“قضية باديلا”.. صراعات الشاعر الكوبي المُجرّم بخيانة الثورة الكوبية

أثار الفيلم الوثائقي “قضية باديلا” للمخرج الكوبي “بافل غيرو” جدلا واسعا لم تنته تداعياته حتى الآن، لأن قضيته الرئيسية التي تتمحور حول حرية الرأي والتعبير هي قضية جوهرية مُلحّة تتجدد في كل زمان ومكان، فكيف إذا كان الأمر متعلقا بكوبا، الجزيرة الشيوعية التي تسترخي بجوار أكبر دولة رأسمالية في العالم تعتبر نفسها قِبلة للحريات الشخصية والعامة، وموطنا للديمقراطية الحديثة التي تتفاخر بها بين الأمم؟

يحتاج هذا الفيلم الماكر والجريء الذي كتب قصته السينمائية وأخرجه “بافل غيرو” إلى نبذة تعريفية بشخصيته الرئيسية التي تنوء بالثقل الأكبر لمادة الفيلم وأحداثه الدرامية التي لم يقُل فيها كل شيء، فثمة شيء ناقص أو حلقة مفقودة يستطيع المتلقي الحاذق أن يعثر عليها، أو يتخيلها في أقلّ تقدير، بحيث دفعت الضحية لأن يُعلن ندمه أو يُجرّم نفسه، ويُدينها بأقسى التُهم المعنوية والأخلاقية حتى يسقط في خاتمة المطاف سقوطا أخلاقيا مروّعا؟

وقبل أن نبحث عن هذه الحلقة المفقودة لا بد أن نعرّف القارئ الكريم بالشخصية المركزية التي سرقت الأضواء كلها من الشخصيات الثانوية، وغالبيتهم من أساطين الأدب الكوبي والعالمي، أمثال “غيّيرو كابريرا إنفانتي” و”ماريوس فارغاس يوسا” و”خورخي إدواردز” و”غابرييل غارسيا ماركيز” و”كارلوس فوينتس”، و”بوريس باسترناك”، و”جان بول سارتر”، وآخرين سنأتي على ذكرهم في متن المقال.

هذا البطل التراجيدي أو الضحية التي سقطت من عليائها هو الشاعر والروائي المثير للجدل “هيبرتو باديلا” المولود في 20 يناير/كانون الثاني عام 1932 في بينار ديل ريو في كوبا، والمتوفى في 25 سبتمبر/أيلول عام 2000 في ألاباما في الولايات المتحدة الأمريكية.

“هيبرتو باديلا”.. تصريح يثير عش الدبابير وينهي شهر العسل

أكمل “هيبرتو باديلا” تعليمه الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه، ثم درس القانون في جامعة هافانا، لكنه لم يحصل على شهادة جامعية. عاش في الولايات المتحدة قرابة ثلاث سنوات، وعاد إلى كوبا بعد ثورة 1959، ونشر مجموعته الشعرية الأولى التي تحمل عنوان “الزمن الإنساني العادل”.

عُيّن ممثلا لوزارة التجارة الكوبية في أوروبا، ونالت مجموعته الشعرية “خارج اللعبة” في عام 1968 جائزة الشعر السنوية التي يقدمها اتحاد الكُتّاب الكوبيين، لكن الكلمة المنشورة على الغلاف الخلفي للكتاب تُدينه بوصفه معاديا للثورة، ومناوئا لفكرها الاشتراكي.

وفي السنة ذاتها أصدر مجموعة شعرية أخرى تحمل عنوان “تسلّل”، وقد شن فيها هجوما لاذعا أشار فيه علنا إلى افتقار كوبا “فيديل كاسترو” إلى الحُريات، فهيّجت عليه عش الدبابير، فاعتُقل في 20 مارس/آذار عام 1971 من قِبل جهاز أمن الدولة لمدة 38 يوما، الأمر الذي أنهى شهر العسل بين اليسار الأوروبي المتفتح، وثورة “كاسترو” التي راهنوا عليها كثيرا كنموذج شيوعي متقدم يضع كرامة الإنسان في سلّم أولوياته.

بيان ما بعد الحرية.. إعلان يتهم كتاب القاعة بالخيانة

نشرت صحيفة “لي موند” الفرنسة رسالة موقّعة بأسماء كبار الأدبار والمفكرين، أمثال “جان بول سارتر” و”سيمون دي بوفوار” و”إيتالو كالفينو” و”ماريو فارغاس يوسا”، وآخرين ينددون بمصادرة الحريات، وممارسة القمع ضد المُبدعين الكوبيين، الأمر الذي دفع السلطات الكوبية لإخلاء سبيله في 27 أبريل/نيسان عام 1971، فذاع صيته من جديد محليا وعالميا، وصارت قضيته تُعرف باسم “قضية باديلا” التي هزّت الوسط الثقافي والفني في كوبا، وتعاطف معها المثقفون في أوروبا وأمريكا، من دون أن يعرفوا “الفصل الضائع منها” الذي ظل طيّ الكتمان، ولم يعرف به سوى “باديلا” نفسه وبعض الجلادين الذين حققوا معه وأملوا عليه اشتراطاتهم السرية الغامضة.

وما إن خرج من السجن حتى طلب من أصدقائه المقربين في اتحاد الأدباء والكُتّاب الكوبيين أن يلقي بيانا تحوّل إلى محاضرة طويلة امتدت لأكثر من ساعتين، اتهم فيها نفسه بارتكاب الأخطاء والأكاذيب المُضللة، والافتراءات المشينة المُضادة للثورة الكوبية، كما اتهم عددا من أصدقائه في قاعة الاتحاد بأنهم كان يعارضون الثورة الكوبية في السر والعلن، ومنهم زوجته “بلقيس كوزا مالي”، إضافة إلى “بابلو أراماندو فيرنانديز”، و”سيزار لوبيز”، و”نوربيرتو فوينتس”، و”مانويل دياز”، و”خوسيه ليزاما ليما”، وطلب منهم التراجع عن آرائهم وأفكارهم المناهضة للثورة الكوبية، وإعلان ندمهم كما ندم هو وعاد إلى رُشده وصوابه الذي كان مفقودا ومشوشا، خاصة بعد عودته من أوروبا في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وحتى اعتقاله وإيداعه السجن.

وبينما كان الحضور وجلينَ ومذعورين، لم يكفّ “باديلا” عن تسقيط نفسه وتمريغها في الوحل وهو يُدين أنانيته وعجرفته، ويلعن غروره الأهوج وزهوه الفارغ بنفسه، ويعبّر عن حزنه وأسفه غير المحدود لأنه سقط في الشك، وغادر منطقة اليقين الآمنة المُطمئنة.

ولم يكتفِ بالتشكيك بالكُتّاب الكوبيين فحسب، وإنما شمل وصفه الكُتّاب والفنانين في جميع أنحاء العالم، وكأنه يريد القول إن الناس البسطاء هم أكثر صدقا وإيمانا من المثقفين الذين يمتلكون عقليات مريضة ومشوّهة. ولم ينسَ أن يعتذر للحضور عن ورقة الملحوظات التي دوّن فيها كل المحاور التي يريد الحديث عنها، لكي لا تفوته شاردة أو واردة يريد الحديث عنها في هذه التوبة العلنية.

“شغف أوربينو”.. معارك شخصية تضر بالثورة

يحدّد “باديلا” بداية استيائه من النظام الكوبي بسنة 1966، إثر عودته من أوروبا، فقد استفاد من فرصة أتاحها له الملحق الأدبي “كايمان باربودو” الذي شن من خلاله هجوما قاسيا على الروائي “ليساندرو أوتيرو” بعد نشر روايته “شغف أوربينو” التي انتقدها بشدة، وقال عنها أشياءَ مُفزعة.

باديلا الذي أحب الثورة ثم انقلب عليها وعاد نادما في خاتمة المطاف

بينما دافع دفاعا مستميتا عن رواية “ثلاثة نمور حزينة” للروائي “غيّيرو كابريرا إنفانتي” واصفا إياها بأنها “واحدة من أكثر الروايات الكوبية تألقا وذكاء وعمقا على الإطلاق، واحدة من المساهمات المذهلة والاستثنائية في الأدب الكوبي”.

وحينما نشر الملحق استفتاء عن هذه الرواية كان “باديلا” هو الأديب الوحيد الذي أبدى رأيا مختلفا ومغايرا للجميع، مما يكشف عن تحامله الشخصي على “ليساندرو أوتيرا” الذي وصفه بالعميل السرّي لـ”سي آي أيه” العدو المعروف للثورة الكوبية، وأن روايته هي مجرد تقليد لأسلوب “كاربنتر” و”لورانس داريل”.

ويعترف “باديلا” في هذا الصدد ويقول بصراحة: أردتُ أن أزعج “ليساندرو” لأنني كنتُ غاضبا عليه، لكن انزعاجي منه تحوّل إلى مشكلة لها تداعيات سياسية ضارة بالثورة.

خيانة الثورة.. جريمة التعبير عن الرأي تلتهم أصحابها

تكمن أهمية هذا الفيلم في الوثائق المصورة والمسجلة، فقد أصبحت متاحة للمخرج بعد خمسين عاما من دفنها في أروقة الحكومة الكوبية التي تحفظت على أسرارها طوال خمسة عقود، ومن بينها أحاديث وخُطب الرئيس “فيديل كاسترو” التي تسلّط الضوء على طريقة تفكير الزعيم الكوبي من جهة، وعقلية القادة الكوبيين من جهة ثانية، وما ينجم عنهما من سلوكيات ومواقف قد تؤازر الثورة أو تُلحق بها أضرارا غير مقصودة.

ويمكن أن نشير إلى حديث “كاسترو” في المكتبة الوطنية عام 1961 إثر منع عرض فيلم “بي إم” (PM) الذي أخرجه “سابا كابريرا إنفانتي” و”أورلاندو خيمينيز ليّال” الذي يصوّر بعض المواطنين الكوبيين وهم يمرحون ويرقصون في حانة ليلية بدلا من أن يحملوا البنادق ويحرسوا الساحل الكوبي الذي تطوقه أمريكا من بعض جهاته، فأحدث هذا الفيلم ضجة كبيرة دفعت “كاسترو” للحديث عن الفيلم ورغبته في مشاهدته.

ومن خلال حديث “غيّيرو كابريرا إنفانتي” عن توقّف مجلة “ثورة الاثنين” التي كان يحرّرها، والتي خيبت ظنه في الثورة؛ ظهرت المجلة الذائعة الصيت “الصفحة الأمامية” التي أجرى محرروها عددا من المقابلات مع كُتّاب أمريكا اللاتينية الذين يعيشون في أوروبا، والذين يعبّرون عن آرائهم بشجاعة نادرة.

وفي تلك اللحظة الفارقة عبّر “كابريرا” عن آرائه وقناعاته المخالفة لآراء “كاسترو” وتوجهاته الفكرية والسياسية، فأُبعِد من اتحاد الكُتاب على الرغم من كونه نائبا لرئيس الاتحاد، ولم يتورعوا عن إعلان خيانته للثورة الكوبية.

باديلا مع أحد أصدقائه الثوريين

ويمضي “باديلا” في إمعانه بالندم حينما يقول إنه يجب أن يكون شاكرا للثورة التي سمحت له بأن يكون ممثلا لها في عدة بلدان أوروبية، لكنه على العكس دافع عن مناهضي الثورة وأعدائها، فشعر منذ تلك اللحظة بأنه منبوذ ومرفوض ومُستبعَد، ففقد وظيفته بسبب أفكاره السياسية التي بدأت تشذ عن المجموع.

“طرد خارج الميدان”.. مجموعة شعرية تضخم أنا الكاتب

يتوقف “باديلا” عند مختاراته الشعرية المترجمة إلى الإنجليزية بعنوان “طرد خارج الميدان”، وقد حصلت على جائزة أفضل مجموعة شعرية سنة 1968، وهي جائزة يمنحها اتحاد الأدباء والفنانين في كوبا، لكن الصحف الكوبية لم تنشر هذا الخبر، وأن اللجنة التنفيذية للاتحاد عبّرت عن عدم موافقتها على الأفكار المعارضة للثورة الكوبية.

ورغم الاستياء الحكومي من هذه المجموعة الشعرية، فإن “باديلا” يفتخر بفوزه بإجماع الأعضاء الخمسة، وهم كُتاب من الدرجة الأولى آزروا الديوان وعضّدوه في ذلك الظرف الحرج، وأشادوا بموهبته التعبيرية، كما آزره من بعيد الناقد البريطاني “ج. أم، كوهين” الذي نوّه بأهمية الكتاب من الناحيتين الفكرية والسياسية، فاللجنة ثمنّت النواحي الفنية والإبداعية في الديوان، بينما تمثل الجانب السياسي بانتصار أفكار الشاعر، فاعتبر نفسه شخصا نموذجيا لا يمكن المساس به، الأمر الذي عمّق شعور الأنا المتضخمة لديه.

كما أن المختارات الشعرية تُرجمت إلى الفرنسية في أقل من شهر من قِبل دار نشر “دو سوي”، لكن الدار أضافت جملة غادرة بصيغة استفهامية تتساءل: “هل يمكن للمرء أن يكون شاعرا في كوبا؟”.

يدافع عن “باديلا” عدد من الكتاب والشعراء، من بينهم الروائي الأرجنتيني المجدد “خوليو كورتازار” الذي قال “لم يكن باديلا خائنا ولا شهيدا”، وذلك لإيقاف الحملة ضد كوبا، لكنه اعترف بأن قصائده كانت لاذعة وتشاؤمية، وأنه يخلط بين الشعر ووجهات نظره الشخصية. وذهب أبعد من ذلك حينما قال إنه “أول من دشّن الاستياء والتذمّر والمرارة اللاذعة”. وعبّر عن “موقفه المعادي للتاريخ من خلال تمجيد الفردية في معارضة المطالب الجماعية”، واعتبر الزمن دائرة بدلا من اعتباره خطا مستقيما ينطلق إلى الأمام.

“استفزازات”.. ديوان يتنكر لجميل الثورة وقائدها

يتذكر “باديلا” أفضال “كاسترو” عليه، فيشعر بالإحباط الشديد والندم، لأن الرئيس استجاب لطلبه فورا من خلال عميد جامعة هافانا الذي عيّنه بوظيفة جامعية تناسب مهاراته وتطلعاته، ومع ذلك فقد أعلن عن موقفه المناهض للثورة، وربما تكون قراءته الشعرية التي انضوت تحت عنوان “استفزازات” فيها كثير من نكران الجميل للثورة وقائدها الذي حدب عليه أكثر من مرة، وعيّنه في أكثر من وظيفة.

الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يتحدث لأحد زملائه عن توقيع بيان الاحتجاج لاعتقال باديلا

استعمل المخرج “بافل غيرو” تقنية تقطيع المحاضرة أو الاعتراف الذي قدمه “باديلا” كسرا للملل أو الرتابة، فتارة نسمع “كاسترو” وهو يتحدث عن “الثورة التي لا يمكن أن تُولد من إرادة نزوية متقلبة، وإنما من حاجة الشعب وإرادته الصلبة”.

وتارة ينتقل إلى الروائي والدبلوماسي التشيلي “خورخي إدوارز فالديس” الذي انفتح على عدد من الكُتّاب الكوبيين، مثل “هيبرتو باديلا” و”خوسيه ترينانا” و”مانويل دياز مارتنيز”، وغيرهم من الكُتّاب الذي همّشتهم المجموعات الأدبية الرسمية، فأعرب “كاسترو” عن انزعاجه من هذه اللقاءات لأنه يعتبر كل المناوئين للثورة عملاء ينتقدونه شخصيا ويتعرضون لأفكاره الثورية.

ويبيّن “فالديس” بأن الثورة في ذلك الوقت لم تعترف بالنقد، رغم أنها أعطت هامشا أكبر للمبدعين في أواخر الستينيات، لكنها في أوائل السبعينيات لم تعد تتحمّل التعليقات النقدية التي فاقمتها الأزمة الاقتصادية التي مرّت بها كوبا في تلك الحقبة. كما تأكدت محاولات اغتيال “كاسترو”، فأصبح الانشغال الأمني هاجسا لرجالات الثورة الكوبية.

نقد الذات.. صراع مع الثورة ومن أجل الثورة

يمضي “باديلا” في نقده الذاتي لتطهير نفسه كما يدّعي، ويقول إنه يتحدث الآن بحرية بين حشد من الأدباء والمثقفين بسبب كرم الثورة، ويعلن عن أفكاره ومعتقداته من جديد حتى لو كلّفه الأمر العودة إلى السجن ثانية، وطلب من الرفاق الذين تبنوا قضيته أن يصححوا مواقفهم، ويقوّموا أخطاءهم التي اقترفوها بحق الثورة العادلة والنزيهة، ويعدّها المنجز الأفضل للإنسان الكوبي الذي يدافعون عنه، وأن الضجة الكونية التي أحدثها الأدباء والكُتاب غير موضوعية، لأنهم يعيشون في عوالم أخرى، ولديهم منظور مختلف عن المبدع الكوبي.

فكتب “ماركيز” عن ذلك: لا أعرف ما إذا كان “باديلا” قد أضرّ بالثورة، لكن نقده الذاتي فعل ذلك بالتأكيد.

وقال “سارتر”: لم يستطع “باديلا” أن يكتشف تناقضاته، لأنه يعيش في فضاء خانق.

باديلا أثناء إلقاء بيان الندم وتجريم الذات

ثمة آراء مهمة كثيرة لـ”كوتازار” و”ماركيز” وغيرهما من الكتاب لا مجال للوقوف عندها جميعا، وهناك نقد حاد وجارح لموقف “بوريس باسترناك” الذي فاز بجائزة نوبل، لكنه رفض استلامها، وحفّزه البعض على أن يصبح مهاجرا حقيقيا ويذهب إلى جنته الرأسمالية.

“أتمنى أن أكون ناقدا بنّاء للثورة”.. تناقضات الكاتب والرئيس

تكشف المَشاهد واللقطات الأرشيفية لـ”كاسترو” عن تناقضه الفظيع، فحينما يذهب إلى أمريكا يقول “إن الماركسية لن تنجح في كوبا”، وحينما يسافر إلى موسكو يقول “أنا ماركسي لينيني، وسأكون كذلك دائما”. ويتشدق بمفردات السلام والشغيلة والاشتراكية.

وهو نفس التناقض الذي يمكن أن نلمسه عند “باديلا” حين قال: إنني مُتعَب ولم أنم جيدا الليلة البارحة، لكنني يجب أن أستمر في الاعتراف، رغم أنني لست دقيقا ومضبوطا ومتماسكا في الطرح، وقد بُحّ صوتي لأنني سمّمتُ حياتي وابتعدتُ عن أصدقائي الذين حاولوا أن يقوّموني، لكنني كنتُ مخطئا، وتُهت في خاتمة المطاف، وأتمنى أن أكون ناقدا بنّاء للثورة، لا ناقدا يخونها ويفتري عليها ويشوهها.

وقد أشار إلى رواية لم يرد أن يذكر اسمها وهي “الأبطال يرعون في حديقتي”، وقال إنه مزّقها وسيتلف القصاصات الباقية منها، فهذه الرواية تكشف أخطاءه وعيوبه ومشاكله النفسية التي اكتشفها لوحده في معتقل أمن الدولة. وأن هذه الرواية تُشعره بالخجل، مثلما يشعر بالخزي والعار من قصائده.

“يبدو أنهم حصلوا عليه بطرق مخزية”.. ما وراء النقد الذاتي

يبث “باديلا” الرعب في قلوب الأدباء الحاضرين حينما يقول: إن عددا من الجالسين هنا يشعرون بالخوف حينما يرون أن وجهة نظري تشبه وجهات نظرهم، وحياتي تشبه حياتهم، وأخطائي تشبه أخطاءهم، وأفكاري تشبه أفكارهم، وعيوبي تشبه عيوبهم، وأنهم كانوا قلقين على مصيري قبل بضعة أسابيع، وأن الثورة يمكن أن تعتقلهم لأنها لا تستطيع أن تتحمل هذه المؤامرات المسمومة التي دبرها مثقفون مناوئون للثورة.

وإذا لم تحدث اعتقالات أخرى فهذا من كرم الثورة وقلبها الواسع الكبير. فيذكر “سيزار لوبيز” الذي يشترك معه في الروح الانهزامية والأفكار السلبية عن الثورة، وطلب منه أن يصحح سلوكه، وأشار إلى “نوربيرو فوينتس” الذي كان قريبا من أمن الدولة، وتوقف عند مقولة “خوسيه ليزاما ليما” الذي قيل له إن اعتقال “باديلا” ليس سياسة عامة، فقال “كلا، إنها ضد الجميع”.

واختتمت زوجته “بلقيس كوزا مالي” التي أيّدت أفكار زوجها، وكانت مستعدة لتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها بحق الثورة. تُرى، هل تعرّض “باديلا” للتعذيب والضغط النفسي؟ وهل طلب المحققون في أمن الدولة منه أن يتحدث عن أسماء محددة كالتي ذكرها في متن محاضرته التي أخذت طابع النقد الذاتي الحاد الذي يشبه الاعتراف والتطهير الروحي؟

لم ينكر البعض التهم التي وجهها إليهم “باديلا”، لكنهم اختلفوا معه في بعض التفاصيل الصغيرة في موضوع القناعات الشخصية أو الوقوف إلى جانب الثورة، أو انتقادها تماشيا مع حركة التاريخ الذي يتقدّم إلى الأمام ولا يتقهقر إلى الخلف إلاّ في البلدان الفاشلة.

يصرح “كاسترو” في إحدى الصحف بأنّ “باديلا لم يُعذّب”، ويعلن الروائي الإيطالي “ألبرتو مورافيا” مُجاهرا: أنا لستُ ضدّ “فيديل كاسترو”، ولستُ مع “باديلا”، لكنني ضدّ النقد الذاتي. بينما قال “ماركيز”: إن النقد الذاتي كان خارج القياسات، ويبدو أنهم حصلوا عليه بطرق مُخزية.

“مذكرات سيئة”.. أعمال الأيام الأخيرة في المنفى الأمريكي

ينهي “خوسيه بورتوندو” نائب رئيس اتحاد الأدباء الندوة بالقول إنهم صاروا يعرفون بعضهم بطريقة أفضل هذه الليلة، وأنهم صاروا أكثر إلماما بالثورة الكوبية، وأن الدرس الذي تعلموه هذه الليلة ليس قضية “باديلا” أو الرفاق الذين تحدثوا عن النقد الذاتي، وإنما تعلموا الاحترام وحُب الثورة، وكأنهم لم يعرفوا الثورة أو يحبوها خلال السنوات الماضية.

وتأكيدا لهيمنة الدولة الشمولية التي تتدخل في كل شي، فإنها لا تُعطي مساحة للأدباء والفنانين غير الثوريين، والفائز بالجائزة الوطنية يجب أن يكون ثوريا حقيقيا وشاعرا حقيقيا. تُرى هل كان “باديلا” شاعرا حقيقيا يستحق التكريم من وجهة نظر القادة الثوريين أم لا؟

يأتي الجواب الواضح والصريح طبقا لأوامر “كاسترو” التي قرّر فيها أن ينتقل الشاعر والروائي “باديلا” من وظيفته الجامعية إلى حراثة الأرض وزراعتها، ولم نعرف شيئا عن معاناته في هذه المهنة الجديدة عليه، لكن المخرج يُحيطنا علما بأن الحكومة قد سمحت له بمغادرة البلاد إلى الولايات المتحدة عام 1980، وقام بالتدريس في عدد من الجامعات الأمريكية، ونشر رواية “الأبطال يرعون في حديقتي” سنة 1981، ومختارات شعرية بعنوان “الرجل بجانب البحر”، كما نشر كتاب “مذكرات سيئة”، وتوفي في 25 ديسمبر/كانون الأول عام 2000 في ألاباما، ووُري الثرى في المنفى الذي اختاره بنفسه.

لم يختر المخرج موت “باديلا” كنهاية نموذجية لهذا الفيلم، وإنما دفعته حِرفيته العالية لأن يرصد نحو 200 مواطن غالبيتهم من الفنانين الذين تظاهروا لساعات طوالا أمام مبنى وزارة الثقافة في هافانا تظاهرة عفوية يطالبون فيها بحرية التعبير، وأن يصلوا إلى بيوتهم آمنين مطمئنين من دون أن يوقِفهم أحد من أفراد الشرطة السياسية التي تتربّص بهم عند الزوايا المظلمة.

بقي أن نشير إلى أن المخرج الكوبي “بافل غيرو” قد تخرج في المعهد العالي للتصميم عام 1994، وأنجز نحو عشرين فيلما روائيا ووثائقيا وقصيرا، من بينها “عصر البيزيتا” و”الهندسة الشعبية” و”أوميرتا”، و”الرفيق”، و”كل شيء لها”، و”قضية باديلا” الذي عُرض مؤخرا في مهرجان سان سباستيان في إقليم الباسك.