن لأنهم تستروا على القضية، وابنه “رافياييل سانتوس”، وصديقه القريب “خايمي أراوجو”، وأسماء اخرى لا تقل في الأهمية والحضور عن الأسماء المذكورة.

 

انعكس محتوى فيلم “المعبود المكسور” على قيمته الفنية والتوثيقية، حيث تم الاعتماد على مصادر منوعة من العديد من الأطراف، إضافة إلى الاستعانة بالأرشيف السمعي البصري، وهذا ما أعطى له بُعدا توثيقيا بمصداقية عالية، ومع الوقت تحول إلى وثيقة تاريخية مهمة، لأن المراجع قريبة من المغني، وشاركت معه في العديد من المحطات.

وأكثر من هذا استطاع المخرجان أن يخلقا لغة سلسلة وانسيابية لا يمكن للمتلقي أن يشعر بثقل الوقت وطوله (تبلع مدة الفيلم الزمنية 102 دقيقة). من هنا يظهر الاهتمام بالجانب التقني والفني والجمالي والتاريخي، وكلها منطلقات إن تم استغلالها بطريقة جيدة كما حدث مع هذا الفيلم فسيعمر الفيلم طويلا، وسيتحول مع الوقت إلى مصدر للمعلومة التي تخص حياة هذا الفنان الظاهرة والمثير للجدل.