“بيبا”.. همس صارخ يكشف عورات العنصرية في بلاد الحرية

“لا يوجد شيء اسمه العِرق، هناك فقط جنس بشري، علميا وأنثروبولوجيا، العنصرية هي بناء اجتماعي، لها وظيفة اجتماعية عنصرية”. هكذا تقول الكاتبة والروائية الأمريكية الأفريقية “توني موريسون” عن العنصرية المُتغلغة بعمق في نسيج المجتمع الأمريكي، وذلك من خلال زاوية مغايرة عن المألوف، فالعنصرية نشأت ليس للتفرقة بين البشر بحسب اللون أو الجنس، لكن لخلق أنماط اجتماعية متباينة، تتيح التمسك بالقوة لعنصر على حساب آخر.

تلك المعضلة الشائكة يلتقطها الفيلم الوثائقي الأمريكي “بيبا” (Beba) من سيناريو وإخراج “ريبيكا هانت”، الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي الدولي 2022، وهو أول تجاربها الطويلة بعد فيلمين قصيرين، أحدهما روائي قصير والآخر وثائقي، ويتناول كل منهما مشاكل الأقليات والهجرة والاندماج مع البيئة المحيطة، مما يُشير إلى همّ ما يؤرقها تسعى للتعبير عنه، وفي هذا الفيلم تستكمل رؤيتها المُدججة بالأفكار والرؤى عن المجتمع الأمريكي، لكن هذه المرة بجرأة تكشف عن المستور في الداخل.

يطرح الفيلم عددا من الأفكار التي يُمكن حصرها في إطار قبول الآخر، وكيف ينظر ذلك الطرف المغاير للطرف المماثل على الناحية الأخرى؟ وعبر هذه النظرة البانورامية الفاحصة، يكشف الفيلم عن ما يدور في هذا المجتمع الذي يبدو براقا من الخارج، لكن مع قليل من التبصر يُكتشف زيف هذا البريق، وأن ما نراه لامعا ليس سوى لون آخر يبتعد تماما عن الأبيض اللامع.

يدور الفيلم حول “بيبا” الفتاة الأمريكية السمراء التي تسرد وقائع حياتها المتشابكة مع تاريخ عائلتها، وهو تاريخ يتلامس مع الواقع الأمريكي المعاصر، ويطرح رؤية مغايرة تكشف عن معاناة المهمشين والأقليات، باعتبارها نتيجة تلقائية بعد سيطرة العنصر الأبيض، بوصفه قوة واحدة مسيطرة على أبعاد المجتمع.

“لقد حان دوري”.. افتتاحية ناقدة ومدخل لعالم البطلة

يبدأ الفيلم بلقطة تأسيسية بزاوية مقربة نرى فيها رأس البطلة الراوية والمخرجة كذلك “ربييكا هانت” أو “بيبا” كما تدلل، تنظر للسماء وشريط الصوت يتتابع تدريجيا محملا بأصوات متناثرة لأشخاص عدة يتناوبون الحديث، كل منهم يُلقي بجملة ما، مثلما يقول أحدهم “افهمي هذا، هناك عواقب لكل شئ تفعلينه”، ثم يعقبه صوت آخر قائلا “كنت لطيفة من قبل، لكنك لم تعودي كذلك الآن”.

كل هذه الأصوات سيتضح تلقائيا أنها للأب والأم أو لأشخاص عبروا في حياتها، وهي لا تحمل سوى التوبيخ، في حين أن “بيبا” غير عابئة بما يقال، لينتقل للمشهد التالي، حيث شاشة سوداء لا يظهر فيها سوى جملة واحدة: “لقد حان دوري”.

يتحول الفيلم من هذا المشهد للسرد على لسان البطلة، فتتخذ التعليق الصوتي ركنا أصيلا في تقنية السرد المتلاحم مع الصورة، فتقول “الآن تدخل عالمي، أنا العين، أنا الموضوع، أنا السلطة، نتاج العالم الأمريكي الجديد، يعيش العنف بداخلي”، فهذا التمهيد الذي يحوي بين طياته ليس مدخلاً فحسب لعالم الشخصية الرئيسية، بل يقدم نقدا لاذعا ومباشرا للسياسة الأمريكية التي أدت لما وصلت إليه بطلتنا من تشويه داخلي، ستسعى طوال الفيلم للتحرر منه.

فقد اختار الفيلم أن يبدأ في صلب الموضوع مباشرة، حتى وإن بدت مُقدمته كالمفتتح، لكنه محطة ولوج لمضمون وفكرة الفيلم التي لا تخلو من المباشرة والصرامة في آن، ألا وهي توجيه أصابع الاتهام ليس للسلطة فحسب، بل للمجتمع كله، تُرى ما الذي وصلت إليه بطلتنا لتروي قصتها على هذا المنوال؟ هل تعرضت حقا للإيذاء لهذه الدرجة؟

“يرث كل شخص منا لعنة أسلافنا”.. زمن يكرر نفسه

للإجابة عن الأسئلة السابقة، تستدعي الراوية حياتها منذ بدايتها، وتربط هذا السرد بماضي والديها، وعبر هذه الحكايات المُتشعبة يتشابك الخاص مع العام، الحياة الخاصة والشخصية مع التاريخ العام للولايات المتحدة، ليبدو الفيلم كله مُمسكا بمفاصل الماضي مرورا بالزمن المعاصر وصولا للواقع الحاضر، في مزيج يجمع الأزمنة الثلاثة معا، يصهرهم معا معلنا حقيقة واحدة، هي أن الزمن يكرر نفسه، فإذا كان الماضي يحفل بالممارسات البغيضة للتفرقة بين البيض والسود، فالحاضر كذلك لا يختلف كثيرا، فالممارسات في ديمومة مستمرة، لكن الاختلاف الوحيد هو أنها مستترة، وكلما ابتعد الشيء عن الأعين تعاظم مفعوله.

بيبا ترتدي زي الناشطة الحقوقية هاربيت ترومان

نسج السيناريو القصة في إطار من أربعة فصول، كل فصل يُمسك بمرحلة ما، سواء من الماضي البعيد أو القريب، وكلما توالى السرد تتضح الصورة أكثر فأكثر عن مجتمع لا يظهر منه سوى ذاته المتضخمة بالأنا لكل ما هو أبيض البشرة، بينما الباقون يتوارون في الخلفية فاقدين لأدنى الحقوق.

تقول الراوية “أحمل ألما قديما، وأصارع نفسي لفهمه، يرث كل شخص منا لعنة أسلافنا، لكن يمكننا وضع نهاية لهذه الدائرة، عبر محاسبة أنفسنا باستمرار”، وعبر الفصول الأربعة سنرى “بيبا” تلتقط ما تراه عيناها، ليس ما تقتنصه عدسات المصورين ووكالات الأنباء عن العنصرية، لكنها رؤية أخرى من الداخل، من الزاوية الأخرى المفعول بها، وهنا تكمن قوة الفيلم ومدى تأثيره.

“هل تظن أمريكا بحاجة للسود؟”.. أكذوبة الحلم الأمريكي

يبدأ فصل الفيلم الأول المعنون باسم اللعنة، عن الأب الأسود الدومينيكاني الأصل الذي يروي ذكريات وصوله في ستينيات القرن الماضي إلى مدينة نيويورك، ولافتة الترحيب تُزين الشوارع حينها، ويحكي أنه هرب من جحيم الدكتاتورية في بلده إلى مدينة الأحلام وقتها نيويورك، حيث الحلم الأمريكي.

لكنه مع مرور الأيام والسنوات يكتشف أن هذا الحلم ما هو إلا أكذوبة إعلامية، فالأب الهارب من العنصرية والتطهير العرقي، يواجه في المدينة الجديدة العنصرية ذاتها، لكن بوجه أكثر بشاعة، إذ يقول: كنت مُحبطا عند وصولي إلى الولايات المتحدة، فقد وضعونا في مدينة بيدفورد، بدت كمدينة محترقة من الحرب العالمية الثانية.

وعند استقباله من السلطات المعنية وضع بهذه المدينة بوصفه مهاجرا جديدا، مما يكشف عن كيفية التعامل مع الأقليات والمهاجرين، ويتوافق مع مقولة صديقته المستنكرة: هل تظن أمريكا بحاجة للسود؟

ثم ينتقل السرد للأخت الكبرى “راكيل”، فتحكي عن تعرضها للطرد من إحدى الحدائق العامة المُخصصة لأصحاب البشرة البيضاء، ومن ثم توحي إلى “بيبا” بارتداء زي “هاربيت توبمان” الناشطة الحقوقية للدفاع عن السود في القرن التاسع عشر، أثناء الحفل التنكري في المدرسة، وكأن الأختين تثأران لذاتيهما المنسحقتين بفعل العنصرية. تلك الرغبة التي ستظل ملازمة للبطلة، ليس بحثا عن الانتقام، بقدر ما هي بحث عن الحقيقة والأصول والجذور التاريخية، فكلما تعمقت في إدراكها ازداد إحساسها بذاتها.

حلم المساواة.. مطاردة السراب في المجتمعات المشوهة

“تعاركت مع أكيم الطفل الجامايكي في المدرسة لمناداتي بالسوداء”. بهذه الجملة تستكمل “بيبا” السرد، فإذا كان الفصل الأول عن الطفولة والجذور، فالفصل الثاني “غسيل العقل” هو عن بدايات الشباب وانفتاح الفكر على الفهم والإحساس بالذات وإدراكها، هذا الإدراك الذي دفعها لزيارة الطبيب النفسي، ولم تتعافَ وتُشفَ من الأمراض والشوائب النفسية، إلا بعد قبولها في كلية بارد في نيويورك لدراسة الفنون، وهناك بدأت تسعى لاكتشاف ذاتها على نحو أكثر عمقا، بعد أن ظلت مشوهة لفترة ليست بالهينة بفعل التفرقة العنصرية التي عانت ولا تزال تُعاني منها، مما يُشير صراحة لمسؤولية المجتمع عن ما وصلت إليه.

مشهد من الفيلم للشابة بيبا تجلس في منزل أسرتها

تبحث “بيبا” في هذا الشق من الفيلم عن المساواة بينها وبين أقرانها من أصحاب ألوان البشرة المختلفة، لكنه بحث أشبه بالسراب، فكلما تداخلت أكثر مع محيطها ابتعد حلم المساواة في تناسب طردي، لكن هذا السراب يدفع أكثر نحو التمسك بالأصل، مما يجعل زملائها يطلقون عليها اسم “فريدريك دوغلاس” الناشط الحقوقي ضد العبودية في القرن التاسع عشر، فإذا كانت محاولات الاندماج مع المجتمع التي سعت إليها للانصهار بصورة أكبر، فإن هذا السعي يُساهم في خلق موانع دفاعية لمجابهة العنصرية والتطرف.

هذا الفصل من الفيلم يُعد الأقوى في مسار الحكاية، فعبره سينطلق الفيلم في زاوية مغايرة،”بيبا” في الماضي تتوارى وتخجل من نفسها لأصولها الأفريقية، أما المرحلة الجديدة بعد تمام الفهم والإدراك فستدفعها للمواجهة والتعبير عن هذا الغضب المكتوم بداخلها.

“احتلال الزومبي للعالم”.. نظام مصمم لأكل اللحوم السوداء

صوت المعلق التليفزيوني والنشرات الإخبارية عن حادثة المواطن الأمريكي “جورج فلويد” هو المسيطر على الفصل الثالث من الفيلم الذي اختارت المخرجة جملة “احتلال الزومبي للعالم” عنوانا له، والدلالة واضحة، وكأن أصحاب البشرة البيضاء من آكلي لحوم البشر أصحاب البشرة السمراء بالطبع.

عند هذه النقطة يصل السرد للواقع المعاصر، وضربةُ البداية كانت من الحادثة العنصرية الشهيرة التي أودت بحياة “جورج فلويد” على يد رجال الشرطة، وغيرها من حوادث العنف الممنهجة، تنطلق الكاميرا معتمدة على المشاهد الأرشيفية المصورة حينها، تُصور المظاهرات والاحتجاجات على مقتل الشباب الأسود، وكأن هذه الصور والمشاهد تسخر من كل ما يقال عن حقوق الإنسان والديمقراطية الأمريكية، بل إن “بيبا” تندفع في وصلة هجاء لهذه المنظومة قائلة “لا شيء مُشرّف في محاولتك الاندماج مع النظام المُصمم لتدميرك”.

على الرغم من الحدة التي غلفت السرد في هذا الفصل، فإن جرعة الحميمية المنطلقة منه ساهمت في تخفيف هذه الحدة، وجعلت المتفرج يدخل أكثر فأكثر في عالم “بيبا”، فالفصول السابقة استخدمت الاستعارات والرموز للتعبير عن وضعها المجتمعي، لكن هنا الإفصاح عن الداخل المعذب واضح وصريح، ويتناسب مع الأوضاع العامة الحالية التي تتخذ العنف منهجا للتعامل، وبالتالي لابد من المواجهة، بحثا عن واقع أفضل، بحسب رؤيتها.

“النداء من داخل المنزل”.. دفاع شرس ضد السيادة البيضاء

بعد الانتهاء من الدراسة الجامعية، تعود “بيبا” إلى منزل العائلة في نيويورك، فتستعيد علاقتها مع أسرتها بعد هجرة سنوات الدراسة، ومن هذا المنطلق يأتي الفصل الرابع المعنون باسم “النداء من داخل المنزل”، إذ تعود الفتاة العنيدة المثابرة “بيبا” إلى منزلها، لكن هل هي الشخصية ذاتها؟

تكشف المشاهد المتوالية عن شخصية أخرى، منفتحة على العالم، ذات أسلحة جديدة تُعينها على المقاومة، بعد أن كانت الشرنقة على الذات والانسحاب هما الحل الأمثل، أصبحت شخصية قادرة على السعي لنيل حق المساواة، والبعد عن كل إهانة ثم ردّها في حينها، مثلما نراها في أحد المشاهد وهي تتناقش مع زملائها عن تاريخ العبودية، فنجدها تصرخ وتدافع عن نفسها وتذود عن أصحاب البشرة السمراء ضد السيادة البيضاء، مثلما تُطلق عليها.

منذ البداية يُخبرنا السرد على لسان البطلة بأنها عنيدة، ترفض الطعام المقدم لها فتضعه بين ملابسها وتلقي به بعيدا، لا تتوانى في الدفاع عن كيانها، وقبل الذود عنه يجب فهم الأسباب والدوافع المنطقية لما يحدث، ولأن المنطق يندثر عندما يتعلق الأمر بالكراهية والعنصرية، فإنها تندفع هي الأخرى في رحلة طويلة بحثا عن الأصل، لكن نبتة البداية ينبع منها الأصل ويتفرع، لذا تبدو عودتها للمنزل منطقية، في عالم عدواني تخلو أفعاله من المنطقية والمعقول.

همسات صارخة.. عندما تضع المخرجة ذاتها في الإطار

لكل فيلم وثائقي أسلوبه الخاص في رواية القصة أو القضية التي يتناولها، وفي هذا الفيلم تعمد المخرجة إلى الأسلوب الكلاسيكي للسينما التسجيلية، حيث الاعتماد الكلي على التعليق الصوتي، والصوت هنا للمخرجة ذاتها وهي البطلة الرئيسية وصاحبة الحكاية.

المخرجة ريبيكا هارت أثناء المؤتمر الصحفي في مهرجان برلين للإعلان عن الفيلم

وبذلك يصبح الفيلم وثيقة ذاتية أشبه بالسيَر والمذكرات، فالكاميرا بديل عن القلم في السرد، وهذا أحد أسباب حميمية الفيلم، فالشخصية الرئيسية “بيبا” هي المركز والمحور، وباقي الشخصيات تدور في فلكها، تروي ما تعانيه من ويلات العنصرية من إطار منظورها.

لذا فالفيلم ذاتي وشخصي، رغم عالمية الموضوع، وهنا يكمن سبب تفرده، المزج بين الخاص والعام بأسلوب سلس جذاب يبعد عن أي تعقيدات لإبراز العضلات الفنية، وقد لجأت المخرجة إلى إضافة لقطات ومشاهد مصورة لها، وهي بين أحضان الطبيعة، بين كل فصل وآخر، لتتخذها عنصر توكيد على كونها تنتمي للطبيعة وابنة شرعية لهذا الوجود الذي تتشكل منه كل الألوان.

الفيلم هامس يبتعد عن الزعيق، رغم أن تلك الهمسات تصل للآذان وتُندد بالتفرقة بين أبناء الجنس الواحد، لكنها همسات بارقة صارخة، تعرف طريقها جيدا وتُدرك هدفها المنشود، بحثاً عن الحرية والخلاص، فهل وصلت تلك الهمسات؟ أم ضلت طريقها بين أروقة السياسة ودهاليز السلطة؟